تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

استطاعت الحضارة الإسلامية أن تتفوق بشكل أساسي من خلال مبادئها وشرائعها على باقي الأمم، ومن ضمن أهم المبادئ وحدة الصف والأخوة والتعاون الجماعي من أجل إعلاء الحق وإبطال الباطل، فكانت بذلك الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالمرض والحمى، ولعل أول بذرات ومظاهر العمل الجماعي تجلت في الصحابة -رضوان الله عليهم- أين تكاتفت جهودهم وبنوا الدولة الإسلامية حجر حجرا وفكرة فكرة، فصاروا إذا أقدموا على أمر أقدموا عليه كالبنيان المرصوص لا ينفلت جزء منه عن آخر... 

وإذا بحثنا في فنيات العمل الجماعي فسنجدها هي الأخرى متجلية وبقوة في أدبيات الدين الإسلامي فيد الله مع الجماعة ممن أخلصوا له النيات والأعمال... 

 ومن القواعد الذهبية في العمل الجماعي والتي نقلها الشيخ محمد رشيد رضا عن الإمام حسن البنا: 

« نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه »، هاته القاعدة تساعد كثيرا على خلق مناخ للتعاون والعمل وتذليل الخلافات بحجم يجعلها أصغر من أن تشكل عائقا للجماعة، فثقافة الأعذار من أجل إرساء روح التعاون تعد من أسمى معاني العمل الجماعي.

إنّ مراجعة بسيطة في كتب السياسة الشرعية تبين لنا مدى التركيز على أهمية الحوار والأعذار والتي تنفي  بشدة التدابر والتناحر والتهاجر، لأنها ليست من دعوى الإسلام في شيء، ففلسفة الإسلام قائمة على الاستفادة من كل الطاقات والجهود الممكنة.

الفرد المنتمي

إنّ الأهمية البالغة التي يوليها الإسلام للأسرة لها حكمتها البالغة فهي الأساس الأول واللبنة التمهيدية لبناء صرح الأمة، فالأسرة تحقق المطالب النفسية والجسدية للفرد باعتدال، وتمنحه شعورا أكبر بالمسؤولية والتلاحم مع أفراد أسرته والتعاون معه على شؤون الحياة، وإنّ أقرب مثال للانهيار الاجتماعي ما يعانيه الغرب من تفكك أسري، حيث أنّ الأسر المتفككة تؤدي إلى تفكك المجتمع، وإذا تفكك المجتمع أوشكت الحضارة على الانهيار والاندثار، كما هو الحال في الغرب الآن، الذي بدأت أسره بالانهيار، وظهرت فيه انحرافات أسرية وآفات فتاكة بلحمة المجتمع.

فإذا قارنا الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية التي وازنت بين الفردية والجماعية، بحيث نظمت حياة الفرد وأبقته في دائرة انتمائية تبدأ من الأسرة القربية فالأقرب، فمن صور التضامن الأسري والجماعية البناءة تضامن أفراد الأسرة في حال وقوع فرد في نكبة مادية او معنوية فنجد أنّ كل الأقارب معنيون بسداد دية فرد من العائلة في حالات كثيرة وغيرها من مظاهر الانتماء والتعاون... 
 

المجتمع المساند

مما يميز المجتمع الإسلامي أنه لا يمحي الخصوصية الفردية والتميز الواحدي بل يشعه ويضمن له حقوقه وذلك لبناء وحدة جماعية مميزة بتميز الفرد فيها وعطائه اللامتناهي، ومن ذلك أقر الإسلام للفرد حقوقا، حيث أقر باحترام خصوصيته وكفل حقه في الحرية والتعبير عن رأيه، حق الحياة وحرمة التعذيب والاسترقاق والإكراه، ومن مشارب الحرية أنه يمنع من سجن الناس بمجرد الظن أو الاشتباه، كما يمنع الإيقاف التعسفي للفرد، كل ذلك مع حق التقاضي والمرافعة من أجل حقوقه.

هذا ويضمن الإسلام  حق الفرد في تبني الفكر، واختيار الديانة وحرية الاعتقاد، فلا يجوز أن يكره على ترك دينه، واعتناق دين آخر، قال: (لا إكراه في الدين) البقرة 256/ .

ومن حرية الرأي أيضا ضمان حقه في النقد والتعبير عن رأيه، ومن حقه كذلك البحث عن الأفكار والآراء، مضاف إلى ذلك حقوق كثيرة، كحق حفظ الكرامة والتنقل والتجمهر والعمل والتثقف والتعلم...
 

الدولة الداعمة

تعتبر إقامة الشريعة الإسلامية وسياسة الناس بهذه الشريعة، أحد المهام الرئيسة للدولة في الإسلام، فالحضارة الإسلامية حضارة دينية، أي أنّ الدين أحد مقوماتها الرئيسة، لذلك يصب الاهتمام الأول في السعي الحثيث نحو تطبيق ذلك، وقد اختلف كثير من العلماء في طبيعة هذه الدولة وهل المقصود من إقامة دولة إسلامية  كما حدث في الغرب سابقا حيث يحكم الخليفة باسم الله ويهتدي بوحي الله وأنه معصوم، وهو قطعا ما لا يعنيه المفهوم الحقيقي للدولة الإسلامية، فهي لا تشبه أي دولة دينية سبق معرفتها لأنها تعتمد على نصوص شرعية ومراجع لا تمس بأي شكل من الأشكال بالصورة العامة للحكم المدني المتعارف عليه،  إذن فهي باختصار دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.

والمرجعية تشمل الأمور التي عليها إجماع فقط، وليست القضايا الخلافية التي لا نص فيها، وليس عليها إجماع.

ومن الشريعة تكتسب الدولة قوتها وتصبح قوة موحدة مجموعة على تشريع واحد. 
 

الشورى الشرعية

الشورى هي أحد أهم دعائم الحضارة الإسلامية، وهي محكومة بشرطية الخضوع للتشريع، فلا ينبغي الشورى على ما اتفقت الشريعة على تحريمه، ومن أهم فوائد الشورى هي ما ينتج عنها من تجنب لأي أخطاء قد تنجم عن قرارات فردية ذلك أنّ الفرد أقرب منه للخطأ من الجماعة، وهذه التزكية الجماعية تخلق روح التضامن والتآزر على أي قرار متخذ، كذلك أنّ الشورى تمنح حق الأغلبية في الاختيار ومنه تداول السلطة وإدارة شؤون الدولة بالشكل الجيد، ومنح فرصة لإظهار الكفاءات والقدرات على الظهور كما أنّ الشورى ترشد الرأي العام وتخلق لديه موثوقية وشفافية في مختلف القرارات المطروحة، ذلك أنّ الشورى تعطي قوة تنفيذية للقرار، لأنه يصدر عن أغلبية وبعد حوار وتفاعل كل الأطراف .

الأمة المنفتحة

لم تكن الحضارة الإسلامية يوما منغلقة على ذاتها، ولـم تمنع يوما التواصل بين المسلمين وأهل الثقافات الأخرى، بل كانت حضارة منفتحة على الآخرين، بكل ما لديهم من خبرات وثقافات وأفكار وعادات، ولم يكن هناك خوف على الإسلام أو المسلمين، لأنهم كانوا يملكون الموازين والمعايير التي تمكنهم مــن الاختيار الواعي، والحكم على الأشياء.

ومن أقوى صور الانفتاح هو جيل الصحابة الذي كان جيلا منفتحا على الحضارات الأخرى، والثقافات القريبة منهم.

 يقول أبو هريرة: ((كان أَهُل الِكتاب يقرءون التوراةُ ِ ْبالعَّبرنيِة  َو ُيَفُِّسروَنَها ْ َبالعَربَُّية لأهل الإسلام َِ فقال َرسول الله صلى الله عليه وسلم   َلاَ ُتصدقواَ أَهَْل َالكتاب ولا ْتكذبوهم )َ)

 (قولوا آَمَنا بُِالله ِّوَّما ُّأنزَل إِلينا َِّّومْا أنَزُلَ إِِّلى إبراهيم وإِسماعيل وإَِسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوت النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونْحن لُه مسلُِمون) (البقرة: )136 رَواه الُبخاري

ونجد أنّ هذا الانفتاح كان منضبطا بضوابط في مجمل تؤدي إلى هدف واحد، وهو ألا يؤثر هذا الانفتاح على ثواب الإيمان أو قطعيات الشريعة.