هناك أناس يمرون على الأحداث أو تمر عليهم الأحداث دون أن يتعرضوا لها، ولقد جاء في الأثر: (ألا إن لربكم في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها، فلعلها أن تصيب أحدكم فلا يشقى بعدها أبدا)[1].
هكذا الحال، رمضان نفحة ربانية، تتم فيه صناعة الإنسان، لكن ليس أي إنسان، فقط من أراد.
جاء رمضان ليربينا على كبت الشهوات، خفض الجناح، لين الجانب، إطعام الطعام، الطاعة التامة، الشعور بالغير من الفقراء والمساكين، وحدة الأمة، وحدة الشعائر ووحدة المشاعر، وغير ذلك الكثير، لكن يبقى السؤال المطروح: هل حدث هذا معنا؟
- على مستوى الأفراد: هل نجد لينا في المعاملات وكبتا للشهوات؟
- على مستوى الأمة: هل نجد وحدة؟
رغم أن رمضان هو نفسه، لكن معظم الناس ليسوا على قدر الحدث، إذن، هل نغيّر الشهر أم نغيّر الناس؟ لحل المشكلة لا بد من إدراك حقيقة تاريخية تخصهما معا.
بداية، نستذكر أول رمضان يمر على المسلمين في العام الثاني من الهجرة -أي بعد خمسة عشر عاما من البعثة-، حدثت فيه غزوة بدر العظيمة يوم السابع عشر، حيث أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج والجهاد في سبيله (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ)[2]، هلّا سألنا أنفسنا.. لماذا يخرجون في أول شهر يفرض فيه الصيام؟ لما لا ينتظرون انتهائه؟ لماذا لم يُقَدَّم الصوم على الخروج؟ لما لا يكتفي الوحي بتدريبهم على الصوم في أول عام له؟
في الواقع، رمضان لم يكن هدفه الصيام فحسب، فهو مجرد وسيلة لا غاية، وقد أدرك المسلمون الأوائل هذه الحقيقة، حققوا المطلوب في سبعة عشر يوما فقط ثمّ خرجوا.
يأتي رمضان لمساعدتنا على التميز، فهو شهر مخصوص وعبادة مخصوصة للمسلمين، إنّ مجرد شعورنا بالتميز عن غيرنا بين يدي الله، يزيدنا شعورا بالقرب منه سبحانه.
أيضا، لتحقيق الترابط والوحدة، تأتيك زكاة الفطر قائلة: صيامك معلق ما لم تخرجني! أكنت فقيرا أو غنيا ستخرجها. الكل يبادر بإعطاء غيره، حتى الفقراء يعطي بعضهم لبعض، زالت الفروق، والكل منفق وقريب لغيره.
يأتي رمضان ليساعد على علو الهمة والارتقاء بالروح، أنت ملزم بالصوم في هذا التوقيت دون غيره، ربما تؤخر صلاتك يوما، أو تؤجل صدقتك، أما الصيام فلا يمكنك أبدًا، هي تربية على الطاعة التامة لله والتعلق به.
يساعد على رد المظالم ووضع الحقوق (مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه)[3]، فعلى الصائم أن يراقب نفسه ويراقب حقوق غيره، متحريا ما يفعل وما لا يفعل.
الجيل الأول تربوا -نفلا- على كل ما سبق طيلة خمسة عشر عاما، ثم عاشوها بصدق لما فرضت عليهم، تميزوا لما نطقوا بكلمة التوحيد في مجتمع مشرك، ولما ترابطوا بتحرير الغني لرقبة الفقير، علت أرواحهم حينما صبروا على الأذى منتظرين الثأر من المشركين والله تعالى يخاطبهم: (اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[4]. أدوا حقوق الغير وهم تحت وطأة التعذيب، ردوا الأمانات وأدّوا واجبهم تجاه مواليهم وأهليهم.
إذن، رمضان يأتي لتعزيز السلوك الذي كان قبله سواء أكان ايجابيا أم سلبيا، ويمنحك بركاته إن امتثلت، يأتي ليثبتك ويدعمك ويبشرك، حينما يجدك مستبشرا مطمئن النفس.
ختاما، نحن بحاجة إلى عزم جديد، نجعل رمضان تدريبا يدفعنا إلى الأمام، فلا ننتكس بعد انقضائه، إذ تفتح الأبواب، وتقسم الأرزاق، وتظهر الكثير من المعينات على الطاعة والترابط والتميز، فهلا أقبلنا.. هلا اغترفنا؟ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[5]
كيف سيتميز الفرد إن غابت بصمته في أسرته ووطنه؟ كيف يتحقق الترابط إن كانت صلاة الجماعة لا تجمع أفراد الأسرة؟ كيف تحل البركة والأوقات مهدورة  في إعداد الطعام وسهر الليالي؟ كيف نتعلم أداء الحقوق بينما تتحمل الأم كل الأعباء دون مشاركة الزوج ولا الأبناء؟ وكيف نعزّز وحدة الشعور في حين لا نسأل عن الأيتام والفقراء في محيطنا لنُطعمهم؟
من أراد التغيير فليُعِن رمضان ليترك بصمة في بيته ووطنه، هو فرصة لنتقارب من جديد.


[1] حديث رواه الطبراني، ضَعّفه السيوطي والألباني.
[2] سورة الأنفال، من الآية 5.
[3] رواه البخاري
[4] سورة الحجر، الآية 94.
[5] سورة النساء، من الآية 27.