إنّي أقدر شخصيا الأطباء أصحاب المهنة المهمة جدا شأنها شأن المعلم الذي كسرت صورته المحترمة لدى الشعب منذ فترة ليست بالوجيزة. اليوم يجتاح واقعنا كلمتان مزعجتان اتجاه نظرتنا للطبيب، الجملة الأولى الطب "مهنة إنسانية" وهو حق أريد به باطل، والثانية الطبيب "لا يجب أن ينتفع ماديا" من المريض، فالأولى رسخت في ذهنية الشعب الثانية أن كل طبيب ينتفع من تعب سنينه الدراسية التي عومل فيها بطريقة لا يحسد عليها فعلا هو انتهازي يستنزف جيوب الفقراء وأبناء الطبقة البسيطة!
أستغرب فعلا لماذا لا يقال هذا القول عن المقاول أو المهندس أو الكهربائي وغيرهم من كل المجالات، التي تؤثر بطريقة مباشرة على حياتنا وتتسبب في عواقب وخيمة على المستوى البدني أيضا، فنلجأ لصاحب المئزر الأبيض وكلنا ثقة بأنه سيقدم لنا يد المساعدة، ونكشف له عن عوراتنا، ونحن نعلم أنه سيقدم لنا ما بيده من حيلة، ولا يجب أن نتأمل منه ما لم يكوّن فيه أصلا.
من جهة أخرى، نشاهد أعلاما بارزة وأخرى صاعدة في الجانب المشرق من الأرض، لطالما تصدر الأطباء الجزائريون مناصبا عالية في دول رائدة في مجال الطب ومجالات التكنولوجيا والبيوتكنولوجيا، هناك حيث يعامل كل إنسان بقدره ويشجع على امتلاك المهارة والشغف لإتمام مسيرته بنجاح، فيساهم في تحريك عجلة التنمية والاقتصاد وحركة الحياة.
إنّ حقيقة الواقع وما يشهد من العجز والركود في شتى المجالات لا يقتصر على مجال الصحة، والذي هو وليد سياسات عبثية عشوائية لا يمكنها حتى تسيير مؤسسة صغيرة لبر الأمان، فكيف بدولة كبيرة؟!
أما عندنا، معركة الطبيب تحولت من مواجهة الطبيب للحالات المرضية إلى مواجهة بين أصحاب المآزر البيضاء وأصحاب البدلات السوداء، وذلك بسبب الصورة التي يعطيها الإعلام المبتذل وقد غذيت بالسلبية والطعن في نوايا الطبيب، واستغلال الجهل المتفشي بالحقوق والواجبات في الوسط الاجتماعي بين الأفراد.
إنّ حقيقة الواقع وما يشهد من العجز والركود في شتى المجالات لا يقتصر على مجال الصحة، والذي هو وليد سياسات عبثية عشوائية لا يمكنها حتى تسيير مؤسسة صغيرة لبر الأمان، فكيف بدولة كبيرة
كالجزائر؟! سالفا كان الطبيب الجزائري يرتمي في الصحراء أو الأرياف للقيام بواجبه اتجاه الوطن وأبناء جلدته، لأنه كان يجد منهم الرفق والاحترام، ودعاء المرضى له وأهليهم كان يطفئ تعبه ويصبره، لأنه كان يؤمن بأنه هو وأمثاله من أصحاب العلم قادرون على التقدم والتحسن وأنها مسألة وقت ليس إلا. عكس اليوم أصبح البعض يتهجم على الطبيب وربما يتعدى عليه بالضرب، كأنه يثأر من عدو له، وهذه الظاهرة تجاوزت حدود الجزائر للعديد من الدول الشقيقة التي نقاسمها في طابع المعيشة مما يفسر لنا الكثير، ربما لأن النفوس البشرية إن تركت راكدة تتأسن، ولا ضير أن الذين يعتدون اليوم على الطبيب بالضرب حينما يرونه على منصة شرفية لتكريمه في دولة أخرى سيهاجمونه بالخيانة وانعدام المواطنة وكأن الأرض خلقت بحدود اليوم.
في حين أن الطبيب الذي يتجلد بالصبر من أجل أداء واجبه بإحسان في مستشفياتنا المنكوبة، يتلقى التطاول والسب والشتم ويتحجج بأنه يقبض أجرة مقابل عمله. كان الطبيب أو أي مهني آخر يذهب إلى الأطراف المترامية في الجزائر، حينما كان الفرد يؤمن بقدرة أخيه الجزائري على التغيير، حين كان يجد منه السند والدعاء الخالص الخالي من الرياء، لأن الأمل كان يجمعهما لبناء الصرح، لكن حين باءت محاولاتهم بالفشل فقدنا هذا الرابط الذي يعتبر أساسيا في أي وطن وهو الأمل في بناء مستقبل أفضل!
الصورة التي أتكلم عنها لا يدركها إلا من درس الطب في السبعينات والثمانينيات، عندما كان الأستاذ أبا والطبيب حكيما لا يرد رأيه لأنه من أهل الاختصاص، حينذاك كان كل مسمى يستوفي معناه الحقيقي. أما اليوم، أضحى الأستاذ هباء منثورا لا يعتبر أساسا، والطبيب أصبح كبش الفداء يدفع أثمان خلل كل القطاع من غياب التنظيم وعدم توفر مناصب للأطباء المتخصصين في الحالات الخطرة، وحتى الوفيات يحاسب بها ولا تتوانى الجهات المختصة في القضاء بتسليط العقوبات القصوى نظرا لقيمة حياة الفرد الجزائري في موطنه، في حين أن المنظومة كلها يجب أن تحاسب من مدراء صحة وكبار المسيرين للقطاع باعتباره أهم القطاعات في أي بلد.