التعليم وما أدراك ما التعليم باب من أبواب التحضر، فمن أراد أن يتقدم فعليه بجودة التعليم، وما التأخر إلا لرداءة التعليم.

مناهجنا التي نحتناها مُتأزّمة من عديد الجوانب، ومن بين هذه الجوانب البالغة الأثر "المادة" المهملة في مقرراتنا وفي عقولنا، فلو كانت مهملة في مقرراتنا وحاضرة في عقولنا فلا مشكل؛ لأن العقل ساعتئذ يمكنه التعديل أو التكييف، المشكلة أنها مفقودة في كلتا الحالتين في مقرراتنا، وفي عقول مدرسينا.

تساهم المادة في توصيل المعلومة، كما أنها تختصر المسافات وتُبقي الطاقات وتزودنا بوافر الأوقات، فما نبذله من جهد كثيف ومن وقت ليس بالقصير من أجل توصيل معلومة ما، المادة تختصر كل هذا الجهد في مشهد واحد ماثل للعين قد لا يستغرق معدّهُ دقائق لكي يعدهُ؛ لذا المادة ناجزة وذات أثر محسوس ممدود، ونحن نتحدث بوجه الخصوص عن السنوان المبكرة للتعليم، وسنضرب أمثلة حتى يتضح المعنى.

المثال الأول: سنختار موضوع النبات للحديث عنه بما أنه دائم الحضور في مناهجنا.

نُحدث الطلاب عن أسراره، مكوناته، احتياجاته، وفائدته، ونستغرق في ذلك الوقت الكثير، ونبذل قُصارى الجهد، ونستعمل الكثير من المعاني والمصطلحات والتي أحيانًا تكون غريبة على الطالب، أو قد يتقدم في مراحل التعليم ولا يفهم ماذا تعني، أو قد لا يتعرض لها بعد ذلك البتة، وفي الأخير لو كنَّا ماديين بامتياز نطالبه برسم يوضح الشجرة؛ في حين لو أننا خرجنا خارج قاعة الدرس إلى الحديقة المجاورة سيُّفهم الموضوع في بضع ثوان وبكل تفاصيله، بل قد نشرح له مواضيع أخرى متصلة بذات الموضوع.

المثال الثاني: لو همَّ أستاذ بشرح مكونات الكون لطلابه سيستغرق الكثير من الوقت، والكثير من المفردات والمصطلحات؛ حتى يوصل معنى كلمة الكون قبل أن يشرع في شرح باقي المكونات، وعلاقتها ببعضها البعض، في حين لو أنه تصالح مع المادة؛ لأوصل معلومات الكون بأقل وقت وجهد وبأوضح صورة ممكنة، وذلك من خلال احضار مجسم للكرة الأرضية يَظهَرُ عليه مكوناتها، تربة، وماء، وهواء بطريقة ما، وحيوان، وإنسان، مع مجسمات لبقية الكواكب؛ حينها يفهم الطلاب موضوع الدِّراسة بأجود طريقة، وتترسخ المفاهيم بأكثر مما نتصور.

المثال الثالث: لو أردنا أن نوصل للطلاب موضوع الحرية، سنستغرق الكثير من الوقت، ونستعمل الكثير من المفردات والمعاني والأمثلة؛ لكي يُّفهم الموضوع المطروح للدراسة، ناهيك عن تباين حيوية الموضوع في ضمائر المدرسين، وفي الأخير لو كنا مُتمكنين سيّعي بعض الطلاب، أما البقيَّة فلن تستوعب معنى الحرية في أصله فضلًا عنها واقعيًا، في حين لو قمنا بالوصال مع المادة لأصبح الشأن شأنًا آخر من خلال تمثيل الموضوع (الحرية) كمشاهد على شكل أحداث في القسم، حيث يقوم طفلين بتمثيل دورين أحدهما دور الإنسان السيد، والآخر دور الإنسان العبد؛ فيُّعامل الإنسان العبد معاملة سيئة، ويظهَر السيد أيضا يُّعامِل المفعول به بِمعاملةٍ فظّة ومن يراه لا يتمنى أن يكون مكانه، ومآلات هذه المعاملة السيئة على العبد وأهله في المجتمع، وأطفاله بين الأطفال، بهذه الصورة المعاشة سيبقى الموضوع لاصقًا في ذاكرة المشاهد أكثر من آلاف العبارات المنمقة، التي ما إن يضع قدمه خارج القسم؛ حتى تبدأ آلة النسيان في عملها الدؤوب كما هي عادتها المجربة منا.

خلق المولى عز وجل الكون من مادة، ونزل على هذه المادة معاني –كلامه– المتمثل في: الكتب السماوية، وبهذه المعاني ترتقي المادة، فالكون كله عبارة عن مادة، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يخلق المادة منعزلة عن المعاني، وفي المقابل لم يخلق المعاني منعزلة عن المادة، بل خلق المادة وأضاف إليها المعاني التي تسيّرها وتضبطها؛ لذا حاشاه أن يخلق المادة عبثا، بل خلقها ليسخرها لهذا –السيد الإنسان– وما على هذا الإنسان إلا أن يستعملها ويتدبرها من أبسط دقائقها إلى أعقدها.

ومما تقدم، يتبيّن لنا ضرورة ألا نُهمل المادة ونحن نزيّن مناهجنا بأبهى العبارات والمعاني، وعلى عقولنا أن تفهم أن المادة ملازمة للمعاني، إذ لا يمكن فهمها بدون مادة والعكس صحيح؛ بل قد تكون المادة أكثر فاعلية من المعاني منعزلة كما بيَّنا في الأمثلة المذكورة سلفًا.

ومما أنصح به الجهات المسؤولة أن تعمل على إعداد أقسام شبه مخبرية، وعلى كل أستاذ أن يتسلح بسحر المادة، وأن يسعى لكي تتوفر قاعته التدريسية على شبه مخبر، بحيث يحتوي على كل ما يتعلق بمواد التدريس النظرية حتى يتيسر عليه الأمر، وتكون المدخلات أكثر فاعلية والمخرجات ذات ثقل وكفاءة.