يعتبر موضوع الصحة من الشواغل الأكثر أهمية في مجال التنمية في المجتمعات، سواء المتقدمة منها أو المتخلفة، كما توصف من من بين أهم العوامل التي تساهم في تحقيق التنمية المستدامة وأحد مؤشراتها على حد سواء؛ لذلك اهتم الخبراء والعلماء والأطباء خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير في هذا المجال الحيوي ودراسة تأثيراتها وأهم العوامل التي تساعد على تعزيز صحة الإنسان العقلية والنفسية.

 

تمثل الصحة قيمة في حد ذاتها، وتعتبر كذلك مفتاحًا لزيادة الإنتاج ورفع الإنتاجية سواء إنتاجية الفرد أو المجتمع بصورة عامة، لذا يُنظر إلى التنمية الصحية على أنها عنصر هام في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومن غير الممكن تحقيق تنمية حقيقية دون تحسين وتطوير الأوضاع الصحية للإنسان الذي هو نواة التنمية وهدفها، ذلك أنّ الإنسان المكتمل صحياً هو القادر على بناء تنمية صحيحة ومستدامة.

 

ومن جانب آخر، إذا ما كان العامل المباشر والرئيسي في مجال الصحة هو التحكم في المرض والتطبيب لمعالجته، فإنّ هناك عدة عوامل حاسمة، والتي تقع خارج نطاق التحكم المباشر لقطاع الصحة، ويقترن ذلك بقطاعات المياه والصرف الصحي والتعليم والحياة الحضرية والريفية والإسكان والطاقة والزراعة وخاصة البيئة.

 

ويجمع خبراء الصحة النفسية على أنه لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة دون سكان أصحاء، إذ تمثل الصحة قيمة في حد ذاتها، وتعتبر كذلك مفتاحاً للإنتاجية والرخاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ذلك أنّ الكثير من حالات التردي الصحية والصحة المعتلة تؤثر تأثيراً كبيراً في النمو والتنمية في المجتمع.

 

وأصبحت الجوانب الصحية بوصفها قضايا إنمائية ومهمة في حياة المجتمعات تُتناول على مستوى اجتماعات مجلس الأمن ومجموعة الثمانية والمنتدى الاقتصادي العالمي ومنظمة التعاون والنمو الاقتصادي بشكل صريح، حيث نص المبدأ الأول من إعلان ريـو للبيئة والتنمية على أنّ "الاهتمام بالبشر يقع في صميم الاهتمامات المتعلقة بالتنمية المستدامة، ويحق لهم أن يحيوا حياة صحية ومنتجة في وئام مع الطبيعة".

 

لذا؛ لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة مع تفشي الأمراض المهلكة، كما يتعذر الحفاظ على صحة السكان دون وجود تنمية مستدامة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فعلى سبيل المثال، فتك فيروس نقص المناعة بملايين البشر في أكثر سنوات أعمارهم إنتاجيةً، كما أنه لا يزال تلوث الماء والهواء يودي بحياة الملايين كل عام، أغلبهم من سكان الدول النامية.

 

وفي هذا الإطار تؤكد منظمة الصحة العالمية أنّ "التنمية الصحية للفرد تؤدي إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية". فالصحة الجيدة تعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتساهم في الاستقرار الاقتصادي والحماية البيئية. لذلك فإنه من أهم غايات التنمية المستدامة هو حق كل إنسان بالتمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه، خاصة وأنّ هناك اتساعا لمفهوم الصحة، فلم يعد مفهومها يقتصر على عدم وجود المرض، بل تعداه ليشمل حالة كاملة من الأداء العقلي والجسدي، وبذلك يتسع مفهوم الصحة ليشمل ميادين أخرى ذات تأثير مباشر عليها، إذ أنّ العديد من العوامل الحاسمة في ميدان الصحة والمرض تقع خارج نطاق التحكم المباشر لقطاع الصحة، ويقترن بالقطاعات البيئية والمياه والصرف الصحي والزراعة والتعليم والحياة الحضرية والريفية والتجارة والسياحة والإسكان والأمن. ويمثل التصدي لسلبيات هذه العوامل مفتاحاً لقيام تنمية صحية مستدامة، بمعنى تحسن مطرد في قطاع الصحة على المدى الطويل.

 

كيف يمكن أن نحافظ على صحتنا العقلية والنفسية؟

 

السير في الغابات الخضراء والحدائق العامة تزيد من شعور الإنسان بالهدوء والطمأنينة والاسترخاء والتفكير الإيجابي في كثير من الأحيان، وهذا الشعور الذي لم يأت من فراغ، شغل خلال السنوات الأخيرة خبراء الصحة العامة، وأبدوا اهتماماً كبيراً في دراسة هذه الحالة والوقوف عندها.

 

يربط الخبراء قضاء الوقت في الطبيعة بفوائد متعددة للصحة العقلية منها تخفيف التوتر والإحساس بالرفاهية، بل وجد باحثون من جامعة ستانفورد الأمريكية العام الماضي أنّ المشي لمدة 90 دقيقة في الغابات والمناطق الخضراء يؤدي إلى انخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب.

 

وأظهرت دراسة نشرت في موقع (JAMA Open Network) في يوليو 2018 أنّ زراعة الأراضي المهجورة في المناطق الحضرية يُحّسِن الصحة العقلية لسكان المدن المحيطة بهذه المناطق، وأجري البحث على مجتمعات تقع بالقرب من أماكن كانت مهجورة وممتلئة بالقمامة والأعشاب المرتفعة في ولاية فيلادلفيا الأمريكية، وعمل الفريق البحثي على إجراء مقابلات مع السكان قبل وبعد زراعة المنطقة بالأشجار والحشائش الخضراء، وأفاد 68.7% من السكان هناك أنهم يشعرون بالاكتئاب.

 

وأنشأ الباحثون فريقاً من العمال لتطهير المكان من القمامة وزراعة الأعشاب والأشجار من جديد، وبعض الأماكن اقتصرت على التنظيف من الأوساخ فقط والعمل على صيانتها بشكل دوري. وقبل البدء بعملية التنظيف والتشجير والتخضير، أجرى الفريق البحثي المكون من أطباء وخبراء الصحة مقابلات مع أشخاص يسكنون بالقرب من الأراضي المهجورة.

 

واكتشف الفريق وجود علامات تدل على ضعف الصحة العقلية والنفسية، وأجاب السكان على عدد من الأسئلة منها الشعور بالتوتر والاكتئاب والقلق واليأس والنظر لذواتهم بسلبية مفرطة، لكن هذه النتائج انقلبت رأساً على عقب بعد عملية مسح على نفس المنطقة أعقب عملية التشجير وزراعة الأعشاب الخضراء، حيث شهدت مشاعر الاكتئاب لدى السكان قرب المناطق الخضراء انخفاضاً بنسبة 41.5%، مع تراجع نسبة الصحة العقلية السلبية بنسبة 62.8% مقارنة بأولئك الذين عاشوا قرب المناطق التي بقيت مهجورة، كذلك تراجعت نسبة الجريمة والعنف وإطلاق العيارات النارية بنسبة 29% في المناطق الحضرية والمساحات الخضراء مقارنة بالمناطق الشاغرة والمهملة.

 

هذه البيانات والدراسات تدفع الحكومات والبلديات المحلية والمستثمرين في المجالات الصحية إلى الاهتمام بشكل كبير بهذا الجانب الحيوي والمهم وإجراء عملية إعادة هيكلة للمساحات الخضراء، لما له من تأثير إيجابي على الصحة العقلية والنفسية للسكان الذين يعيشون في هذه الأحياء.

 

ويمكن تحقيق ذلك بطريقة فعالة من حيث التكلفة وسرعة الإنجاز والحصول على نتائج ملموسة في المدن ذات البيئة المحيطة الضارة، أو على الأقل أهمية تعرض الأشخاص والعائلات، الذين يعيشون في بيئات حضرية مرهقة وفوضوية، للبيئات الطبيعية كون ذلك يساهم بشكل كبير في استعادة الصحة العقلية لديهم والشعور بالإيجابية وطرد الاكتئاب والقلق والتوتر.

 

هذه البيانات ونتائجها الملموسة تمثل دافعاً لأطباء الرعاية الصحية المهتمين بالتأثير الإيجابي على السكان، مقابل التخلص من البيئات الضارة والفوضوية التي تؤثر سلباً على صحة المرضى، كما تمثل هذه البيانات فرصة لصُناع القرار من السياسيين ورجال الأعمال المهتمين بزيادة الاستثمارات البلدية في معالجة المساحات المنكوبة باعتبارها وسيلة غير مكلفة وقابلة للتطوير، بهدف تحسين الصحة العقلية والنفسية وتقليل نسبة الجريمة، لاسيما في الأحياء منخفضة الموارد.