مع بداية رمضان، أجرى موقع «عمران» حوارًا خاصًا مع الدكتور جاسم سلطان، وقد اقتصر الحديث عن ميزات الشهر وسُبل حفاظ المسلم على فاعليّته وحسه الرمضاني طيلة السّنة، إضافةً إلى تشخيص أبرز العِلّل وإيضاح منهجيّة الوعي الحضاري بالقرآن.

وإن كان ضيفنا غنيّا عن التعريف، فإنّه يحسُن بنا تذكير القارئ الكريم بأنّ الدكتور من المفكرين الذي عكفوا على دراسة قضية النهضة قبل قرابة العشرين عامًا في محاولات جادة لترتيب العقل المسلم وتزويد الشباب بأدوات قيادة النهضة.

عمران: بدايةً، نهنئكم ومُتابعي موقع "عُمران" بحلول شهر رمضان المُبارك، جعله الله شهر خيرٍ وتوفيقٍ، مع بدايات هذا الشهرِ الفَضيل الذي يحمّل دلالاتٍ واستثناءات مُقارنة بباقي الشهور، علاوة على تميّزه المخصوص في تراتبيّة العبادات، فيما تتمثّل خصوصيّة رمضان بالنسبة للأفراد والأمّة؟

د. جاسم سلطان: القرآن واضح في تبيان غاية الشهر الفضيل، وهي إحياء التقوى في النفوس. فعند الصيام يقوم الإنسان بضبط نفسه والامتناع عن إيذاء الخلق، كما يتعهد بإحسان العمل، ومن أراد معرفة نجاحه في اجتياز الشهر فلينظر في عائده بهذين المعيارين.

عمران: يأتي رمضان ليُعالج بدرجةٍ ما "أزمة السلوك"، فكثيرًا ما يتطبّع المسلمون بطّباعٍ إيجابيّة سواءً في العبادات أو المُعاملات، وسلواهُم فيها "اللهمّ إنّي صائم"، لكن كلّ ذلك يبقى مقتصرًا على شهرٍ واحدٍ،  كيف تقرأون هذا التحوّل؟

د. جاسم سلطان: عدم استمرار فاعلية المسلم خلال بقية الشهور ترجع لعدة أسباب نذكرها باختصار فيما يلي:

  1. التعامل مع العبادات في غياب غاياتها.
  2. غياب التفكر الذي ينقل الفكرة العابرة من السطح إلى العمق ومن العمل إلى مستوى المبدأ ومن المبدأ إلى الوعي بالتنفيذ وبالاستمرارية.

عمران: إذن، سيتمكن الأفراد والجماعات من جعل رمضان حافزًا وأثرًا يستمر معهم طيلة السنة في حال تعاملوا مع العبادات مقرونةً بغاياتها، وتفكروا تفكيرًا ينقل الفكرة من العمل إلى الوعي والاستمرارية.

نُواصل في ذات السياق، يكشف لنا رمضان عن خللٍ في التصورات، أي اعتلالًا في عالم الأفكار كتقزيم مفهوم العبادة ومضاعفة الأجر مثلًا، هذا ما أثر بشكل سلبي على عالم الأشياء، وكذا عالم العلاقات، حسب تحليلكم أين يكمن الاعتلال في عالم الأفكار؟ وما هي السلوكيات الرمضانيّة التي تُجسده؟

د. جاسم سلطان: فعلًا، عالم الأفكار فيه آفاتٌ عديدة أذكر أهمها:

  1. عدم رؤية عبادة رمضان كأداة تعمل لخدمة نسق متساند من الأعمال التي تقود للحضور وتقديم مجتمعات تكون قدوة للبشرية.
  2. اضطراب سلم الأهمية، فتقديم الوسيلة على الغاية يخلق صور شكلية لا تنفذ لعمق الدين.

أما مظاهر هذا العوار فتبرز في أشكال عديدة:

  • الكسل في العمل.
  • الإسراف في الطعام.
  • إعلاء شأن الكم على الكيف في العبادات.
  • أما غياب النظام والنظافة فهي تصحب الاجتماع للصلاة في هذا الشهر الفضيل وكلها كواشف عن درجة القصور في الفهم السائد.

عمران: الذاكرة التاريخيّة الرمضانية ثريّةٌ جدًا وتبقى شاهدةً على الأمّة الإسلاميّة مذكرةً إياها برسالتها،  تتطلبّ منّا نظرات فاحصّة وعميقة تتجاوز القراءة السطحيّة، برأيكم.. كيف يُوظّف شبابُ الأمة هذه الذاكرةَ عمليا في إحياء رسالة النهوض بالأمة في نُفوسهم وفي محيطهم؟  أي، كيف يقرؤونها ويجعلون منها أداة للبعث النفسي وحافزا للفعل والمُمارسة؟ مصداقًا لاعتباركم التاريخَ أداةً للفعل القيادي.

عادة ما ينصرف الذهن عند الكلام عن رمضان إلى الغزوات ولكن عمق المعنى الحضاري ليس الغزوات إنما المخزون القيمي المتمثل في عنصرين:

  1. كف الأذى
  2. إحسان العمل

عمران: منذ أربع سنوات، أصدرتُم اجتهادًا فكريًا نوعيًّا يحمل عُنوان «نحو فهمٍ حضاريٍّ للقرآن»، بغرض تعزيز التأمّل التجريدي لبنيّة الأفكار القرآنيّة، وجعلتُم من الفاتحة، البقرة وآل عمران سُورًا  للتدريب العملي، كخلاصة لتجربتكم في مُعايشة القرآن معايشةً تأمليّة، ما هيّ المنهجيّة التي تنصحون بها الشباب لقراءة القرآن قراءةً تجريدية تُبلّور الفهم الحضاري ومُتطلبات النهوض؟

د. جاسم سلطان: لكشف وجه القرآن الحضاري أنصح بالتالي:

أولًا: فهم النسق الحاكم، إذْ أنّ حل الإشكاليات التي ظهرت في بلاد الإسلام لا يتم بإستدعاء النصوص المجزأة من القرآن، بل بفهم النسق الحاكم لكل تلك الاستدعاءات.

نُعرف  النسق بأنّه "كل" تتفاعل أجزاءه ويدعم بعضها بعضا؛ ليقوم بوظيفة معينة، واختلال أي جزء منه يؤثر على بقية الأجزاء، فهو "كل" متكامل له مدخلات، وله عمليات وله مخرجات، وله نظام تَحَكُم يسمح له بالتعديل والضبط، ونسقنا الاجتماعي في القرآن له:

  • مدخلاته: وهي احتياجات البشر في العدل، والحرية، والكرامة.
  • عملياته: وهي تفاعلات الأفكار الكبرى وتراتبيتها في المجتمع المسلم.
  • مخرجاته: هي قرارات يتولد عنها عمران الحياة، واتساعها.
  • نظام التحكم فيه: هو رضا المجتمع عن درجة تحقق الرحمة بالعيش فيه.

وأجزاء النسق ومقولاته تكمل بعضها البعض، ولا تتناقض وتشكل كُلاً، وهي بهذا تسمى" نسقاً".

بفهم النسق الكلي نفهم كيف سيحقق القرآن معادلته في المجتمع المنشود؟ وللتعمق أكثر، أنصح مُتابعي عُمران بقراءة الفصل الخامس من كتاب النسق القرآني ومشروع الإنسان.

ثانيًا: بعد فهم النسق الحاكم، على قارئ القرآن أن يتأمل الآية موضعيًا ثمّ تأمل الآية موقعيًا ثمّ إدراجها في الفهم النسقي الكلي، فتحصل الفائدة، أما الرجوع إلى كتب التفسير والمعاجم فهي بغرض المساندة فقط.