الانشراح كمفهوم إسلامي خاصيةٌ نفسية وذهنية وسلوكية، ومنظومة متكاملة تؤسس لسلوكيات إيجابية على مستوى بناء الأفكار والذات والعلاقة بالآخر والمحيط.
نحاول من خلال هذه القراءة أن نرصد جوانبا من مركزيته في التصور الإسلامي القائم على إرادة التمكين، إذ أن هذا البعد المركزي ينتصب فيه «الانشراح» كخاصية وثقافة ورسالة، مقابل نفوس متعبة وهمم طريحة وتصورات قاصرة غير مخولة للتمكين.
ورد مصطلح الشرح، الذي يكون المصدر من فعله المزيد انشرح انشراحا، في أكثر من موضع في القرآن الكريم مثل سورة الشرح وآيات أخرى. وهو يدل لغويا على معاني البسط، إظهار الرغبة في الشيء وإدخال السرور، ومنه شرح صدره للعلم أي حببه إليه، ووسعه لقبوله، أما انشرح تعني انتشى فرحا، طابت نفسه، سر خاطره واطمأن قلبه.
يخلق الانشراح تربويا وروحيا على أساس قاعدة إيمانية تنفرد بالسمو الحقيقي وترقى بالمؤمن فوق البؤس الدنيوي.
يعتبر الكبد والجزع من طبيعة الدنيا والإنسان، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فَي كَبَدٍ}[1]، ، {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ* وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[2] . والإيمان وحده يخلق تهذيبا وتنقيحا لهذه الطبيعة بما يمنح النفس من قوة ولطف في التصور والعيش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاء صبر، فكان خيرًا له)[3] وقال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[4]
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- : "فأعظم أسباب شرح الصدر التوحيدُ، وعلى حسَب كماله وقوته وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ}[5]، {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ}[6].
تمثل الطاعة وجميع أنواع الذكر دعائم لتربية النفوس المنشرحة، وصراطها إلى التماس الطمأنينة، كما في هذا النداء النبوي بخصوص الصلاة "أرحنا بها يا بلال"، وكذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم، فقد "كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر واتساع القلب وقرة العين وحياة الروح".[7]
يثمر في الصدر المنشرح خيرات نفسية مدارها التوازن والاتزان، حيث يمتنع الاختلال الحاد على الصعيد الروحي والنفسي بفضل أسسٍ تضبط نظرة الشخص إلى ظروفه، فتُشَكل لديه مناعة ضد مزالق الانهيار، الصبر وعدم التحسر على الماضي هو من بعض تلك الأسس.
العلاقة بين الأزمنة ومراحل الحياة أي الماضي والحاضر والمستقبل في ظل الانشراح، يُخْضِع تصورها وتفكيك معادلتها لرؤية مختلفة ومنهج حياة مختلف {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[8]، والمراد أن نتخذ المصيبة في الماضي صبرا والنعمة في الحاضر شكرا وألا نجزع بشأن ما هو آت.
على المستوى الذهني والفكري والمعرفي ينشرح الصدر بالعلم والمعرفة في خصب روحي، وينشغل عن التفاهات بالبحث والتفكير والتدبر. في معين الخصوبة تنضح سعة التصورات والنظر والتأمل ويرتفع سقف التبصر وبسط الأفكار فيقود ذلك إلى بلورة فكر ثابت راسخ من حيث المبدأ، وواضح من حيث المحتوى والرسالة والوعاء اللغوي والسلوكي. وفي نفس الوقت فكر منفتح على العطاء والمراجعة أي القابلية للنقد الذاتي والتطور. أما الصدر المقفل فلا يتجاوز حدود قفله، يتكور في ثقبه وتتراكم سمومه بين جنباته فلا يلفظ إلا داءه. ولأن النفس المطمئنة تطمح إلى تصور سليم، تلتزم منهج التريث والحكمة فيجيء فكرها متأصلا عن إدراك عميق وشفاف لأنه يرتقي عن دائرة الانفعال ويستوعب التفاصيل. أما الصدر الضيق فأفقه ضيق محكوم بالجزع والانغلاق والتقوقع حول الذات، فكان الفكر منه مرتجلا ينشأ في زحمة الاِنفعال وردة الأفعال، قاصرا عن شمولية النظر وشفافية الحكم على الأشياء والأشخاص. كما يؤدي ضيق الرؤية إلى الغلو والتطرف وإقصاء الآخر والمختلف.
كلما توغل الصدر في الضيق انكمش الأفق وتقوقع الذهن في جحره وغاص الحس النقدي في ثغور مظلمة، ففقد صاحبه ملكة التمييز بين النفع والمضرة، وبين الصالح والطالح.
على صعيد السلوك والعلاقة بالآخر والمحيط يأخذ الانشراح معنى الانفتاح على الآخر عبر علاقة تبادلية، وهو ما يعني أن حالة الانتشاء ليست فردانية ولا تتم في العزلة والانسلاخ عن لحمة النسيج الجماعي.
في مقدمة مداخل السعادة نجد المعروف بجميع أنواعه كالبر والعطف والحلم والتسامح، قطوف زكية تبعث في النفس حلاوة الإحساس ونشوة الانتصار على الذات في أنانيتها وعزلتها.
يقول ابن القيم: "الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرا وأنكدهم عيشا وأعظمهم هما وغما.
عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ معروف صدقة، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق). وقد كان الصحابة كأبي بكر وعمر يتسابقان ويتنافسان في نقل البشرى والبشارة وإشاعة الرضا والخير. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبِين عن فرحه ويعلم المسلمين سجود الشكر، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه"، رواه البخاري.
كما أنّ الانشراح يقود إلى فضائل عدّة نُبينها لكم في الجزء الثاني.
[1] سورة البلد، الآية 4
[2] سورة المعارج، الآيات 19-25
[3] رواه مسلم
[4] سورة طه، الآيتين 123-124
[5] سورة الزمر، الآية 22
[6][6] سورة الأنعام، الآية 125
[7] ابن القيم الجوزي