رمضان وتربية السكينة والوقار

يأتي رمضان وقد أراد الله بنا تغييرا داخلياً وخارجياً؛ فقد أذن المولى سبحانه وتعالى أن تكون فيه الشعائر البشرية جنباً إلى جنب مع الشعائر الربانية.  
فشعائر رمضان البشرية، صوم وصدقة وصلة رحم وقرآن وذكر وتهجد وسحور ودعاء وزكاة، وغيرها من الشعائر التي لها من الفضل في هذا الشهر ما ليس لها في غيره.
أما شعائر رمضان الربانية، فهيّ رحمة وغفران وعتق وعفو ونظرة لعباده وجنات مفتحة ونيران مغلقة وشياطين مصفدة وملائكة تنادي بالخير ودعوة لا ترد، وغيرها كثير من فضل الله علينا.
من هنا نقف على حقيقة الربط بين الشعائر الربانية والشعائر البشرية، تعالوا نراجع سوياً قول الله تعالى للحجيج: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ" [1]
ورغم أن الفسوق والجدال أمور مرفوضة في الشريعة الإسلامية على الإطلاق، إلا أنها تصير للحجيج عند الحرم أشد حرمة، لأنها لا تليق بجلال الله تعالى الذي يتنزل على عباده هناك.
وكذا الأمر في رمضان، هناك جلال رباني، تجليات نورانية، رحمة وغفران وعتق، هذا كله يحتاج من الأمة أن تعيش حالة من السكينة والوقار التي تتماشى مع حالة الجلال الربانية المتنزلة على عباده.
يُوجهنا حبيبنا محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطريق الموصل للسكينة والهدوء الذي يليق بجلال الله تعالى، فيقول: (الصيامُ جُنَّةٌ ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ.) [2]، ينهانا عن ثلاثٍ: لا يرفث أي لا يأتي بالفاحش والبذيء من الكلام، لا يصخب أي لا يصرخ ولا يصيح ولا يحدث ضجيجاً،ولا يجهل أي لا يظلم غيره ولا حتى نفسه بمعصية أو وزر، نجد هذه الأمور الثلاثة منهي عنها دائمًا، لكن يشتد النهي في رمضان، فإن حدث استثناءً أو مجازاً، أن سبَّك أحد فلا تعطيه الفرصة ليقطع حالة السكينة والوقار على الأمة، فلتقل إني صائم! بذلك لا تعينه على قطع حالة السكينة، ولا تدعه يفسد التجليات النورانية، تلك هي روعة التربية النبوية الربانية.

تخيلوا أمة عددها مليار ونصف من البشر تعيش حالة من الهدوء لمدة ثلاثين يوماً، لا صخب، لا رفث، ولا جهالة، وتتلقى تجليات الله وجلاله في سكينة ووقار وخشوع ، تستقبل فيوضاته، رحماته وعتقه، هل تراها بعد هذا الشهر أمة تحفظ سكينتها ووقارها؟


علينا الالتزام بالسكينة والوقار، وفي رمضان البداية، لن تصرخ الأم في رمضان في وجه أولادها، ويعينها الأب، لن يصيح هو كذلك بعصبيّة متحججا بأنّه صائم، فالصوم ليس مفسدة للأخلاق وإنما هو تهذيب للنفوس، لن يُحدّث الصغار ضجيج المفرقعات والصواريخ، فسوف نعلمهم أنه من الصخب الذي لا يليق بجلال الله النازل علينا، لن تعلوا أصواتنا في شجار أبداً، ولن نفسد على العباد عبادتهم.. كذلك معنى إنّي صائم!

رمضان وتربية القرب..

من تربية السكينة ننتقل إلى تربية القرب، يقول ربنا سبحانه وتعالى في معرض الحديث عن شهر الصيام "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [3]
نقف هاهنا مع قوله تعالى: "فإني قريب"، قد يظن القارئ لو لم يكن حافظاً للآية الكريمة أن الله سيجيب عن قوله "وإذا سألك عبادي عني" بصفة من صفاته أو اسم من أسمائه الحسنى، لكنه أجاب بأنه القريب، قبل أن يجيب أنه مجيب الدعاء، وكأنه سبحانه يرجو قربنا في عليائه.
لقد ربط اللهُ التدريبَ على القرب بالدعاء، ولما جعل القرب في الدعاء تدريبا، جعل لك دعوة مستجابة في لحظة حرجة، "للصَّائم دعوة لا تُرَدُّ عند فطره" [4]، فلماذا عند فطره؟ حتى يختبر مدى قربك منه، أي بعد جوع وعطش وحر وجهد، الجسم ينادي والمولى ينتظرك للحظة واحدة لا تتعدى مجرد دعوة تدعوها، وليست العبرة في الدعوة ولا في الإجابة فقط، وإنّما في اختبار القرب، هو في تلك اللحظة قريب منك سبحانه، فهل ستقترب أنت أيضا وتذكره؟ هل سيعلو قربه على آلام الجسد من جوع وعطش؟
قد وعدك تعالى في كل يوم بدعوة مجابة، ليس يوما ولا يومين، بل لمدة ثلاثين يوما، يدربك فيها على القرب، فهل تشعر حقًا أنك قريب منه سبحانه؟

تربية الاحتساب

أخيرًا، رمضان يُربينا تربية الاحتساب، قد نبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في رمضان إلى مراد آخر لله تعالى، وهو أن يتخذوه حسيبًا، أن يستشعروا أن أعمالهم معلقة بالله وثواب كل عمل منه وحده، هذه حقيقة يغفل عنها الكثير من الناس، فنجد الحزن والقلق والشقاق والجدل.
نشهد أحيانا كيف ينتظر البعض ثوابًا ومكافأة جزاءَ أفعالهم من الخلق،  فيظهر فيهم حب الظهور والتملق والوصولية والرشوة، بحجة أنّي خلصتك من كذا وأنجزت لك كذا وكذا، متناسين في ذلك رب العباد سبحانه.
لهذا تكثر في رمضان عملية الاحتساب والترغيب فيها، حتى تتعلق أعين العباد بالثواب المرجو من الله وحده، فنجد تدريبًا على وسيلة معينة لها آلية معينة وتأتي بنتيجة محددة، هذه الآلية تتكرر في أكثر من شعيرة رمضانية: في الصوم، القيام، وليلة القدر، وهي تتمّ بآليةٍ واحدةٍ مُحددة "إيمانًا واحتسابًا"، لتتم نتيجة واحدة وهيّ الغُفران، إنّه التدريب على تربية الاحتساب، أي النظر في الثواب المرجو من الله فقط
هل ينتظر الناس في صيامهم شكرا من الناس أو ثوابا منهم؟ هل يتباهون بقيام الليل؟ هل قيامهم وترك الفراش وهجر النوم كان لله أم للناس؟ إنّها عبادات المخلصين المحتسبين، التي رغبنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بثواب كبير ألا وهو الغـفـران، وما أعظمه من ثواب، يقول صلى الله عليه وسلم:

  • "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِ " [5]
  • "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " [6]
  • "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" [7]

ليست العلة في الغفران فحسب، ولكن التدريب على الاحتساب أيضا، بأن نرجو ثوابنا من الله الحسيب وحده، فهل ب تجاهد بعد رمضان في صلة رحمك وإن صدوك لأنك ترجو الثواب من الله وليس حسن العلاقة منهم؟ هل ستعفو عمن ظلمك لأنك تريد الثواب من الله ؟
كلّ ذلك شديد، لذا كان التدريب على الاحتساب، حتى نُخلص في بقية أعمالنا، ذكر نفسك دوماً بأن أجرك عند الله، وهو بالفعل كذلك، لا تنتظر من العباد  شكرا ولا امتنانا ولا مالا، وذكر نفسك في شهر التدريب والتربية بأن ما عند الله خير وأعظم.


[1] سورة البقرة، الآية 197.
[2]حديثٌ صحيح، رواه البخاري.
[3] سورة البقرة، الآية 186.
[4] رواه ابن ماجه.
[5] [6] [7] رواه البخاري ومسلم.