عندما يتم تشييد بناء ينصب الاهتمام على الأساس أي الجزء السفلي للبناية الهندسية، ويتمثل دوره في رفع حمولات البناء وضمان تثبيتها على الأرض، و تُدرج الأُسُس في الأرض على عمق مناسب للبناء، ويتم اختيار الأساس وفقا لنوع البناية وأسلوب التصميم وقدرة تحمل التربة، لذلك يجب أن تدرس التربة للكشف عن طبيعتها وترسب طبقاتها وسمكها، ولمعرفة طبيعة التربة لا توجد طريقة واحدة ولكن اختيار أكثر الطرق ملاءمة يتعلّق بموقع البناء، تُأخد منه عينات وتُحلل في المختبر ومن ثم تصنف وتحفظ وتوضع النتائج في تقرير دراسة التربة.[1]
كذلك يعتبر التعليم الابتدائي هو الأساس في بناء النظام التعليمي، إذ تبنى عليه المراحل اللاحقة، فكلما كانت نتائج العملية التعليمية في المرحلة الابتدائية ذات جودة عالية، تكون ذات فاعلية وتأثير في قدرة المراحل اللاحقة على الاستجابة للمتغيرات، وأكثر قدرة على التطوير، وهنا تبرز أهمية وجود رؤية قيادية للتعليم الريادي الذي يعتمد على المعرفة والابتكار.
وإذا كان أساس أي بناء يحتاج إلى دراسة التربة في موقع البناء، فإن تعليم طفل في المرحلة الابتدائية يحتاج إلى دراسة مستفيضة لبيئته، من أجل بناء نموذج تعليمي يتوافق مع احتياجات مرحلته العمرية، وتكون منبثقة من احتياجات مجتمعه، فتنمي قدراته الوجدانية من أجل اكسابه مهارات حياتية، وتنشط قدرة التعلم لديه ليتمكن من متابعة المراحل التعليمية اللاحقة بفاعلية.
وعليه: "فإن أية استراتيجية لتطوير التربية في أي مجتمع من المجتمعات لابد و أن تنطلق من الخصوصية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية و السياسية لذلك المجتمع."[2]
بناءً على ما تقدم فإنه لا يجوز لأي مجتمع أن ينسخ منهجًا تعليميًا من مجتمع آخر، وقد ضربت السويد أجمل مثال يمكن أن يقتدى به، إذ لاحظت الحكومة السويدية إبان القرن العشرين بأن الأطفال في الابتدائية ينفرون من مقرر الجغرافيا "فكلفت هيئة المعلمين الوطنية الكاتبة سلمى لاغرلوف بتأليف كتاب جغرافيا خاص بالمدارس السويدية العامة، وذلك في عام 1902 م، وقد قضت سلمى لاغرلوف ثلاث سنوات بحثاً في المناظر الطبيعية، وفي حياة الحيوانات، والنباتات، كما بحثت في تفاصيل الحياة الريفية للسويديين، وفي الأساطير السويدية ومزجت كل ذلك في قصة نيلز هولقيرسون الطفل الصغير، والذي عوقب لسوء معاملته للحيوانات من قبل قزم المزرعة، فأصبح هو أيضا قزماً صغيراً، وعندما أصبح بهذا الشكل استطاع أن يتحدث إلى الحيوانات المحيطة به، ويفهمها، وينتهي به الأمر إلى أن يسافر عبر أراضي مملكة السويد على ظهر إوزة كبيرة، وخلال الرحلة يتعرف على أراضي السويد، وجغرافيتها، وأساطيرها.
لم تحقق مغامرات نيلز نجاحا في مدارس السويد أو في السويد فقط، ولكنها حققت نجاحا في العالم أجمع، ظهرت صورة الصبي نيلز هولقيرسون خلف العملة السويدية فئة العشرين كراون، وسلمى لاغرلوف في الأمام. وامتلأت رفوف مكتبات العالم بنيلز هوليقرسون."[3]
الطفل الصغير نيلز هولقيرسون
يوجد في العالم الإسلامي الكثير من الأدباء والكتاب المتمكنين، يمكن أن تستعين بهم الدولة من أجل تأليف قصص ثرية بالمعلومات، وبأسلوب بسيط وجذاب يتناسب وأعمار طلبة الابتدائية "لأهمية ربط المناهج الدراسية وأنشطة تعليمها بالبيئة المحيطة." [4]
وقد عرف كل من كازويل وكامبل Caswell and Campbell 1935 المنهج بأنه جميع الخبرات التي يكتسبها الأطفال تحت توجيه معلميهم.[5] وبالتالي يكون:
"المنهج = المعارف+ مهارات+ اتجاهات وميول وقيم."[6]
هنا تبرز أهمية تفاعل عناصر العملية التعليمية -من معلم ومتعلم ومنهج وطرق تدريس ومناخ
تعليمي- تفاعلا حيويا يجعل المدرسة المكان الأفضل في نظر الأطفال، فعندما تمكنهم العملية التعليمية من اتقان لغتين أو أكثر قراءةً و كتابةً ومحادثة ترتفع معدلات الثقة بالنفس والاعتزاز لديهم، وتزداد نظرتهم الإيجابيّة نحو ذواتهم وكذلك ينطبق الأمر في حال كونهم اكتسبوا مهارات تفكيرية من خلال المواد العلمية كالرياضيات والعلوم، و بالتأكيد ترتفع معدلات الثقة بالنفس والاعتزاز بالذات، وتترجم إلى سلوكيات ايجابية بين طلبة المدارس الابتدائية التي تتبنى استراتيجية التركيز على المتعلم من خلال توفير مناخ تعليمي ايجابي.
ما هو المناخ التعليمي؟
عندما يتم التطرق إلى المناخ التعليمي لا يقصد به "الاهتمام بالمدرسة كبيئة صحية ورفع مستوى النظافة فيها (المبنى، المرافق الصحية، الاضاءة، التهوية، منع الحوادث، إزالة القمامة، المحافظة على نظافة وسلامة الأغذية في المقاصف المدرسية..."[7]
ضمن البيئة التعليمية تتفاعل عناصر العملية التعليمية بفاعلية أكثر في مناخ من العلاقات الإنسانية الإيجابية، ويكون للإدارة المدرسية دور بارز في تأمين هذا المناخ من خلال تأثيره في رضا المعلمين، والذين بدورهم يعملون على تأمين مناخ تعليمي إيجابي في الصفوف الدراسية في المرحلة الابتدائية.
وإن كانت هذه المتطلبات المادية ذات تأثير في الصحة الجسمية والنفسية والعقلية للطلبة، غير أن العلاقات الإنسانيّة ذات تأثير مباشر وكبير في رفع مستوى التحصيل العلمي للطلبة وبما أن المعلم يعتبر حجر الزاوية في العملية التعليمية، فإن "قيام المعلمين بعملهم في جو مناسب يشعرون فيه بالرضا والارتياح والتقدير أمر هام لتتمكن المدرسة من تحقيق أهدافها."[8]
"وقد بينت دراسة هوثورن الأثر الذي تحتله معايير الجماعة على إنتاجية العامل في بيئة استخدمت فيها الحوافز المادية، ففي حين كانت افتراضات باحثي هوثورن تقوم على أساس أن العاملين يسعون لزيادة مردودهم المادي، وأن أثر الجماعة ينحصر في مساندته لمخرجات العمل، أثبتت نتائج الدراسة أن معايير جماعة العمل في تحديد مخرجات العاملين أهم من حوافز الإنتاج المادية التي وضعها الباحثون."[9]
ضمن البيئة التعليمية تتفاعل عناصر العملية التعليمية بفاعلية أكثر في مناخ من العلاقات الإنسانية الإيجابية، ويكون للإدارة المدرسية دور بارز في تأمين هذا المناخ من خلال تأثيره في رضا المعلمين، والذين بدورهم يعملون على تأمين مناخ تعليمي إيجابي في الصفوف الدراسية في المرحلة الابتدائية.
القدرة التنافسيّة للدول.. التعليم الابتدائي معيارا من معايير مؤشر التعليم والصحة..
تستحوذ المرحلة الابتدائية على الاهتمام في التقارير السنوية للمنتدى الاقتصادي العالمي حول التنافسية العالمية، وتدخل ضمن مؤشر التعليم الأساسي والصحة كأحد المتطلبات الأساسية لمرحلة النمو الأولى لاقتصاديات الدول.
يتضمن مؤشر التعليم الإبتدائي ضمن تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي محورين هما:
1- نسبة التحاق الأطفال بالتعليم الإبتدائي.
2- جودة التعليم.
الدول |
المرتبة/ 137 |
جودة التعليم |
نسبة الالتحاق |
ماليزيا |
14 |
15 |
41 |
قطر |
23 |
9 |
78 |
لبنان |
29 |
14 |
74 |
البحرين |
35 |
38 |
48 |
الإمارات |
41 |
13 |
94 |
ايران |
42 |
60 |
14 |
السعودية |
48 |
72 |
35 |
الاردن |
49 |
69 |
39 |
تونس |
58 |
86 |
10 |
طاجكستان |
61 |
68 |
53 |
الجدول 1: ترتيب الدول الإسلامية العشرة الأكثر تنافسية
حسب تقرير التنافسية، المنتدى الاقتصادي العالمي 2017-2018.
على ضوء ما جاء في الجدول أعلاه، يتبين بأنّ بعض الدول مثل دولة قطر والإمارات ولبنان وماليزيا على التوالي تحتل مراتب ضمن المراتب العشرين الأولى عالمياً في جودة التعليم، وهذا يدعو إلى التفاؤل بالمستقبل، وقد سجلت هذه الدول بالمقابل بنسب مختلفة عدم التحاق الأطفال بالمدارس الابتدائية.
يتبين من خلال تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي بأنّ الكثير من الدول الإسلامية تعاني من انخفاض في جودة تعليمها وارتفاع في نسبة الأطفال الذين لا يلتحقون بالتعليم الابتدائي.
المتمعن في أرض الواقع يجد بأنّ الدول الإسلامية تتشارك في بعض هذه المشاكل التي داهمت كيان دولهم الى حد ما، ومن هذه المشاكل:
أولاً: مشكلات تتعلق بأهداف المؤسسات الإدارية في النظام التعليمي
- "ظاهرة غموض الأهداف والاختلاف بين المسؤولين في المنظمة الواحدة على تحديدها أو ترتيب أولوياتها، مما يدل على عدم وضوحها أو فهمها ضمن رؤية موحدة، وغياب التمييز بين الأهداف الاستراتيجية والأهداف التنسيقية والأهداف التشغيلية.
- تحول الأهداف الرئيسية للمنظمة الحكومية لخدمة الأهداف الذاتية أو التأسيسية.
- ظاهرة التشبث بمصطلح المصلحة العامة public Interest لإخفاء النوايا والأغراض الشخصية والمصالح الخاصة عند استحداث بعض المنظمات أو الغائها أو دمجها. وكثيراً ما يكون الغرض المقصود مضراً بالمصلحة العامة ولا ينسجم مع الهدف العام، و ينبغي الحد من استخدام هذا المصطلح ووضع الأسباب والمبررات وتحديد الأهداف الرسمية للمنظمات و إلزامها بتسبيب القرارات وبيان مقاصدها التي توضح علاقتها بأهدافها.
- أخيراً، فإنّ من أصعب المشاكل التي تواجه الإدارات العامة المعاصرة هي كيفية التوفيق والتنسيق بين الأهداف القومية والوطنية الشاملة، وبين أهداف المنظمة وكيفية ترجمة ونقل أهداف النظام السياسي إلى النظام الإداري الذي يعد أداته الفاعلة في تحقيق أهدافه وسياسته." [10]
ثانياً: مشكلات تتعلق بالمؤسسات التعليمية في النظام التعليمي
- "قلق الطلبة واضطرابهم وعدم ثقتهم في قيمهم ومعاييرهم الأخلاقية.
- جمود النظم التعليمية: مثل ضعف العلاقة بين الطالب والمعلم نتيجة زيادة أعداد الطلبة في المدرسة الواحدة، عدم وجود خدمات إرشادية وتوجيهية في المدرسة، قوانين وتعليمات القبول في المدارس، والتشعيب إلى أنواع التعليم المختلفة، نظام الامتحانات وما يسببه من هم كبير للآباء والأبناء والمعلمين.
- اهتزاز سلطة المعلمين الرسمية وغير الرسمية: يرجع ذلك الى انخفاض مستوى إعدادهم ومؤهلاتهم وانخفاض الأوضاع المادية والاقتصادية لهم، وكذلك تناقص كفاءاتهم المهنية، لأنّهم لا يعملون على تنمية أنفسهم باستمرار، مما يظهرهم أمام التلاميذ بأنّ معلوماتهم ضحلة و قديمة.
- قلة تعاون الآباء مع المدرسة: لا شك أن تعاون الآباء مع المدرسة عامل هام في حفظ النظام، ولكن كثيراً من الآباء لا يساعد المدرسة على ذلك لعدم اهتمامهم بما يجري فيها أو لاهمالهم بما تقوله المدرسة عن أبنائهم، أو لعدم إحكام سيطرتهم كآباء على أبنائهم.
- سوء استغلال التلاميذ من جانب المنظمات المختلفة مثل المنظمات السياسية أو الاجتماعية الشرعية منها وغير الشرعية، والعلنية منها والسرية، من أجل خدمة أغراض معينة، وغالباً ما يوجه هؤلاء الطلاب للقيام بأعمال عدوانية أو تخريبية ضد المجتمع."[11]
تختلف درجة حدة هذه المشاكل بنسب مختلفة في الدول المتأثرة بالأوضاع المادية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية، غير أنّ العامل المؤثر الأساسي يتمثل في القيادات المسؤولة عن تغيير وتطوير العملية التعليمية في البلاد.
ولعل EdoBEST يعتبر مثال يحتذى به في عصرنا الحالي حول كيفية سد الفجوة التعليمية العالمية، اذ قدمت نيجيريا وبالتحديد ولاية ايدو مثالاً للهمة والاصرار على تغيير الواقع " فأصبح حاكم ولاية إيدو رمزا دوليا للتحول التعليمي الناجح للقطاع العام، وأصبح غودوين أوباسيكي رائدًا، وسرعان ما رفع جودة المدارس الحكومية ومهارات المعلمين في حالته ذات الدخل المنخفض. وقد وصف إصلاحاته -المعروفة باسم EdoBEST - بأنها وسيلة لتعزيز الاقتصاد وتحسين فرص حياة الناس. تدرس مؤسسات مثل البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية كيف قام أوباسيكي بإصلاح تعليم الدولة بشكل فعال في عام واحد فقط.
اعتبارًا من منتصف يونيو 2019، كان هناك ما يقرب من 12000 معلم حكومي تم إعادة تدريبهم في جميع أنحاء ولاية إيدو.
بحلول شهر سبتمبر عام 2019، سيؤثر هذا البرنامج الذي يمتد على أربع سنوات والذي يحتفل حاليًا بعيده الأول على أكثر من 300000 طفل.
في نهاية المطاف، ستكون كل مدرسة ابتدائية وثانوية عامة في إيدو جزءً من هذا التحول في النظام العام على مستوى الولاية، تدعي حكومة ولاية إيدو أنه منذ بدء برنامج التحول هذا، عاد 20 ألف طفل إضافي إلى مدارسهم الابتدائية العامة."[12]
ومن أجل أن تتمكن الدول من التحسن مرتبتين على الأقل ضمن معيار التعليم الأساسي، فعليها أن تجمع بيانات وافية وكافية عن المرحلة الإبتدائية في بلادها باستخدام "المسح المدرسي"، كما ويمكن تعزيز النتائج بالمقابلة الشخصية والاختبارات، و لكي تجمع البيانات لابد من تحليل الوثائق، "والوثائق التي تساعد في التحليل كثيرة الأنواع متعددة الوجوه، تتناول سجلات الطلبة وقوانين الإدارة ومنهج التدريس و غير ذلك كثير، ويخدم تحليل الوثائق أغراضاً عديدة تتراوح بين تحسين المناهج والمقررات وبين دراسة الحالات وإسداء النصح والإرشاد."[13]
كذلك عليها أن تستخدم أسلوب "تحليل العمل لدراسة الأوضاع الإدارية "[14] في المؤسسات الإدارية والتعليمية ضمن النظام التعليمي." و يفيد هذا النوع من المسح في (أ) الكشف عن نواحي الضعف والقوة في الإدارة، (ب) الإزدواج في الأعمال، (ج) عدم الكفاية في إجراءات العمل المعمول بها، (د) تصنيف الأعمال المتشابهة، (ه) الكشف عن جداول الأجور والمرتبات واختلافها ومناسبتها لطبيعة العمل ودرجة مسؤوليته، (و) المؤهلات المطلوبة للتعيين للأعمال المختلفة، (ز) تدريب الإداريين أثناء العمل وقبله، (ح) شروط الترقية وواقعها، (ط) نقل العاملين ومعاقبتهم،…[15]
و على ما تقدم فإن أي تغيير في العملية التعليمية للمرحلة الابتدائية يبدأ باتخاذ قرار على أعلى مستويات الدولة، إذ يترتب على إصدار قرار التغيير مسؤوليات وتكاليف مالية، ومن أجل أن تأخذ الأمور مجراها الصحيح يجب أن يتم اتخاذ قرار التغيير من أعلى سلطة ذات علاقة بالتعليم الابتدائي.