نجحت الثورة بالانفجار، وشكل اشتعالها تحديا دمر حاجز الخوف -العقبة الكؤود- الجاثمة على صدور السوريين منذ أحداث الثمانين، وتجاوز الشباب هذه المرحلة بنجاح، كما تفوقت الثورة السورية بسرعة الانتشار واستقطبت الجماهير من مختلف شرائح المجتمع، إلا أنّ الأخطاء الجسام عرقلت حركة الاستمرار بذات الوتيرة التي بدأت بها، ووضعت العصي في العجلات كلما اقترب النصر أو حاولت الصعود والارتقاء. 

وثِقت جماهير الثورة برأي من لا يستحق الثقة، وتعاطفت مع من كان سبب انحراف مسيرها، وبررت له حتى جر خلفه الأتباع ثم أرداهم المهالك، وقلَّ من استطاع العودة والانطلاق من جديد.

قدمت جماهير الثورة التقي الورع أو المحافظ على فرائضه وحولته لرجل دين يفتي عوام الناس بالدماء والأموال، ورفعت المخلص للثورة وجعلت منه قائدًا أو أميرًا يملك رقاب الناس ويتحكم بمصيرها رغم ضحالة مَلَكة القيادة والإدارة لديه، أما من أتقن استخدام وسائل التواصل تصدر العمل الإعلامي وملك منبرًا تلتف حوله الجماهير، وهو يهرف بما لا يعرف مسحورًا بعدد المشاهدين والمتابعين والمعجبين لديه. 

بيئة الفوضى الخلاقة هذه تولد جيلًا مندفعًا وصلبًا لا يهاب المخاطر كان من المستحيل أن توجده بيئة مثالية هادئة، ويفرز اقتحاميين يتحولون أيضا لأبطال بزمن قياسي وسرعان ما يحاط بهم هالة من الكاريزما الساحرة، وقليل منهم من يملك مؤهلات تخوله إدارة من حوله، ولا يختلف كثيرا حال التاجر والضابط والشيخ والمعلم والطبيب والصيدلي المنشق، إضافة لمن أصيب بعقدة ثوار 2011 م ممن لا يتقبل فكرة تقديم ذوي الاختصاص، فقد وضعوا أنفسهم على منصة مثالية عالية يصعب الوصول إليها، وجعلوا من أنفسهم حكامًا على الوافدين الجدد من المنشقين، وهكذا اشتد التنافس بين الأسبق والأصدق والأحق بإدارة الملفات الداخلية والخارجية السياسية منها والمدنية، سرعان ما تحول لتنافس مقيت، لا يُسمح للفرقاء بتجاوز الخلافات مع خصومهم، وكان الرهان الأكبر على استقطاب الموارد وتأمين الحد المعيشي الأدنى للحاضنة الشعبية الثورية، كل ذلك كان سببًا لتأخر النصر وكاد يهدد بقاء الثورة واستمرارها. 

الفصائلية داء آخر قسم الناس بين الزميل (الأخ) الملاك الذي لا يخطئ، والآخر -باقي البشر- المخطؤون المعتدون البغاة أو من أجبرته الظروف على أن يكون في المعسكر الخاطئ؛ إن أحسنوا الظن به، لكن سرعان ما يسقط القناع عن الأخ إن اختلفت المصالح ويتحول من رمز إلى عدو يجوز قتاله وتسقط عنه الهالة المتخيلة المبالغ بها أو التي لا وجود لها أصلا، إلا أنّ استشهاد أحدهم كفيل بغسل كل ذنوبه وعودته لمنصة الارتقاء حيث تقود الجماهير عاطفتها لتقول فيه ما ليس فيه وتمجده بذات الألسن التي كانت تنتقده مستهزئة به وبأعماله ومبادراته، التي جعلت منه هدفًا مشروعًا على وسائل التواصل، المنصات التي ساوت بين البطل والصعلوك، مما أتاح للعملاء التصدر وقيادة الجمهور إلى المصالحات أو القتال الداخلي. 

يحتاج الانطلاق للانفجار الذي يساهم في دفع عجلة الثورة إلى الأمام، كما أنّ الثورة تحتاج للتخطيط الاستراتيجي والإدارة والتوجيه والمحاسبة، تحتاج لجسد مبني على المؤسسات يأوي إليه المنشقون عن النظام ويتحولون إلى كوادر فاعلة، تشجع الغير على ترك مركب النظام واللجوء إلى الثورة، لا معاول هدم تنهش في خاصرة المحسوبيات الثورية الرخوة. 

تحتاج الثورة إن أرادت الاستمرار لمؤسسات ثورية حقيقية يقودها أهل الاختصاص من كافة المجالات، ويعينون وفق الكفاءة، لا مجموعة مرتزقة تتحكم بهم يد الداعمين وتسيرها وفق مصالحها من الخارج، ورغم كل السلبيات التي ذكرت تبقى المناطق المحررة أفضل من تلك التي تديرها المليشيات الطائفية والعصابات عند النظام؛ لولا القصف الممنهج والتدمير الذي حاصر مايقارب أربعة مليون نسمة في بقعة صغيرة على الحدود التركية.