يوم الخميس 11 يوليو 2019م استضافت صفحة عمران على فيس بوك الدكتور حذيفة عكاش مدير مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام (يُمكنكم البث المُباشر هنا)، للحديث عن المشاريع الفكرية وكيف تساهم في النهضة. 

تعاني الأمة الإسلامية من مشاكل في عدة جوانب منها الفكر، ويسعدنا استضافة الدكتور حذيفة عكاش متخصص في الفكر الإسلامي وبفضل من الله هو مؤسس لرؤية للثقافة والإعلام وهي مؤسسة فكرية إعلامية تُعنى بتحرير المعارف الإسلامية وتمكينها كثقافةٍ معيشة تحفظ هوية الأمة وسلامة الوطن، وهذه المؤسسة تحت إشراف الدكتور عبد الكريم بكار.

جمهور عمران متحمس للقاء والاستمتاع بالحوار معك ضيفنا المتميز، نحن سعداءٌ جدا باستضافتك لتحدثنا عن المشاريع الفكرية وكيفية مساهمتها في نهضة الأمة. 

نبدأ لقاءنا بالتعريف بحضرتك إلى جمهور عمران، من هو الدكتور حذيفة عكاش؟ من مواليد سوريا (حمص) 1978، بذلك نحن نتحدث عن دكتور شاب خاض عدّة تجارب، كانت بدايته مع ثانوية شرعية تابعة لوزارة الأوقاف السورية من 1996، تحصل على بكالوريوس شريعة إسلامية من كلية الشريعة في 2000، ومن ثم ماجستير شريعة إسلامية قسم الفقه المُقارن الذي هو تخصص فقه الإعلام والضوابط الشرعية للإعلام المرئي في جامعة طرابلس 2014، تحصل على دكتوراه شريعة إسلامية في نفس التخصص "قسم الفقه المقارن وفقه الإعلام والضوابط الشرعية" من جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان سّنة 2017 ، و حاليا ضيفنا مدرس بجامعة طرابلس وفي أكاديمية "باشاك شاهير"  بجامعة اليرموك، وأيضا جامعة رُشد مدرسًا لمادة الفكر الإسلامي ومادة الدعوة والإعلام، ومن الجميل أيضاً أنّ ضيفنا مدير عام مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام، أهلا بك نترك لك المجال الآن. 

بارك الله فيكم وجزاك الله خيرًا أستاذ عبد الله، أشكر جمهور عمران، وأشكر الدكتور طارق السويدان الذي طالما تعلمنا منه مباشرةً أو من خلال ما قدمه لنا عبر التلفزيون والإعلام، والمشروع الرائد مشروع عمران هذا المشروع الجميل الذي يحول طموح الشباب وحماسهم إلى مشاريع، لطالما قال لنا الدكتور عبد الكريم بكار أنّ الآن زمن المشاريع، أما زمن الجماعات الإسلامية كان في الحقبة الماضية، الآن زمن الشباب، زمن المشاريع، زمن المؤسسات المتخصصة، وهذا هو مشروع عمران، مشروع المشاريع، والمشروع الذي يُشرف على مشاريع الشباب.
 بالنسبة لموضوعنا اليوم "المدارس الفكرية وأثر الفكر في نهضة الأمة"، فكما تعلمون إخواني وأخواتي العالم كله منقسم، ونظّر مالك بن نبي رحمه الله لمعادلة الحضارة والتي تضم: التراب ويقصد به: الأشياء والآلات والموارد الأولية، ثانياً: الإنسان وثالثًا: الوقت.
 وأهم عنصر من هذه العناصر هو الإنسان وأهم شيء في الإنسان فكره، وتأتي أهمية الفكر في أنه يُؤثر في سلوك الإنسان وفي مشاعره وفي علاقات الإنسان وقراراته، ونحن في مؤسسة رؤية لاحظنا أن الذي يتغير فكره يتغير وعظه، تتغير قراراته وآرائه، وحتى المشاريع تتغير عندما يتغير فكر الإنسان، حتى اختياراته الفقهية والوعظية تتغير، كل هذا يتبع الفكرة التي يحملها الإنسان.
 حسناً، لو رجعنا الآن إلى المدارس الفكرية المتواجدة في الساحة نجد عندنا المشروع القومي، المشروع العلماني، المشروع التغريبي، المشروع الليبرالي، المشروع اليساري والمشروع الإسلامي، كلها أفكار وأيديولوجيات يتبناها الإنسان وينشط فيها. 
من المعروف أن المشروع القومي استنفذ أغراضه، فبقينا فترة طويلة من الزمن ونحن نحلم بالقومية العربية ووحدتها، لم يحققوا قومية ولا وحدة ولم يحققوا استقلالا حتى! فأصبحت الدول التي تدعي القومية تبعية هنا وهناك. 
يتسم المشروع الحداثي غالبًا بالحداثة الغربية، فهل تعتبر الأفكار النهضوية التي قامت عليها نهضة الغرب كلها أفكارًا ظلامية ينبغي تجاوزها ؟
 هذا أكبر جدل سائد في الساحة الآن، كذلك الصراع بين الفكرة الإسلامية والتراث الإسلامي وبين الفكرة التقليدية، الحقيقة أن الأفكار التراثية لا يمكن أن نتجاوزها كلها، فتراثنا يحتوي كنوز ما زالت لم تستنفذ أغراضها، أي أنّها ما زالت صالحة الى الآن،
 ما هو التراث؟ هو فهم أجدادنا وعلمائنا عبر التاريخ لمرجعية الكتاب والسنة وإسقاط هذا الفهم عبر الواقع.
 هل نستطيع الآن تجاوز كل هذا الفهم؟ طبعاً لا، فيوجد في التراث أفكار صالحة حتى الآن، الأفكار التغريبية والأفكار الحداثية هل كلها أيضاً رجسٌ من عمل الشيطان كي نتجنبه؟
 هناك استقطاب حاد حالياً بين الأفكار التغريبية والأفكار الإسلامية، والذي نعتقده أن في الأفكار الإسلامية أفكار لا تزال تصلح في أيامنا هذه، وفيها أفكار تجاوزها الزمن لأن الواقع تغير، المفكر الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله تعالى يعبر عن هذا بأن أسباب النزول تغيّرت بمعنى الواقع، فبما أنّ الواقع تغيّر ينبغي أن يكون هناك اجتهادات جديدة، هذا من حيث التراث، أما من حيث الأفكار الحداثية، فكثير منها أيضاً صالح.
مشكلتنا إخواني الكرام وأخواتي الكريمات أنّ عندنا عقلية أبيض أو أسود، أي إما نقبل كل شيء أو نرفض كل شيء! فنأتي إلى التراث نقول: "كل شيء موجود في تراثنا، لكن نحن ضعاف لم نطلع عليه"، هذا الكلام صواب وخطأ في نفس الوقت، في تراثنا الأفكار الكثيرة التي ما زالت صالحة، لكن فيه اجتهادات غير صالحة، بسبب أن الواقع الذي نتجت عنه  اختلف.
 الأفكار الحداثية الآن هل كلها صالح لنا؟ المشترك الإنساني بيننا وبين الغرب ما زال صالحًا، يعني ليست كل الأفكار الغربية أفكار مادية إلحادية فهناك مشترك إنساني، على هذا المستوى هناك الكثير من الأفكار الحداثية الغربية صالحة عندنا، كما تُوجد أفكار حداثية غربية تناسب بيئتهم فقط، إذن الخلطة ليست إما أبيضا أو أسودا، الخلطة المطلوبة أننا نحتاج أشياء من تراثنا وأخرى من الحداثة الغربية كونها تجربة بشرية.
    الفكر إخواني وأخواتي خطير جداً، لأن من الفكر تأتي الأيديولوجيات، ما هي الأيديولوجيات؟ هي مجموعة من الأفكار، والقوانين، والتصورات، التي تصف الواقع أولاً ثم توجِد مجموعة من الأفكار التي تُصلِح هذا الواقع، بناءً على صورة ذهنية مثالية سنصل إليها، إذن الأيديولوجية لها ثلاثة أقسام:
1- وصف للواقع.
2- إيجاد حلول لهذا الواقع. 
3- الوصول إلى صورة متخيلة في الذهن "الواقع المثالي"
من هنا أتت خطورة الأفكار، وبشأن الأفكار وتأثيرها على الحضارة والواقع والنهضة لدينا موضوع (الهوية الخاصة) التي تحدثنا عنها، الفرق بيننا وبين الغرب أو بين أي جهة هي هويتنا الخاصة، إلى أي مدى هذه الهوية الخاصة؟ وإلى أي مدى هناك مشترك إنساني؟ هذا مجال اجتهاد. 
 إخواني هناك الآن صراع فكري في الساحة بين الأفكار التي تحدثنا عنها، وحتى بين الأفكار الإسلامية بأطيافها، عندنا تيار صوفي  كبير يُراد له الآن أن ينشط من قِبَل بعض المؤسسات والدول التي وقفت بكل أسف مع الثورات المضادة، ولجأت إلى أخذ النموذج الصوفي كبديل وكإرواء للنازع الديني.
 لكن أي نموذج صوفي يريدونه؟ هل النموذج الصوفي المُشرق الذي تبناه عمر المختار؟ هل النموذج الصوفي الذي تبنته بعض حركات التحرر، بعض الحركات التي كانت تقف مع الشعوب وإرادتها؟ الصوفية التي تنكر المنكر؟ الصوفية الحيوية أم الصوفية السكونية التي تخضع للاستبداد؟ لا، هم  يريدون نشر التصوف الذي يخضع للاستبداد، التصوف السكوني الذي يبارك أفعال الحُكام مهما فعلوا! 
تم الآن استدعاء السلفية أيضًا، المتمثّلة بالجامية والتي تحارب الإسلام الحركي، لا يريدون إسلاماً فاعلاً، لا يريدون إسلاماً حاضراً في المشهد، لا يريدون إسلاماً يُنكر المنكر ويأمر بالمعروف، لذلك يُحارب الإسلام الحركي.
 بالإسلام الحركي التقليدي الذي نشأنا عليه في الحركة الأم حركة الإخوان المسلمين،  والذي ننادي به هو أخذ منهج الإمام البنا رحمه الله، هذا المنهج الشمولي، المنهج الحركي، المنهج الفاعل، المنهج المعاصر.
 هذه المنهجيات نأخذها من الإمام البنا ولا نجمُد على اجتهاداته رحمه الله، فقد قدّم اجتهادات في زمانه ومضى على تأسيس الحركة الآن حوالي مائة سنة (قرن كامل)، ولو كان الإمام البنا رحمه الله في زماننا هذا لجدّد في كثير من الأفكار، والمتابع لكتابات الإمام البنا رحمه الله تعالى يجد التطوّر الفكري بين المؤتمر والمؤتمر، كان يأتي بأفكار جديدة، كان رجلاً ديناميكياً، رجلاً عبقرياً، رجلاً يراعي الواقع، فلو كان في زماننا هل كان سيتبنى نفس الأدبيات؟
 الذي نعتقده أنه كان سيطوّر، لأنّ الواقع اختلف فعندما نشأ الإمام البنا رحمه الله نشأ في بيئة تحت نظام ملكي، تحت احتلال وهوية مهددة بالانهيار، سمعت مرة الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى في إحدى محاضراته المسجّلة يقول: "الإمام البنا جاء في وقت كان المسلم يستحي من إسلامه"، الآن اختلف الأمر بفضل الله تعالى، يعني سؤال الهوية انتهينا منه الآن، نحن دخلنا الآن في سؤال النهضة.
 عندنا صراع آخر مع مشروع الإسلام الجهادي، ونحن في سوريا صُدمنا بهذا المشروع، فقد كنا في أول بداياته متعاطفين معه، لكن اكتشفنا أنّ هذا المشروع هو للأسف خنجر لكنْ في في بطون المسلمين، هو مخلب لكنْ في رقاب المسلمين، انقلبت الكثير من الحركات الجهادية وكفّرت المسلمين، عندنا أزمة مع (مدرسة الغضب) كما يسميها أستاذنا الدكتور جاسم سلطان، (مدرسة القتال) كما يسميها أيضا الدكتور القرضاوي حفظه الله تعالى، فنحن الآن أمام صراع أفكار، حتى أُلخص الموضوع وأنهي ما أريد قوله سأُقسّم مراحل الصراع الفكري إلى أربعة مراحل: 
1- مرحلة الانبعاث.
2- مرحلة المراجعة.
3- مرحلة الاستقرار.
4- مرحلة الازدهار.
أعتقد أن هذه المراحل تنطبق على كل أمة، مرحلة (الانبعاث العاطفي) حيث تشعر أمة من الأمم أنها متخلّفة وتريد الحراك والتقدّم، ويظهر المجتهدون والمفكرون، وتنشأ جماعات وتنشأ التجارب، المفكّر يقول رأيه في الإصلاح، يجمع حوله بعض المفكرين، يغلُب على هذه المرحلة العاطفة والاندفاع، أعتقد والله أعلم أننا انتهينا من هذه المرحلة.
 المائة سنة الماضية كلها مرحلة انبعاث وأفكار ومشاريع وتجارب وحركات، فكل فكرة تمّ تجريبها تقريباً، وأعتقد أننا الآن في بداية المرحلة الثانية وهي (مرحلة المراجعة)، الآن هناك مراجعات كبيرة في كل المدارس، لكن هذه المراجعات تختلف من مجموعة إلى مجموعة ومن فرد إلى فرد ومن جماعة إلى جماعة، نحن في (مؤسسة رؤية للفكر) نُسرِّع من هذه المراجعات، يعني المراجعات ستحصل بنا ومن غيرنا، نستضيف المفكرين، وأصحاب التجارب لكي يرووا لنا مراجعاتهم وآخر أفكارهم وتجاربهم.
هذه (مرحلة المراجعة) المرحلة الثانية التي يغلب عليها العقل والنقد، فيها قسوة شديدة، إذ من الصعب جدًا على جماعة نشأت على فكرة، وضحّت من أجلها وقدّمت الشهداء والاعتقالات، وقدّمت الذين أُعدموا والذين استُشهدوا، من الصعب أن تقول لها: منهجك يحتاج إلى مراجعة، صعب عليها أن تُسلّم بأنها مخطئة!
 لهذا نحن الآن نعيش في المرحلة الثانية مرحلة استقطاب فكري شديد، حُرّاس الأفكار القديمة يدافعون عن أفكارهم وتجاربهم، والشباب الصاعد الذي يفكّر بالتغيير والمراجعة ينقد بشدة.. لهذا الآن نحن نشهد (زلازل) منها ظاهرة الإلحاد التي تعتبر طبيعية، نظراً للانتقال من  مرحلة عاطفية إلى مرحلة عقلانية، النسخة الإسلامية تحتاج إلى مراجعة وإلى تغيير حتى تُقنع شباب القرن الواحد والعشرين!
 المرحلة الثانية يتم فيها البحث عن الأداة الذهبية، عن الأفكار الصالحة للعبور إلى العصر الجديد، عندما نكتشف هذه الأفكار وتُعمّم وتتبناها مجموعة، نسميها (الكتلة الحرجة)، وهي مجموعة لا يمكن تجاوزها، تؤثّر في الواقع، حينها ندخل في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة (الاستقرار والعمل)، نكون قد اكتشفنا أدواتنا الذهبية، اكتشفنا الأفكار الصحيحة، تخلينا عن التجارب العاطفية والتجارب التي أثبتت فشلها، وعندها يتحوّل أغلب المجتمع في مرحلة العمل، فغالب المشاريع تصبّ في اتجاه واحد.
إذن، المرحلة الأولى عاطفة المرحلة الثانية عقل، المرحلة الثالثة عمل، وهذه هي مرحلة النهضة، بعد أن نمضي مدة من الزمن ويصبح العمل كله بالاتجاه الصحيح، عندها ندخل في دورة حضارية جديدة، وتأتي المرحلة الرابعة وهي مرحلة الازدهار وقطف الثمرة، ونحن الآن أستاذ عبد الله في المرحلة الثانية، مرحلة المراجعةـ، كانت هذه أهم الأفكار وبقية الأجزاء سنتعرض لها أثناء الحوار إن شاء الله.


    جزاكم الله خيرًا دكتور، طرح جميل جدًا، شخصت فيه الواقع، يسأل أحد المتابعين: لماذا لم نتمكن من المساهمة في الحركة الحداثية؟

تنتمي المرحلة الحداثية إلى المرحلة الثانية العقلية، التي نحن فيها الآن، المرجو من هذه المرحلة بعد المراجعات أن تتبلور عندنا مجموعة من الأفكار، هذه الأفكار كانت تمثل عند الغربيين ما يسمى بأفكار الحداثة، التي قامت عليها النهضة الأوروبية، لكن لكل أمة حداثتها وبصمتها، فالذين يريدون استنساخ الفكرة الغربية كما هي إلى ديارنا لن ينجحوا في هذا، الحداثة عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار، بعضها يخص ويناسب أقواماً ولا يناسبنا، يشبهونها بأننا مثلاً نمتلك سيارة مرسيدس ونريد أن نضع فيها قطعاً أخرى  نأخذها من سيارة الBMW ، وهذا لا ينفع!
 لدينا واقعنا وبصمتنا وهويتنا وديننا المؤثر فينا، لو جئنا بشيء يخالف المبادئ والقيم العامة، فلن ينفع معنا، مثل التحرّر الزائد والإباحية لا تنفع معنا لأنها تنتمي لمجتمع مختلف عنا، فلدينا قيمة اسمها: (الستر) وقيمة اسمها: (العفّة والدين والحياء).
–مثلاً- في سورية توجد بعض المنظمات الغربية التي تريد أن تقيم دورات عن الجندرة وعن حقوق الشاذّين وكذا، هذه أمور تناسبهم حتى أنها تلقى معارضة في ديارهم فهي غير متفق عليها، بل وحتى عندهم الكنيسة واليمين يعارضانها، فهؤلاء يريدون أن يستنسخوا نسخة غريبة عن جسمنا ويضعوها كما هي عندنا، هذا لا ينفع.
وفي الطرف الآخر أيضاً بعض الإخوة الكرام لا يقبل شيئاً من أفكار الحداثة، ويقول أنّ كل هذه الأفكار تنتمي للحضارة الغربية ولا نريدها، يعني لا إفراط ولا تفريط، ليس كل ما في الحضارة الغربية مرفوض، وعندي تحفّظ كبير على كلمة الحضارة الغربية، فهي نتاج مما عندنا، نحن ساهمنا في إنتاج الحضارة الغربية، نحن نعترف بأنهم بنوا حضارتهم بناءً على كتاباتنا، كما في كتاب: شمس الله (العرب) تسطع على الغرب، ومثل ديكارت أخذ جزئيات من منهج الإمام الغزالي، نحن ساهمنا في هذه الحضارة ولنا بصمتنا فيها، وهي ثمرة لحضارة إنسانية،  فالمشترك الإنساني نستطيع أن نستفيد منه.
الأخ عبد الله، والإخوة الكرام المشاهدين، عمل المفكرين المصلحين الآن هو إيجاد أفكارنا الحداثية، نجد أن بعضهم يقترب من اليمين وبعضهم يقترب من اليسار، وهذه الاجتهادات في اختيار الأفكار الحداثية الخاصة بنا، كما لا يوجد أحد يدعي أنه سيجلس ويبدأ من الصفر، فهم بنوا على ما بنينا أصلاً في الحضارة بين الأمم، فعلينا أن نستفيد من أفكارهم كما  اعتمدوا هم على أفكارنا، فالحضارة دُولة بين الدول، فالحضارة كانت شرقية ثم انتقلت للغرب والآن الحضارة تتجه شرقاً، ونحن الآن نساهم والمفكرون يساهمون في صنع أفكار الحداثة الخاصة بنا.

 

    أحسنتم دكتور، لدينا سؤال آخر، حبذا لو تعطينا لمحة عن أنواع المشاريع الفكرية ولمحة عن أهدافها، وكيفية قياس النتائج والتأثير، كمثال مؤسسة رؤية الآن لديكم رؤية حقيقية، لديكم قيادات داخل المؤسسة، أنت المدير العام للمؤسسة فلو تعطينا مثال حقيقي كي نقرب الصورة لمتابعينا الأعزاء؟


    أشكرك على هذا السؤال أستاذ عبد الله، أهم فكرة إخواني لا يوجد شيء (مسبَق الصنع)، نحن في رؤية دخلنا الآن في السنة الرابعة من تأسيسها، أصدقك والله يا أستاذ عبد الله والإخوة المتابعين إلى الآن ما زلنا نبلور أفكارنا، إلى الآن نحن (صندوق مفتوح) نستمع ونقرأ ونناقش ونستضيف هذا وذاك ونستفيد من الجميع ونبني الرؤية الفكرية، فإن كان هناك أمر مطلق نقيده ببعض الضوابط، وإن كان هناك تضييق نزيل بعض الضوابط..
 فإذا أردتُ أن أُلخّص الموضوع، فالأفكار (مشروع مفتوح) بمجرد أن نقول أننا وصلنا للنسخة النهائية نكون قد حكمنا على أنفسنا بالجمود وسيتجاوزنا الزمن، هناك أمر مهم جداً أيها الإخوة والأخوات، الدكتور بشير نافع المفكر الفلسطيني المعروف صاحب سلسلة إسلاميون، يقول: نظرية ابن خلدون رحمه الله تعالى،  ودورة الحضارة لم تنطبق على الحضارة الغربية، نظرية ابن خلدون باختصار: (نشأة، ازدهار، تكلس ثم اندثار)، أي مثل مراحل نمو الإنسان (قوة رجولة ثم كهولة واندثار)، يقول الدكتور بشير نافع: لماذا هذه الدورة لم تدخل على الحضارة الغربية؟! لسبب واحد هو أن أفكارها متطوّرة، مجرد أنها أغلقت أفكارها ستندثر ويتجاوزها الزمن، لذلك الأفكار الليبرالية والرأسمالية ما زالت مستمرة لأنها دائماً تطوّر نفسها..
 فنحن في مؤسسة رؤية أهم فكرة نطمح إلى ترسيخها هي عدم الجمود، وأن نبني دائماً، فالمشروع الفكري مشروع مفتوح، دائم التطوير، لن يقف وينبغي دائماً أن لا نتوقف إلى قيام الساعة!


    صحيح جزاكم الله خير، لدينا سؤال مهم، الأهداف الذكية تستخدم في التخطيط للمشاريع، أين نجد أنّ (الوقت) لابد أن يكون محدداً، السؤال: هل سنحتاج مائة سنة أُخرى للمراجعة؟ يعني مائة سنة ونحن في مرحلة الانبعاث، ونحن فقط عاطفة واندفاعات في الأفكار كذلك، والآن انتقلنا لمرحلة المراجعة، وأنا سوف أُسلّم معك في هذا، في مرحلة المراجعة الآن التي يقف عليها العقل والنقد هل نحتاج أيضاً مائة سنة؟ وأريد الإضافة على نفس المقياس، هل بعد أربعمائة سنة سوف نقطف الثمرة؟


    سؤال جميل جداً، هذا السؤال مُلِح ودائماً ما نتذاكر حوله وهو هاجس، (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء:37]، الإنسان بطبيعته يستعجل المدد الطويلة.
 أولاً أحب التأكيد أن الفواصل الزمنية فواصل وهمية، نحن نتكلم عن شيء يغلب على فترة من الزمن، والفواصل بين هذه المراحل فواصل وهمية تقريبية.
حتى المسارات في مجالات الحياة ليست متساوية، تجد في بعضها تقدّم كبير وبعضها تأخّر، وبعضها جمود، فهذه الفواصل الزمنية وهمية تقريبية، إلى الآن يوجد أناس يعيشون بعقلية القرن السابع الهجري، يوجد أٌناس الآن بيننا بعقلية الواحد والعشرين وقبلها وربما الاثنين والعشرين، فقصدي ليس الكل بسوية واحدة وليست كلها مسارات متساوية، فليس الكل متخلفين مثل بعضهم، فبعضهم متقدم، بعضهم متأخر كأفراد وكجماعات في مساقات، فهل أمتنا متخلفة من حيث الالتزام بالدين أو الترابط الأسري؟ أمتنا متقدّمة في هذين المجالين، طيب تقنياً متخلفة، في كل التقنيات؟ وهكذا فلا يوجد عندنا قواطع.
 هل نحتاج إلى مائة سنة؟ هذا الشطر الثاني من السؤال، لا نحتاج إلى مائة سنة لأن الزمان الآن تقارب بفضل الفضائيات والإنترنت وبفضل هذا البث المباشر الآن و كلٌ منا في بلد، فالزمان تقارب والتجارب تقاربت، إخواني كان في عصر من العصور قبل ظهور هذه الوسائل أحد أعلام المسلمين مات بالأندلس فاستغرق خبر وصول وفاته إلى مدينة فاس بالمغرب ثلاثة شهور، أما الآن فهو على الفراش خبره يصل بنفس اللحظة وبنفس الدقيقة، إذاً هذا التقارب إن شاء الله يخفّف كثيراً من الزمن المطلوب.
    تطرق الدكتور طارق السويدان إلى هذا الجانب، أنه إن شاء الله قد تكون رؤية المراحل كل مرحلة تحتاج إلى عشرين سنة وقد تحتاج إلى مائتين سنة حتى نصل إلى الحضارة الإسلامية التي تقود العالم من جديد.


    لدينا سؤال آخر: هل مظاهر الاختلاف بين أنصار الفكر القديم وأنصار الحداثة والمراجعة ستبقى مستمرة بوضوح في كل المراحل الأربعة التي ذكرت؟


    بالنسبة لحُراس القديم ودُعاة المعاصرة أو الحداثة أو التُراثيين والحداثيين، هذا الصراع سيبقى وهذا الصراع مهم و جميل وجيّد، لماذا؟ دعونا نشبه الدين والمبادئ والثوابت بعمود وسط الساحة، حراس التراث يدفعون بنا إلى الارتباط بهذا الأصل، ونحن نريد أن نتوسّع وننفتح،  وعملية الشد هذه بين المنفتحين والمنغلقين (التراثيين) عملية جيدة تخلق توازن في الفكر، حتى أن دعاة الحداثة والتشديد يشطحون وهؤلاء جامدون، فعندما نجمع الشطح مع الجمود يعتدل مزاج الأفكار، لكن بشكل عام ستخفّ حدة هذا الصراع والله أعلم. 
المتبنّون لأفكار المعاصرة والأفكار الجديدة سيكثُر أنصارهم وعندها ندخل في المرحلة الجديدة، نحن الآن ما زلنا في عملية شد عندما تصبح الكتلة الحرجة معاصرة عندها نستطيع الدخول في عصر جديد.
 مع أن البعض يقول ليس من الضروري للفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي والفاعل الحضاري أن يكون كل المجتمع يحمل هذه الأفكار، فيكفي للفاعل السياسي أن يتبنّى هذه الأفكار بالتحالف مع الفاعل الاقتصادي ويحققون تنمية.
 لكن المشكلة عندها يصبح هناك ازدواجية في المجتمع، فنجد أناساً متقدمون جداً وأناساً يعيشون في القرن السابع الهجري، وهذا نشاهده في تركيا يعني لو رجعنا إلى بعض المدارس الشرعية نجدهم يعيشون في القرن السابع الهجري والحكومة التركية تأخذ بآخر التطوّرات، فتجد فعلاً أنه لا يوجد تجانس، عندما تجلس مع بعض القيادات الإسلامية التراثية التركية، تقول في نفسك: مستحيل كيف حقّقت تركيا هذه النهضة؟ السبب أنّ الفاعل السياسي والاقتصادي والتنموي لا يتبنّى أفكار هذا  التراث وإنما تبنّى أفكار حداثية وانطلق!


    طيب ممتاز دكتور، لك ختام الكلمة، سعداء بهذا الحوار، وبما أنك تحدثت عن المشترك الإنساني الموجود في الحضارة الغربية وممكن أن نطرح في عمران كيفية الاستفادة منه في نهضة أمتنا أو في النسخة الإسلامية الجديدة التي تحدثتَ عنها وتكلمتَ بأنها تحتاج إلى مراجعة كي ننطلق إن شاء الله بالكتلة الحرجة وننطلق في مرحلة النهضة، لنصل إلى مرحلة الازدهار بأسرع وقت ممكن. 


 وأُبشّر الجميع أنّ المستقبل لنا إن شاء الله، ليس كلاماً عاطفياً وإنما واللهِ نراه رأيَ العين، هناك تيار شبابي كبير يج جزاك الله خيراً أستاذ عبد الله على هذا التقديم الرائع وهذا الحوار الممتع الذي استمر ساعة، وأنا من ناحيتي لم أشعر بالزمن وأشكر السادة المتابعين كلهم في منصة عمران، وأستاذنا الدكتور طارق السويدان حفظه الله تعالى.مع بين المعاصرة والأصالة، الأصالة فلا يوجد أمة تنهض إذا تجاوزنا هويتها، لا نريد نسخة غربية مثل الذي يأتي بنبتة من بيئة مختلفة -غير مناسبة- فلن تنبت هذه النبتة، فالمستقبل لنا والشباب متحمّس وديننا صالح لكل زمان ومكان، ويحتاج إلى اجتهادات معاصرة.
 القافلة تسير، والتقدّم يمشي وهذا الدين منصور، وهذه الأمة لن تقف هكذا، وأكبر دليل التضحيات التي نراها هنا وهناك، هذه الثورات تدل على أنّ امتنا أمة مستيقظة، أُمة تحتاج أن تكسر القيد وتنطلق.
 وهذا ليس كلاماً عاطفياً واللهِ لكن هذا واقع نعيشه ليلاً ونهاراً، كلما ظننا أنّ الأمة ليس فيها خير نجد انبعاثاً من هنا وهناك، لكن القافلة تسير وعلينا فقط الركوب فيها، والذي يركب ويمضي مع هذه القافلة ينال شرف الاشتراك في هذا النهوض، والذي يريد البقاء فلا سيطرة لنا عليه، جزاكم الله خيراً شكراً لكم ولا تنسونا من دعائكم.