تناولنا في المقال السابق مفهوم الانشراح، على عدة مستويات: المستوى الروحي والتربوي، الذهني والفكري والمعرفي، وعلى صعيد السلوك والعلاقة بالآخر والمحيط. واليوم سنكمل ما بدأناه بتسليط الضوء على مستوبات وجوانب أخرى.

يقود الانشراح إلى تهذيب الطباع، فتنتفي الغلظة والتنفير وخشونة الجانب والتعالي والغرور وغيرها من الطباع المنفرة، ليتمتع المنشرح بخصائص اللين والترفق والإيثار والصفح والحلم، وهي سلوكيات تربوية ونفسية سليمة وطيبة وحضارية تنم عن ملكة الذوق الرفيع وجماله. الجمال قدرة على اصطفاء الخير وإشاعته، والأذواق إنما تفسد بانهزام النفس أمام شهواتها وتقلبات الدهور وصوارفه. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ  وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ  فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[1]، في مجتمع الانشراح الطبائع تهذب تهذيبًا بفعل هذا النفس الجانح للسلم وإشاعة الخير وأيضا بحكم الصقل والشحذ الذي يتم على الصعيد الجماعي وفي معترك الحياة. فالالتزام بالحركة في هذا الفضاء وتفعيل الذات به بكل تبعاته يعلم الشخص نباهة المعايشة والحدث والرد والقوة على الاستيعاب، وحكمة ومرونة في مخالطة الناس ودعوتهم إلى الصلاح.
وفي مسيرة البناء والنهوض خطوات وفي مواجهة كل خطوة خطوة مضادة تحاول العرقلة والتفكيك، ولها من العتي والمناورة ما يثقل الظهر ويشجنه. فإن انبسطت الروح وعلا سقف الصلابة، لانت الصعوبة ورخف وقعها، لأن في القلب قوة ترتقي بصاحبها إلى مصاف الصابرين المحتسبين. قوة القلب هي التي تمنح قوة أداء الرسالة. في حال انقباضه يأخذ وزن الأشياء السلبية بعدا واسعا وعميقا في الثقل ويتدحرج إلى الأسفل. والقلب إن جزع وقد حضرت الهموم والمتاعب والمصائب فقد قدرته على أن يكون حرا، فالاِنشراح أولا وأخيرا حرية ومقاومة ترتقي بالمعنويات وتشحذ الهمم، تخلق الرقي في الإرادة والعزم والقدرة على الاستيعاب والتجاوز والتقرير بدل الخضوع لحالة سلبية يفرضها الآخر أو المحيط والظروف. في المقابل الانقباض ليس إلا استرقاقا للهمة وسلبا للإرادة وسماحة النفس، عزل للذات وتحجيم لقدراتها على الأخذ والعطاء والتواصل والمقاومة.

ولما كان الانشراح سعيا للخير والاستقرار في المحيط، ارتبط بسنة التدافع التي تكون بمدافعة أهل الخير والإصلاح والإعمار لأهل الشر والإفساد، وذلك لتحقيق الصلاح والاستقرار على الأرض، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[2]

ومن أهم آليات الاشتغال في الواقع هو الاستيعاب، يحتكم هذا الأخير لمبدأ الاختلاف أو المختلف بحيث يجد كل واحد - في المحيط المنشرح وفي قوانينه- مساحة حميمية يتبلور فيها كذات وفكر وطموح كيفما كان جنسه ولونه، سنه وقدراته البدنية والذهنية والمالية: الضعيف والفقير، الشيخ والطفل والمعاق.
الانشراح احترام الآخر باحترام خصوصياته وحقوقه. الطموحات تهتز في سياق العنف والإقصاء، ونفس تكدرها سموم الحسرة والغضب والحزن تتوقف عن العطاء بشكل أو بآخر. غير أن صفاء البال لا يترك للصدف بل هو عمل وجهد وتخطيط. فالمسلم وإن كان مستعدا فطريا لتقبل الأقدار، فهو يسعى ويتحرى سبل تيسير الأمر كله. يقول ابن القيم في فوائده: "فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك".
الصبر والرضا بالقدر ليسا رديفا الاستسلام للظروف ومجاراة الواقع، والسعي يكون شموليا من بناء تصور وأدوات وخط ومنهج بتوخي الحذر والتسلح باليقظة وشحن الطاقة ودرء المفسدة وتوسيع إمكانية النجاح وراحته. لتجاوز العقبات لا بد من التخطيط، فيسعى المرء للسير وفق خط سليم برصد معطيات الواقع، بتحديد الأهداف والوسائل، وتقييم المراحل ومراعاة سنة التدرج، واستشراف الآفاق.
الخطوات غير المحسوبة والرؤى الضبابية وانحسار الزاوية لعدم دقتها هي بمثابة معول هدم الجهد والحماس وبهجة النفس لأن الفشل حين يكون متربصا في نهاية الطريق يكسر الخاطر والهمة.
في إطار فقه الواقع وإرادة التيسير يجنح المنشرح الصدر إلى الاجتهاد بغية التجديد والملائمة، ولا يتقيد بالانحسار والتصلب والسذاجة.  
في الانشراح تصان كرامة الآخر وحريته وطموحاته واستقلاليته، فعلى مستوى العلاقات الأسرية يشكل قاعدة للنجاح لبناء الثقة، والمودة وراحة البال. كلما استقام بنيان الثقة أثمرت الحرية وانعكس ذلك طيبا على بناء القدرات. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدى فرحه بقدوم غائب حبيب كقوله لجعفر رضي الله عنه بعد عودته من الحبشة: "والله لا أدري بأيهما أُسَرُّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟! وكأنه يساوي بين نصر الفتح وملاقاة الصاحب من حيث الأثر في النفس.
 الإنجازات الكبرى التي تتعلق بمصير الأمة وقوتها تتقاسم مع الأواصر الإنسانية الفردية من صحبة وصداقة وجوار وأبوة هذا القدر بفضل الغاية ذاتها.
لا شك أن انشراح الصدر في بعده الروحي والذهني يقود إلى يسر في التواصل والتفاعل، ومن تجلياته انشراح على مستوى القول والخطاب. فلا يمكن للخطاب القائم على الغلو والإقصاء والغموض الذي هو أشبه بالمداراة والمناورة والالتفاف أن يشكل وسيلة حضارية بناءة للتفاعل الإيجابي والسلوك السليم، وبخلافه يكون الخطاب المنشرح واضحا كاشفا مبينا ومؤثرا بالقدوة وبالقول الحسن {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. [3]
بلاغة القول والظفر بزينات الصياغة والبيان، وبديع الجمال اللغوي والتعبيري أمور بالغة التأثير في النفوس لما تشيع في السمع والخاطر من مسرة وراحة. لذا كانت البلاغة والفصاحة والصوت الجهور من أهم دعائم الخطابة والخطبة في الدين. يقول الشيخ يوسف القرضاوي في ثقافة الداعية: "اللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان وصحة الأداء فضلا عن حسن أثره في السامع، بل صحة الفهم أيضا، فالأخطاء اللغوية إن لم تحرف المعنى وتشوه المراد، يمجها الطبع وينفر منها السمع." والخطاب المؤثر في النفس يكون بالحرف والمظهر الجلي والإيماءات والتقاسيم.

بسط البهجة لا يعني استغفال الناس ومناورة وجدانهم وأذهانهم والاستخفاف بعقولهم بطمس الحقيقة وترويج الزيف والسراب الخادع، لأن السرور محكوم بالمسؤولية والمواجهة والمقاومة والتحمل والصبر، لذلك اقترن الشرح بالصبر وعلى مريد الخير وناشر المسرة الإلتزام بمسؤولية الأمانة في تبليغ الحقائق والشد على الأيادي والقلوب حتى تصمد أمام المحن والتحرك من أجل التغيير، أما ذر الرماد في العيون فلم يكن يوما أملا ولا اقتيادا للسرور.

في هذا السياق يتحمل الإعلام والأصوات المسؤولة في المواقع المؤثرة كأهل الإفتاء والإرشاد، مسؤولية حماية الحقيقة بعدم نشر الأخبار الزائفة وتضليل الرأي العام ومحاولة احتواء الفكر لتجييره وفق مقتضيات ومصالح معينة، لأن احترام حرية النظر والتقرير جزء من صيانة واحترام الآخر في تشكيل ذاته وفكره ومشاعره.
إذا كان الانشراح تفاعلا مع الآخر والمحيط فهو احتكاك بهما، يتعلم الشخص أن يؤسس لرؤية متزنة في تعامله، ولكي يضبط تفاعله يحتاج إلى مفاهيم ضرورية تعينه على تشخيص الخلل ودفع الفساد وبث الإيجابية وفي مقدمتها الموضوعية والنسبية ومراعاة السياق. يحصل اتزان في تشخيص الواقع والعلاقات، لا غلو ولا تفريط. قد يحسن المرء التعامل مع المستجدات والوقائع الكبرى ولو بشكل نسبي، غير أن الأمر أكثر تعقيدا وحساسية حين يمس التفاصيل والجزئيات، فقد يصمد في وجه مصيبة الموت ويجزع بشأن جاره الذي مر بجانبه دون أن يلقي عليه التحية. وهكذا تفترس نقائص الحياة الجزئية الكثير من اعتدال واتزان النفس، وتربك أنماط تعايشه في أقرب دائرة إليه، ثم التي تليها، ثم إن الاكتراث لخصوصيات الآخر، مشاركته كل الأشياء التي يفخر بها وتمثل جوانب كينونته من قبيل مشاركة إرثه الثقافي والفني وخصوصيات محلية كلها دواع للتقارب والتآلف والمسرة، وتشكيل ثقافة السلم التي تتجاوز الفوارق لتترك فسحة للتعارف والاحترام والتعايش.
إن مراعاة الجزئيات المشكلة للأساسيات أمور تعين صاحبها على المبادرة الصائبة لأن المبادرة لا تهيم في فضاء وهمي أو قاصر أو مواز لمصالح الناس وظروفهم، بل هي بأهدافها وطرائقها، لصيقة بهمومهم وما يصلح شأنهم ويبهج صدورهم، وتتشبع المبادرة بثقافة المشورة وإشراك الأصوات وحماية الصوت المعارض.
كل أشكال وأساليب تسهيل الخدمات للآخر هي تيسير لأموره ورفع للحرج والعسر عنه ومدخل لسروره كقضاء حوائج الناس من إدارة، وحسن استقبالهم واحترام الدور، والبيئة والطبيعة  والأماكن التي يتردد عليها عموم الناس، وإماطة الأذى عن الطريق. هذه هي بعض مقومات ثقافة الفضاء المشترك التي تحترم سلامة الناس وسكينتهم، وتخلق أذواق رفيعة تغني الإنسان عن الهمجية و الإيذاء والإفساد.
لعل في خلق الله آيات كثيرة عظيمة تثبت أن من جزيل نعمه هو هذا التنوع في الحسن الذي يبهج النفس والعين، وكأن إرادة الانشراح مكتوبة في فصول الجمال الذي أودعه الخالق بين يدي المخلوق ليبتهج به ويتنفع بخيره. إن مسلك القرآن الكريم دعوة للنظر فيما يسر النفس من الطبيعة والنبت وغيره، والأجدر رعاية هذا الحسن حفاظا على منابع الاستحسان ومنافذ الابتهاج. يقول تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [4]، {انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. [5]
كما أقطع الخلفاء الراشدون والولاة المسلمون الأرض البور لاستصلاحها وزراعتها وسحبت ممن لم يستصلحها. قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)، رواه البخاري. روي أن رجلاً مر بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير وهي لا تثمر إلا في كذا وكذا عاما. فقال أبو الدرداء: ما علي أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري؟

إن من أطيب ثمار الانشراح هو انتشار العدل صفة وثقافة. وله أضداد كإشاعة الهلع والجزع والخوف، ونوردها في سياق مصطلح واحد هو الغبن. الاعتداء على الحقوق والحريات الشخصية والعامة، الظلم والطغيان، نهش أعراض الناس، أكل أموال اليتامى كل ذلك غبن للآخر. لكن كيف للظلم أن يجد له مرتعا في وسط تشبع أفراده ومؤسساته بانشراح الصدور؟

الشمائل أشمل من أن تحصر في نطاق الأوصال الاجتماعية والأسرية، وما يحفظ لها هذا الامتداد إلى كل الدوائر من قانون وسياسة وطب هو البعد الرسالي للحياة والوجود من منظور إسلامي. لذلك تتمتع كل التشريعات بواجب حفظ مصالح الرعية بما ييسر أمورهم ويسر صدورهم، فيسعى الراعي مثلا إلى تخفيف عبء العمل باتخاذ الإجراءات وسن القوانين التي تتيح للعامل الناصب فضاء مريحا للعمل. والتشريع أهم مدخل لذلك، إذ يلغي كل ما يهد طاقة العامل ويستنزفه أو يمس كرامته وينال من حقوقه. والتشريع الذي لا يعتد في تنظيراته وتقريراته بالبعد الأريحي للنفوس يخسر بعضا من أهدافه من حيث المردودية في فضاء الإنتاج.
 بين اتزان، حفظ حقوق، انفتاح ذهني، وسلم عام، يكون الانشراح ضرورة نفسية وحضارية وليس مجرد نشوة عابرة وحبيسة الذات أو انفعال لا يؤثر في المحيط والجماعة، إنما هو محرك بناء لأمة الانشراح في قوة وتماسك وحرية. خاصية تمثل قطب اجتذاب وشمول يتصل فيها الإيمان بالفكر والسعي والعمل والبناء والتآخي.

 أخيرا، الغاية المطلقة من الوجود في كل أبعاده الروحية والمادية وغيرها إنما هي اليسر والمسرة والحياة الطيبة في ظل الخلافة في الأرض، فكان من البديهي الأكيد أن يتربع الانشراح في قلب الوجود والإنسان حسب التصور الإسلامي.


[1] سورة آل عمران، الآية 109.
[2] سورة البقرة، الآية 251.
[3] سورة الإسراء، الآية 53.
[4] سورة الحج، الآية 5.
[5] سورة الأنعام، الآية 99.