حياتنا مجموعة من المفاهيم والمعاني، وأفق المعنى يتشكل من انبثاقه في الذهن وتجليه في المعايشة، فالمعنى لا ينفك عن الوجود الذاتي ولا عن المكان والزمن، زمن الذات، وسياق التاريخ. لا أفهم إذا كيف يمكن أن يغيب حضور الذات في مساحات المعنى، وكيف يمكن أن يكتب أحد نصًا لا يعكس حالة وجودية أو سياقًا معرفيًا أو لحظة تاريخية، اللهم إلا كتاب الله الذي هو وحي مصدره خارج المكان والزمن، وحكمته متجاوزة لهما ومتجلية فيهما في آن واحد، لكن المعنى الذي يستكشفه العقل حين يرتحل بـ "اقرأ"، بين الحروف والآيات والسور يبقى اجتهاد العقل وإدراك الفهم.

سيقول قائل لكن المعنى له ثبات في حال الوحي وأقول نعم، ثبات اللغة ومقصود الله وليس ثبات المعنى، لذلك لا تنقضي عجائبه ولا يُخلَق على كثرة الرد، فهو معنى يتموضع في زمانه ومكانه، لكنه يحمل الوجود لحكمة عليّة وفهم مقاصد وسنن کونية ومجتمعية، وينقله العقل والخبرة الإنسانية من زمن إلى آخر بالتنزيل والاجتهاد. من هنا جدلية العقل والوحي، والمعنى والوجود والزمن، ومن هنا خلود الرحي لأنه يستجيب، وإبداع الخالق في العقل لأنه يسأل ويجيب، ويتجدد ويتفاعل، وهكذا نبني التراث جيلا بعد جيل بلا انقطاع للخلف عن السلف، وبلا مصادرة للسلف على أفق المعنى واجتهاد العقل للأجيال اللاحقة.

يدفعنا هذا إلى التفكير مجددا في قضية الذاكرة، ليس فقط ذاكرة الفرد الإنسان في تعامله مع الحوادث والربط بينها، لكن ذاكرة المعنى، كيف سرنا مع مفاهيم ومعان وصحبناها وصحبتنا، بعضها بقي وصمد والآخر سقط منا على الطريق، وكيف استدعينا بعض السواقط وأحييناها، وكيف ننسى وكيف نتذكر المعاني مع خبرة الحياة.

في ذهني ارتباط بين معنى العدل وصورة أبي، هذا الذي لم يكن قارئا نهما، بل كان رياضيًا نشطًا في وقت فراغه، لكنه علمني معاني عظيمة كان يمارسها بدلا من أن يتكلم عنها، منها معنى العدل، فقد كان حريصا عليه في تنشئتي غاية الحرص، فلم أعرف معنى التمييز بين الذكر والأنثى، بل ربما كان ما عايشته هو تمييز إيجابي لمصلحة الأنثى الطفلة في رعاية وحنو ودفع إلى التفوق ودعم مع الأيام يزيد ولا ينقص، ثقة مخلوطة بالرحمة، ومحبة ممزوجة بالتدريب على الاستقلال والاعتماد على النفس. وفي مشاهداتي له في حركته في الحياة كان رحمه الله يجسد مسؤولية الإنسان عن العالم، يهتم بأمر من حوله بإخلاص يصل إلى حد الاندفاع، ويراجع نفسه بعد الغضب فيحنو من دون أن يتردد أو يستكبر، تلك المعاني تعلمتها منه فاختلطت بمفهوم العدل بشکل لا ينفصم ولا ينفك عن الوجود ذاته، وكثيرا ما أجدني أقدم تعريفات للمفاهيم تعتمد على خبرتي الوجودية بأكثر من المعاني الراقدة في بطون الكتب، فقد أراد الله أن يكون دوري في الحياة تعليم الأجيال الشابة رؤية المفاهيم ماثلة في الأذهان مستمدة من مصادرها وأصولها، وشاخصة للعيان متجسدة في العلاقات الواقعيّة والحياة الاجتماعية والسياسية، وشاء الله أن يكون تخصصي ومجال تدريسي هو عالم الأفكار والنظريات السياسية، وربطها بعالم الوجود ومدارات الذات الإنسانية والحركات الاجتماعية والأبنية والعلاقات السياسية.

في رمضان تغيير لطبائع الاستهلاك، لكنه أيضا زمن متجدد لترويض طبائع الاستبداد، فهو ليس فقط علاقات قوة يمارس فيها حاكم ما استبداده في زمن ما، بل الكارثة في تحول العلاقة الظاهرة إلى علاقة مستبطنة تخترق طبقات الوعي والوجود ليسكن الخنوع في القلوب فيستمر الاستبداد: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)[1] مقابل: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[2].

والفتنة والأزمة هي في الدنيا التي تسكن النفس فتسلم قيادها للاستهلاك ثم لا تنهض من ركونها إليه إلى استغناء يورث عزة ويتيح الخروج من ربقة الذل والهوان والرؤية المادية للعالم التي تستبد بالبشر، فيقبلون بالأدنى ويتركون ما هو خير وأبقى، ويصبح قبولهم للاستبداد أسهل؛ لذا ليس غريبا اقتران الإمبريالية الاستعمارية (القديم والجديد) بالرأسمالية والاستهلاكية. من هنا فإن المعاني تظهر في حركة الوجود سلبا أو إيجابا، وتنساب مع السلوك فعلا أو تركًا، وتتحقق في القلوب يقينا وحقا.. أو التباسًا وغيا.

في المعاني وجود، وللوجود معان، وتبقى الذاكرة قضية في غاية الأهمية، لأن الوعي الوجودي لا يظل يقظًا طول الوقت، فقد يغفو، بل قد يموت، فيعيش الناس كالأنعام، أو أضل: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، لذا كان تجدد رمضان كل عام ليذكرنا حين ننسى وينبهنا حين نغفل ويوقظنا حين تغفو أرواحنا، وهو بذلك تكثيف لمعنى الصلاة التي تستلهم إقامتها تلك المعاني لكن التكرار قد يورث الاعتياد،  فيأتي الصوم في رمضان کی ينتبه العباد وكي لا ننسى.

وكما ينسى الأفراد قد تنسى الأمم، وكم شاهدنا من فرد تحول وعيه باکتشاف معنى، وقد تغفو أمم ثم تستعيد وعيها حين تستيقظ الذاكرة التاريخية، لذا كان رمضان وكان موسم الحج كل عام تذكرة للأمة.

وظيفة الشعائر الدينية تحقيق الانتباه، وتجدد الوعي، برمزية بالغة العمق، وانسجام وتفاعل مع تفاصيل الحياة، وفي القرآن وصف دقيق: القلوب تعقل، والأفئدة تفقه.

إنه اكتمال الوجود باليقين، وبحركة العقل في التاريخ لتحقيق الاستخلاف والبحث الدائب عن الحقيقة، وفي السيرة والسنة معان جليلة في هذا المضمار، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

رمضان ليس موسمًا بالمعنى الشعبي، رمضان صحوة معنى ووجود.



[1] سورة البقرة، الآية 93
[2] سورة الحجرات، الآية 7