رغم صغر مساحتها وحداثة استقلالها، استطاعت سنغافورة خلال 50 عامًا -منذ استقلالها عن بريطانيا وانفصالها عن ماليزيا- القفز عاليًا في ركب الحضارة والتطور وتحقيق إنجازاتٍ عظيمةٍ جعلتها تنضم إلى مصاف الدول المتقدمة، وفي الوقت الذي انعدمت لديها الموارد الطبيعية؛ استطاعت سنغافورة باهتمامها بمواردها البشرية أن تحقق معجزات في النمو الاقتصادي حتى وصلت إلى منافسة الدول المتقدمة في التطور والنمو الاقتصادي عبر تفوقها بالنظام التعليمي الذي يبدأ ببناء الإنسان لأجل اكتمال بناء الأوطان؛ في الأسطر الموالية  من هذا التقرير نبحر معًا في التجربة السنغافورية في مجال التعليم الإبتدائي .

 النهضة السنغافورية...التعليم الابتدائي هو السر

منذ استقلال سنغافورة عام 1965م، أخذ أول رئيس وزراء فيها "لي كيون يو" على عاتقه نقل بلاده من مصاف دول العالم الثالث إلى الأول، فنجح في تحقيق هذا الهدف نجاحًا باهرًا، وكان من أهم ما ركز مجهوداته عليه تطوير نظام التعليم في البلاد في سبيل تكوين كفاءات تساهم في بناء الاقتصاد وتحقيق التنمية المنشودة. وكانت أولى خطوات التطوير التركيز على التعليم الابتدائي الذي يعتبر اللبنة الأولى في مسيرة التعليم القوية والبنّاءة. واستمر اهتمام الدولة بتطوير التعليم عبر عقود حتى كان من ثمرات هذه المجهودات والخطوات الثابتة في الارتقاء في سلم التقدم بالنظام التعليمي أن احتلت سنغافورة المرتبة الثالثة عالمياً حسب تصنيف بيرسون للخدمات التعليمية الصادر عام 2014(1) بعد كل من اليابان وكوريا الجنوبية من أفضل النظم التعليمية في العالم في المهارات المعرفية والتحصيل العلمي. وحققت سنغافورة في اختبارات بيزا التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مرتبة متقدمة على الصعيد العالمي(2). 

 

 

جعلت سنغافورة من أهم أهداف نظام التعليم فرض التعليم الإلزامي على كل أفراد المجتمع دون استثناء، بحيث يتم فرض غرامة مالية على أولياء الأمور الذين يمتنعون عن إرسال أبنائهم إلى المدراس أو السجن أو فرض العقوبتين معاً. كما ركزت على توفير الكفاءات العالية في مراكز صنع القرارات وتنفيذها والتركيز على إعداد القادة بحيث يتم تهيئة وتدريب المعلمين الذين تتوفر فيهم موهبة القيادة لأدوار قيادية في أعمار صغيرة. 

إضافة إلى ذلك اعتنت سنغافورة بالطلاب الموهوبين، فأتاحتهم لهم أنشطة متعددة تسهم في اكتشاف ميولات والمواهب ثم إتاحة نظام تعليمي ينمي هذه المواهب في المرحلة الابتدائية. وتركز المناهج الدراسية على التفكير والاستنتاج والتحليل لخلق قدرة فائقة لدى الطلاب للتفكير الخلاق والتعلم الذاتي والعمل بكفاءة ضمن فريق، مستخدماً الأساليب التكنولوجية الحديثة وتشجيع المعلمين على التركيز على جودة التعليم وعدم قصر الاهتمام على غرض الإعداد للاختبارات(3) . وقد جعل القبول في المدارس بناء على القدرات المميزة للطلاب بصرف النظر عن تحصيلهم الأكاديمي، كما يقتصر اختبار الطلاب في الصف الرابع الابتدائي على أربع مواد هي: اللغة الإنجليزية – الرياضيات – العلوم – اللغة الأم. ويبدأ الاهتمام بالموهوبين من الصف الرابع الابتدائي وفقاً لاختبار وطني مقنن.

كيف تمكنت  سنغافورة من ريادة العالم  في التعليم الابتدائي؟ 

نهجت سنغافورة نهجًا فريدًا في سبيل تطوير النظام التعليمي والوصول إلى مراكز متقدمة تنافس أكثر الدول تقدماً وذلك من خلال(4) :

  • إلغاء الامتحانات للسنتين الأولى والثانية الابتدائية بدءً من هذه السنة.

  • تحِلّ المناقشات والواجبات المنزلية محلَّ الدرجات والعلامات.

  • لتقليل التركيز على النجاح الأكاديمي وتقليل البيئة التنافسية يتمّ جبر العلامات الكسرية إلى أقرب عدد صحيح والتخلي عن المنازل العشرية.

  • الابتعاد عن المقارنة بين أداء الطلاب، وتشجيعهم على التركيز لتطور التعليم الخاص بهم؛ وبناءً عليه يتم إلغاء ذكر ترتيب الطلاب سواءً كانوا من الأوائل أو المتأخرين، ويتمّ ذكر متوسط المجموع مع إلغاء الحد الأعلى والحد الأدنى للعلامات.

  • نهجت سنغافورة نهجًا يتناقض مع التعليم في الدول المجاورة التي تعتمد التصنيف التعليمي لبرنامج تقييم الطلاب الدوليين (PISA) التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

  • حددت سنغافورة معيار النجاح في الامتحان من خلال تحقيق متوسط قدره 1655 في المواد الأساسية الثلاثة التي يتم اختبارها في اختبار (PISA)؛ إذ تهيمن أنظمة التعليم في منطقة آسيا والمحيط الهادي على المراكز الأربعة الأولى، بحيث أظهرت هونج كونج واليابان ومكاو نتائج قوية في الامتحان وحققت بريطانيا المركز الثاني والعشرون، والولايات المتحدة الأمريكية المركز الثلاثين.

  • تهدف السياسات الجديدة في سنغافورة إلى تحقيق التنمية الإجتماعية بين التلاميذ لرفع الوعي الذاتي وبناء مهارات صنع القرار.

  • تتم مواءمة السلوك والممارسة داخل الفصل مع احتياجات مكان العمل المحلي حيث تجهز الدولة التلاميذ للعمل في قطاع الخدمات المتنامي.

  • من المقرر أن يتمّ تنفيذ سلسلة من برامج التعليم التطبيقي بحلول عام 2023 لتعزيز التطوير الذاتي ومساعدة الطلاب على اكتساب مهارات العالم الحقيقي.

  • تسمح البرامج للطلاب بالانغماس في مواضيع معبرة مثل الدراما والرياضة فضلًا عن المزيد من المجالات التي تركز على الصناعة مثل أجهزة الحاسب الآلي والروبوتات والالكترونيات.

  • عينت وزارة التعليم فريقًا من مسؤولي التوجيه المهني لتغيير المفاهيم الحالية ودفع تطلعات الطلاب إلى ماهو أبعد من العمل في الخدمات المصرفية والخدمة المدنية والطب.

  • يشير تقرير مستقبل الوظائف للعام 2018 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الموظفين سيشهدون معدل تحول قدره 42% في مهارات مكان العمل من الآن وحتى 2022.

  • سوف تصبح المهارات التي يركز عليها الإنسان أو المهارات المرنة مثل التفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة ذات أهمية متزايدة؛ يحذر التقرير المذكور من أنه لمواكبة الأمر سيتعين علينا جميعاً أن نصبح متعلمين مدى الحياة حيث يحتاج الموظفون إلى تدريب 101 يوماً أومهارة بحلول 2022.

  • تعمل سنغافورة على تكييف الأنظمة التعليمية لمواكبة هذه التغيرات.