شهد القرن الثامن عشر والتاسع عشر اهتماما كبيرا بمناطق الشرق من طرف الباحثين الغربيين، ففي هذه الفترة نحت الأوروبيين مفهوما جديدا وهو "الاستشراق Orientalism"،  الذي يعبر عن الدراسات المتعلقة بالشرق.

انقسمت الدراسات الاستشراقية التي عالجت المدينة إلى قسمين، القسم الأول كان له موقف إيجابي ومؤيد للمدينة العربية الإسلامية (أمثال: لويس ماسينتون، وموريس لومبار...)، واعتبروا أن التمدن الإسلامي أصيل ويعد أكثر بعدا وتأثيرا من التمدن الروماني، وفي القسم الثاني هناك بعض الدراسات الاستشراقية التي تحمل موقفا سلبيا من المدينة الاسلامية (جان سوفاجيه، وكزاوية دو بلانول...)، فهي جردت المدينة الإسلامية من أصالتها ووصفتها بالعشوائية وعدم التنظيم.

إذن ما هي المدينة الإسلامية؟ وكيف نشأت؟ وما هي خصائصها وأنماطها؟ وهل المدينة الإسلامية هي امتداد مشوه للمدن الشرقية القديمة أو هي مدن أصيلة وليدة الحضارة الاسلامية؟

في هذه الورقة سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات، وذلك بالإعتماد على بعض الدراسات العربية والأجنبية التي عالجت موضوع "المدينة الإسلامية". وسأقسم المتن إلى محورين هما كالآتي:

المدن والحياة الحضاري في الإسلام

خصائص وأنماط المدن الإسلامية

 

المدن والحياة الحضارية في الإسلام

الإسلام منذ ظهوره كان في مجال حضاري، فمكة كانت في ذلك الوقت (القرن السابع الميلادي)، من أهم الحواضر في شبه الجزيرة العربية، لكونها مركز ديني تحج له كل القبائل العربية هذا ما جعل الإسلام "في روحه الأعمق وفي جوهره دين مدني، مرتبط بالحضر، وبالمدن والعمران وبالحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية المتطورة، وبالتنظيم المستقر للناس، والاجتماع الأوسع المتعاون". والإسلام كدين ارتبط ارتباطا وثيقا بالمراكز الحضارية، فهو لم يتوسع في المناطق البعيدة عن هذه المراكز.

تبدأ نشأة المدينة الإسلامية، بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب، ففي هذه المرحلة حاول الرسول أن يقيم مجتمعا حضريا كاملا –بلغة ماكس فيبر-، فحول إسم هذا التجمع القبلي من يثرب إلى "المدينة"، وإسم "المدينة" يحمل دلالة تعكس رؤية الإسلام الحضارية، والنبي حاول أن يخلق مجتمعا حضاريا متماسكا، يرفض النزعة القبلية المتجذرة في مجمعات شبه الجزيرة العربية، لذلك كان أول ما فعله بعد هجرته إلى يثرب، دعوته إلى التآخي في الإسلام لتذويب القبلية، هذا ما خلق عند مجتمع يثرب، الشعور بالانتماء إلى الوطن والأرض، عوض الانتماء إلى القبيلة والعشيرة.    

وبعد استقرار النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، قام بتقسيم أراضي المدينة إلى اقطاعات، وتم تقسيمها على القبائل –أي لكل قبيلة إقطاع خاص بها-، وكان النبي هو المسؤول عن توزيع الخطط باعتباره الحاكم، وكان منهجه في توزيع الخطط –المحلات السكنية- يهدف إلى تجميع كل قبيلة في خطة خاصة بها، وتركت حرية تقسيم الخطة للقبيلة وفقا لظروفها وإمكاناتها في الإنشاء والتعمير، وعلى هذا الأساس سار إقطاع الخطط والمنازل في المدن الإسلامية الناشئة، مثلا ما حدث في البصرة سنة 635م، والكوفة سنة 638م، والفسطاط سنة 641م، والقيروان سنة 665م، والمعسكر بمصر سنة 750م، وبغداد سنة 762م، وقطائع أحمد بن طولون بمصر سنة 869م.

إن المدينة الاسلامية في نشوئها وتطورها، تعبر عن المظاهر المادية للحضارة الاسلامية، عكس ما يحاول بعض المستشرقين إثباته، فهم يقولون أن المدينة الاسلامية هي نسخة مشوهة من المدن التاريخية في المشرق (دمشق، الإسكندرية...)، لكن هذا القول هو إجحاف في حقها. والحضارة الاسلامية أفادت واستفادت كباقي الحضارات في حوض البحر الأبيض المتوسط (الإغريق، والرومان). وتتميز المدينة الاسلامية بطابع مختلف عن المدن القديمة، حيث أنها كانت تعكس الايدولوجيا ونمط الفكر الجديد. يقول فرنان برودل "المدن وليدة حضاراتها، ولكل مدينة نموذج نقلت عنه". فالمدينة الإسلامية لها خصائص متصلة بالجذور الإيديولوجيا التي تحيط بها وتكونها: "كما أن للمدينة الهندية والصينية مواصفاتها الخاصة بحضارتها ذاتها، ووظيفتها المختلفة النابعة من مجمل التكوين الحضاري للبيئة التي نشأت فيها".

خصائص وأنماط المدن الإسلامية

المدن الإسلامية تميزت عن باقي المدن، بنمط معماري خاص، يستند بالأساس للسنة النبوية والفقه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كما رأينا من قبل، قام بتقسيم المدينة إلى العديد من الخطط، وهذه الخطط تشكل فيما بينها عدة دوائر حول المسجد الجامع. و كانت كل "مدينة من المدن في العالم الإسلامي عبارة عن شبكة متشابكة لا تنحل عقدها من الحارات، ولا تلقى الرعاية، والصيانة الواجبة. وقد استغلوا انحدار الحارات، في توجيه مياه المطر والجداول. بحيث تقوم وحدها بتنظيف الطرقات، ولكن الصورة الطبوغرافية المتشابكة للمدينة تنضوي على خطة منتظمة إلى حد كبير"، ما يهمنا في قول برودل هو إقراره أن المدينة الإسلامية هي شبكة متشابكة منظمة.

ويعتبر المسجد الجامع هو مركز المدينة الإسلامية، ومن حوله حارات التجار (الأسواق) والمستودعات والمخازن، ثم تتوالى الدوائر مشتركة في مركز واحد، راسمة قطاعات دائرية متتالية، يقيم فيها الحرفيون بحسب ترتيب تقليدي من الداخل إلى الخارج يراعي مفهوم الطهارة والنجاسة، وهناك سمة أخرى منتظمة وهي تقسيم الخطط -الأحياء السكنية- إلى أحياء بحسب الأجناس والأديان. وفي كل مدينة هناك حي للمسيحيين وحي لليهود، ويخضع حي اليهود عادة لحماية الأمير، وفي الغالب يوضع هذا الحي في وسط المدينة، ويتم ربط الشوارع والطرقات بهذه التكوينات المعمارية، والمدينة الإسلامية لها شوارع رئيسية تمتد من المسجد –نواة المدينة- إلى أطرافها .

كما للمدينة الإسلامية أنماط مختلفة حسب وظيفة كل واحدة منها، والدور الذي تلعبه بين المدن، وفي هذا الجزء من المقال سأحاول سرد كل أنواع وأنماط المدينة الإسلامية، وذلك بالاعتماد على التصنيف الذي قدمه شاكر مصطفى في كتابه "المدن في الإسلام حتى العصر العثماني". فهو قام بتقسيم أنواع المدن إلى ستة أنماط (أنواع) وهي كالأتي:

  1. المدينة المصر: هي المدينة التي يتم إنشائها بعد الفتح، وهي بالأساس تكون مدينة تحوي على إقامة السلطان والدواوين، فهي المركز الإداري للسلطة السياسية. ولكن مع مرور الأيام، تتسع رقعتها الأرضية، ويزدحم فيه السكان، مما يؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي والتجاري في المدينة، ونذكر أمثلة على هذه الأمصار وهي : الفسطاط في مصر، الكوفة في العراق، والقيروان في إفريقيا.
  2. المدينة القصبة: هي المدينة التي تكون مركز السلطان ومحل إقامته، وتتميز بوجود جامع فيها ومنبر، وأيضا يكون فيها رخاء اقتصادي، ووفرة في المياه، مثلا: مدينة المنصورة بالسند ومدينة الأنبار في العراق.
  3. المدينة الحصن: هي المدينة التي تقام في المناطق غير الآمنة –أي في الثغور-، وهذه المدينة تكون محصنة ولها أبواب حديدية، وفي الكثير من الأحيان تكون محاطة بخندق، مثل مدينة قفصة في الغرب الإسلامي، ومدينة طليطلة في بلاد الأندلس.
  4. المدينة الفرضة: وتتميز هذه المدينة بوجودها على البحر وتحوي ميناء، لأن اقتصاد هذه المدينة يرتكز بالأساس على التجارة البحرية، وهذه المدن تكون محصنة لأنها عرضة للغزو في كل لحظة، نذكر أمثلة على هذه المدن: مدينة عكا في الشام، ومدينة عدن في اليمن، ومدينة وهران في الغرب الإسلامي.
  5. المدينة الملكية: وهي المدينة التي يبنيها السلطان لسكنه الخاص، وسكن جماعته وحرسه، وهي بذلك تكون مركز الحكم، مثلا: مدينة بغداد في العراق التي بناها العباسيون، ومدينة القاهرة في مصر التي أنشأها الفاطميون.
  6. المدينة العامة: وهي المدن التي تستمد أهميتها من إنتاجها الزراعي أو الحرفي أو التجاري بصورة عامة، ويمكن اعتبار معظم المدن الاسلامية تندرج تحت هذا النمط من المدن.  

بالاعتماد على هذا التصنيف الذي قام به شاكر مصطفى، يمكن جمع هذه الأنماط في ثلاثة أساسية وهي:

  • أولا: النمط السياسي والذي يمكن إدراج تحته كل من المدينة المصر والمدينة القصبة والمدينة الحصن والمدينة الملكية.
  • ثانيا: النمط الاقتصادي والذي تندرج تحته المدينة الفرضة والمدينة العامة.

ثالثا وأخيرا: النمط الاجتماعي الذي  تندرج فيه كل أنماط هذه المدن.

على سبيل الختم، إن المدينة الاسلامية هي وليدة الحضارة الإسلامية، ولا يمكن النظر إلى المدينة الاسلامية على أنها كائن جامد وساكن، بل هي تتطور بالتوازي مع تطور الفكر والثقافة الإسلامية، وهي تشكل مع سكانها وحدة متناغمة موحدة، فهي "صورة لهم، وهم صورة لها" –بتعبير مصطفى شاكر-. والمدينة الإسلامية هي نموذج متفرد وليست صورة مشوهة من المدن الشرقية القديمة (دمشق،الاسكندرية...) كما يقول المستشرقون.