من نعم الله تعالى وفضله أن جعل لنا أياماً مميزة، تتوالى علينا من رحمته فمن فاته فضل بعضها يستدرك فيما بقي، ومن أحسن يزيد إحساناً وما ذلك إلا من رحمته التي وسعت كل شيء، عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا) أخرجه الطّبراني. وكانت من تلك الأيام الأيام العشر الأولى من ذي الحجة. وقد قال تعالى مُقسماً في الآية الثانية من سورة الفجر: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) واللَّيَالِي الْعَشْر الْمُرَاد بِهَا عَشْر ذِي الْحِجَّة كَمَا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن الزُّبَيْر وَمُجَاهِد وَغَيْرهم.

ليالٍ تبدأُ بغُرة ذي الحجة، وتُختَمُ بالعيدِ الكبير !

و قد ثبت في صحيح البخاري، عن ابن عباس مرفوعاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام" -يعني عشر ذي الحجة- قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

فأصبحت هذه العشر من أفضل أيام العام وأكثرها أجراً.

عيدُ الطاعة المُطلقة.

 بدأ حياته باحثاً عن الحق فهداه الله له، وسط مجتمعٍ يعبُدُ الأصنام ويُقدسها جاء باحثاً للحق فأصبح عارفاً به، كذبه الجميع ولم يسلم من أحدٍ حتى والده ! تعب كثيراً لأجل إظهار الحق لهم لكن الهادي هو الله، و في محاولةٍ لردّهم قام بكسر الأصنام تاركاً كبيرهم ليُعلِمَ قومه أن لا حول ولا قوةَ لذلك الصنم، فجازوه بالنار وواساه الله، و أي مواساةٍ تلك؟  مواساةٌ تجعل من النار المُحرقة بذوراً في نفس إبراهيم أن أنا ربك القريب المُجيب والمُنجي، فكانت (كوني برداً وسلاماً)، ولم تحرق النار غير قيوده و لم تُشعل إلا النور في قلبه. رُزق بالحكمة وسرعة البديهة فاستطاع بعدها أن يُسكِتَ النمرود حين قال له : "أنا أحيي وأُميت" قائلاً : "أن الله يأت بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب !" واستمرت حياة النبي الكريم مؤدياً لرسالته حيث تزوج سارة، وهاجَرَ لفلسطين ثم لمصر حيث تزوج بهاجر، و في عمرٍ يناهز السادسة والثمانين رزقه الله بإسماعيل عليه السلام، أول أبناءه، إبنٌ يحمل عنه ويتابع من بعده تأدية الرسالة وتبليغ الأمانة..

أصبح إسماعيلُ شاباً يافعاً ترعرع على الطاعة والثقة بالله، وذات يوم جاء والده النبي الكريم مُحدِثاً له بأن : " يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ"، ويعلم الوالد وإبنه أن رؤيا الأنبياء حق، وأنه أمر . من جهة الوالد لم يكُن هناك أي تردد فهو أمرٌ إلهي والنبي يعرف جيداً معنى أن يثق بالله الذي أنجاه في بداية رحلته من النار وقد ربا إبنه على ذلك، لكن وليطمئن قلبه قال له: "انظر ماذا ترى"، ما رأيك وأنت الشاب وحيد والدك الذي بدأت تسعى معه، هل يذبحك؟ فكان إسماعيلُ أهلاً للثقة والرسالة، و الله لا يختار أنباءه ولا يُحمِّل رسالته إلا للذي يستحقُ ويستطيع: "يا أبتِ افعل ما تُؤمر، ستجدُني إن شاء الله من الصابرين"، تسليمٌ تام و توكُلٌ لا مثيل له.

ذهبا عند صخرةٍ في الصحراء، الإبن يقول لا تنظر لعيني حتى لا تحن، احني الجبين و سلم الأمر، وعندما شرع الوالد ليذبح، جاء الأمر الإلهي مُبشراً أن هنيئاً لكما، هذا هو البلاء المُبين، الإمتحان الأصعب الذي تجاوزه الأب وابنه في قصةٍ لا مثيل لها، و جاء الكبش الفداء ليكون فداءاً لإسماعيل الإبن المُطيع، فجاءت سُنة الذبح للمسلمين في الحج وفي منازلهم بعيدٍ كبير يستعيدُ فيه المسلمين هذه القصة العظيمة التي أراد الله لها أن تُخلّد ما دام في الأرض العباد. عيدٌ يستعيد فيه الجميع معاني التخلي عن الدُنيا لأجل طاعة الله، معاني أن لا شيء أولى من أمر الله، ولا مُنجي لنا إلا إياه و لا أرحم بنا منه.

استمر النبيان في رحلتهما وكان لهُما شرف بناء قواعد البيت الحرام، وكان سيدنا إبراهيم يبني ويقف على حجر يبلغ من الطول نصف متر تقريباً وابنه يناوله الحجارة حتى ظهر على الحجر أثر قدمي إبراهيم غائصتان فأصبح مقاماً يُصلي خلفه الناس ركعتي الطواف.

وكان فيهِنَ الحج!

 الرُكن الخامس من أركان الإسلام، واجبٌ على كل مسلم بالغ عاقل مقتدر. يجتمع فيه المسلمون من جميع أنحاء العالم لتأدية عبادةٍ مُوَحدَة، لا فرق فيها بين غنيٍ وفقير، الحجُ حيث لا مكان للطبقات الإجتماعية الزائلة والجميع يعيش روحانياتٍ عالية، مُكبرين مُهللين، طامعين في الرضا وفي الرجوع مغفوراً لهم كما ولدتهم أمهاتهم، يعيشون مراحله بكُل ما أوتوا من مشاعر، حيث لا جدال ولا رفث ولا فسوق في الحج. يتجه الركب السائر بالطاعة إلى مِنى فى يوم الثامن من ذي الحجة والذي سُميِ بـ"يوم التروية" وقد سمي يوم التروية بهذا الاسم؛ لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ذبح إبنه في تلك الليلة، وأصبح يروي ويقول أهو أمر من الله تعالى أم حلم؟ وقد قيل أيضاً إنّ سبب تسميته بهذا الاسم، لأن حجاج بيت الله كانوا يرتوون من الماء فيه لليوم التالي وهو يوم عرفة، و ما أدراك ما عرفة؟!

 نذهبُ في التاسع من ذي الحجة من منى 10 كيلومترات، إلى جبلٍ وردت ثلاث قصص عن سبب تسميته لكنها جميعاً تتفق على التعارُف، معرفة المناسك والعباد والرحمة، و معرفة القُدرة الإلهية، جبلُ عرفات، فقد ورد عن تسميته أنه مكان إلتقاء سيدنا آدم بأُمنا حواء على الأرض فكان تعارفهما على ذلك الجبل. والثاني أنه مكان نزول جبريل لسيدنا إبراهيم معلماً إياه المناسك والمشاهد، طائفاً به على الجبل مُردداً : "أعرفت؟ أعرفت؟" فيجيب إبراهيم "عرفتُ، عرفت". أما ثالثها فهو لإلتقاء العباد من جميع أنحاء العالم فيه فيتعارفوا على بعضهم البعض وعلى ربهم. يوم عرفة حيث يعترف الجميع بذنوبهم راجيين وطامعين في رحمة الله ومغفرته، في يومٍ تتنزل فيه الرحمات، وتُعتَقُ فيه الرقاب، وهو من خير الأيام التي يستحب فيها الله عمل الخير. فكان فضله لغير الحجيج أيضاً، فجاء صيامه مُكفراً فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "صيامُ يومِ عرفةَ، أَحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعده"[1]، لكن لا يجوز للحاج صيامه لما يلقاه من تعبٍ وجهد عند الوقوف..

يتجه الحجيج ليلة العاشر من ذي الحجة لمزدلفة ويبيتون فيها فتكون ليلة العيد، أساريرهم متهللة و نفوسهم مطمئنة أن بلغهم الله الحج ببلوغهم ليوم عرفة.

فضلها واسع

 فضل هذه الأيام لا يقتصر على الحجيج فقط، بل إنها عامة ومن العبادات المأثورة فيها التكبير والتهليل والتوحيد وذكر الله كثيراً، و لِما في الصوم من فضلٍ وأجر يفوز الموفقين بصيام هذه الأيام المباركة فتُرفَعُ أعمالهم بأحب العبادات.

ختامُها عيد

عيدٌ يستمر لأربعة أيام، من العاشر وحتى الثالث عشر من ذي الحجة، من أسماءه "عيد الأضحى" و"يوم النحر" و"العيد الكبير" و"عيد الحجاج" و"عيد القُربان"، تتفق جميعها في القُرب والعطاء، حيث يقدم المؤمنين جميعاً حُجاجاً و غيرهم أُضحياتهم متصدقين منها للفقراء والمساكين، فتعم معاني الإخاء والرخاء الجميع، فرحين بما آتاهم الله من رزقٍ وفضلٍ بأن بلغهم هذه الأيام، مستذكرين لقصة الفداء الأعظم والقُرب الأسمى.

كل عام وأنتم إلى الله أقرب، تقبل الله منا ومنكم.