أضحى التنافس العالمي في السّنوات الأخيرة، قائمًا على المعرفة والإبتكار، حيثُ تركّز العديد من البلدان أهدافها التعليميّة على هذا الجانب، وقد أثبتت الكثير من الدّراسات أنّه يجب على الطّلاب أن يتجاوزوا شهادة الدراسة الثانوية دون أن يكتسبوا المعارف الأكاديمية فحسب بل أيضًا القدرات المعرفية والداخلية والشخصية، وهذا يعني أنه يجب عليهم الإنخراط في منظومة تعلّم أعمق. ومن هذا المنطلق يمكننا القول أنّ التعليم في الوطن العربي أو في العالم ككل له دورٌ بارزٌ في تحقيق التنمية، فلا أحد يشك في دور التربية و التعليم في الدفع بحركة النمو و التطور إلى أفق التقدم، وخاصّة ونحن في عصر الثورة المعلوماتية أي عصر الثورة التعليمية، حيث غيرت التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال من طريقة تواصلنا مع الآخرين، فلم يعد الحضور الشخصي ضروريًّا للتّواصل مع مرسلي أو مستقبلي المعلومات المتعلقة بالأنشطة التربوية، التعليميّة والبحثيّة كما تغيّرت طريقة تعاملنا مع مواد هذه الأنشطة إستقبالاً، ومعالجة وتخزينًا، توزيعًا، وذلك بالإتجاه الإيجابي.

إشكالات التعليم العربي

يعاني العالم العربي اليوم أزمة خانقة وأوضاع مأساويّة في مجال التّعليم، ورغم أنّها تختلفُ من بلدٍ إلى آخر، إلاّ أنّها تكادُ تكون واحد، فمثلاً بالنّظر إلى مؤشّر جودة التعليم الصّادر عن المنتدى الإقتصادي العالمي لعام 2017، الذي اعتمد على 12 معيار هي: المؤسسات والابتكار، بيئة الإقتصاد الكلي، التعليم الجامعي، التدريب، الصحّة، التّعليم الأساسي، كفاءة سوق السلع، كفاءة سوق العمل وتطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، تطوير الأعمال... فإنّنا نلاحظ تراجع كبير في ترتيب الدّول العربيّة حيث جاءت تونس في المرتبة 84 عالميًّا في مؤشّر جودة التعليم الجامعي، والمرتبة 86 في جودة التعليم الإبتدائي، واستثنى التقرير 6 دول عربيّة نظرًا لإفتقارها جودة التعليم وهي: سوريا، السّودان، العراق، اليمن، ليبيا والصومال... فيما إحتلت الجزائر المرتبة 11 عربيًّا على المستوى الجامعي والإبتدائي، وجاء المغرب في المرتبة 101 في التّعليم الجامعي و110 على مستوى التّعليم الإبتدائي. في حين تصدّر قطر قائمة الدّول العربيّة من حيث جودة التعليم الإبتدائي، والرّابعة عالميًّا فيما يخص جودة التعليم الجامعي.

ويرجع هذا التدني في جودة التعليم إلى عوامل عدة أهمها مناهج التعليم وأساليبه القائمة على التلقين والحفظ دون التحليل والفهم، وغياب المواد التي تنمّي الحس النقدي والتفكير لدى الطلبة، ولا ننسى أيضًا سياسات التعليم الفاشلة كالترفيع التلقائي للطلبة، وكذا الميزانيات المخصصة للتعليم في العالم العربي لا تزال غير كافية وبعيدة عن التكافؤ مع الميزانيات المخصصة للقطاعات الأخرى، فعلى سبيل المثال أكد تقرير دولي صادر عن مرصد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية تراجع الإنفاق الحكومي على التعليم في الأردن منذ العام 2000 وحتى الآن، حيث إن الإنفاق الحكومي كان يصل إلى نحو 13% في ذلك العام لينخفض إلى زهاء 9% العام 2010. إضافة إلى عدم اهتمام هذه الدول بالبحث العلمي، فهو قياسا بالناتج المحلي الإجمالي يقل عن 0.8% في المغرب وتونس، وعن 0.5% في مصر والأردن، وعن 0.2% في السعودية والجزائر والعراق و الكويت 1.

وقد دفع تدني جودة التعليم وغياب الرعاية والاهتمام بالمبدعين والمتفوقين من الدولة، إضافة إلى عدم توفر فرص عمل للخريجين، العديد من الطلاب إلى الهجرة إلى الدول الغربية، لطلب العلم أو للعمل بعد التخرج، زد على ذلك تعيين معلمين غير مؤهلين وليس لديهم كفاءة لتدريس الطلبة ولا سيما في الصفوف الدنيا التي يتعلم فيها الطالب المهارات الأساسية من قراءة وكتابة وحساب، أو يتم إجبار معلمين على تدريس مواد غير تخصصهم الجامعي، ولا يمكننا الحديث عن التعليم في العالم العربي دون الحديث عن المدارس وضعف بنيتها التحتية، حيث لا يتوفر في بعض المناطق عدد كاف من المدارس مما يجعل المدارس تداوم فترتين صباحية ومسائية، كما يعد التسرب المدرسي أحد أكبر المشاكل التي يعاني منها التعليم في العالم العربي، ولهذا التسرب أسباب عدة من أهمها تدني التحصيل الدراسي للطلبة وصعوبات التعلم، وكذلك العامل الاقتصادي واضطرار هؤلاء الطلاب لترك المدرسة للعمل ومساعدة أهلهم في توفير متطلبات الحياة.

ومن المشاكل الرئيسية أيضاً والتي يعاني منها التعليم في العالم العربي الأمية، فمثلاً يبلغ معدل الأمية في مصر للسكان -15 سنة فأكثر-29.2% منهم 20.5% للذكور مقابل 38.1% للإناث وتحتل مصر حسب تقرير التنافسية العالمية المركز الأخير عربيا ً و116 من بين 140 دولة على مستوى العالم. بينما تحتل المركز139 –أي قبل الأخير- عالميا في جودة التعليم الأساسي 2

كانت هذه صورة مختصرة عن أبرز ما يعانيه العالم العربي من مشاكل في مجال التّعليم، إضافة إلى مشاكل أخرى ناتجة عن خصوصية كل بلد، كتدمير المدارس واستهداف المعلمين والطلبة وتهجيرهم من بلادهم في البلاد التي تشهد حروباً وصراعات كسوريا والعراق واليمن، وكالصعوبات التي يواجهها الطلاب والمعلمون في فلسطين في سبيل الوصول إلى المدارس نتيجة الحواجز التي يضعها كيان اليهود، وغيرها من المشاكل التي لا يتسع المقام لذكرها. في خضم هذه الدّراسة فإنّ الإشكاليّة التي يجبُ طرحُها هي: ما هو السبيل لتحسين هذا الحال والنهوض بالتعليم في العالم العربي؟

التّعليم الإلكتروني

في ظلّ التقدم التكنولوجي الدراماتيكي المذهل في تكنولوجيا المعلومات، وفي شبكة الشبكات العالمية الإنترنت خصوصًا، صار تبديل العقليات ضرورة ملحّة يفرضُها الواقع على كلّ الدّول، فكل عقل يتشبث بالمناهج القديمة وبالأساليب البالية سوف يفشل في مواجهة هذا العالم الجديد بكل أبعاده. لذلك فإن مهمتنا الأساسية اليوم هي إصلاح العقول وإعادة صياغة وتشكيل شخصية الإنسان العربي المسلم، لتنهض على أسس دينية وقِيَمِيَّة وحضارية حقيقية، وتبني إستراتيجية شاملة متكاملة تحقق الغايات السامية التي نسعى إليها.

إنّ للتعليم الإلكتروني أهميّة كبيرة في توفير فرص تعلم أعمق. حيثُ كشفت مؤسسة "راند" من خلال دراسة بحثية صادرة عام 2017 بعنوان "التربية والتعليم: دور التكنولوجيا الرقمية في التمكين من تطوير المهارات لعالم مترابط" أشرفت عليها مجموعة من الباحثين والخبراء في مجال التعليم تتكون من أكسال دوفو وجولي بيلانجيه وسارة غران كليمان وكاتريونا مانفيل، عن أهميّة الدور الذي تلعبه التكنولوجيا الحديثة في توفير فرص تعليم أوفر حظًّا، لكن هل يعني هذا الإنفلاش في دور التكنولوجيا الرقمية أن دور المعلم في طور الاضمحلال والتراجع أمام زحف أساليب التعليم الإلكتروني؟

بالطّبع لا، فقد أكّدت في المقابل أنه رغم التطور الذي يمكن أن تحدثه هذه التكنولوجيا الرقمية، فإن المهمّة التي يقوم بها المعلم تظل أساسية لجهة الدور الموكول له في الإرشاد ومتابعة الطلاب وتنمية مهاراتهم. ويسلط البحث في هذه الدراسة الضوء على تأثير نمو التكنولوجيا الرقمية في التعليم وكسب المهارات. ويقول المؤلفون أنّ "التكنولوجيا ليست مسيطرة أكثر على حياة الناس فقط، لكن استخدامها المتنامي سوف يؤثر على المناهج الدراسية للمدارس والمهارات الرقمية الجديدة في الوظائف والاستخدام المتغير للخدمات". فالصيغة المثلى للتعليم تتمثل في التزاوج بين أساليب التعلّم التقليدية والأساليب الإلكترونية.

ممّا لا شكّ فيه أنّ الثورة التقنية عظيمة الفائدة لمن يستخدمها في ميدان تعزيز الكفاءة المهنية وتوسيع الجوانب المعرفية والانفتاح على ثقافات العالم التي كانت عصيّة على التناول في الحقب السابقة؛ غير أن التعامل المعقلن مع هذه التقنيات يتطلب تدريبًا منضبطًا وقدرة على الإمساك بلجام الرغبات المنفلتة، وذلك أمر يتعذر بلوغه غالبا مع الفئات العمرية الصغيرة أو محدودي الرؤية الذين تستهويهم حبائل الإغواءات الصورية والمتع المحظورة؛ لكن التأثير الأعظم تدميرًا لتلك التقنيات يكمن في أن الاعتياد على التعامل التلقائي غير الهادف معها ينقلب عادة إدمانية تنشأ معها ترتيبات محددة من الاشتباكات العصبية الدماغية التي تميز الحالات الإدمانية؛ الأمر الذي ينتج عنه بالضرورة فقدان جوانب مهمة من الإمكانيات الدماغية التي يمكن توظيفها في عملية التعلم وخلق آفاق جديدة أمام الإنسان ما كانت متاحة له سابقا، لذا وجب دائمًا ترك فسحة لفك الارتباط مع العالم الرقمي، وتوفير فرصة لتعلّم قدرات عقلية مختلفة بعيدًا عن النمطيات الرقميّة السائدة.