في ظل الارهاصات التي تعيشها الدول العربية والحاجة الماسة لقومة معرفية تثور ضد النكبة المعرفية، وضرورة تحرك العلماء والمختصين لتقديم نظريات وأبحاث أكاديمية معرفية تبين الواقع وتوجه الشعوب نحو الطريق الصحيح ليصنع مستقبله.

سعى البروفيسور عبد الفتاح العويسي وبعد جهد سنين إلى تقديم نظريات ونماذج وأبحاث على مر السنوات وأصدر كتبًا معرفية عديدة آخرها كتاب "نظريات ونماذج بيت المقدس لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها وصناعة التاريخ المستقبلي"

هذا الكتاب يمكن اعتباره زبدة الزبدة لمعالجة القضايا العربية والإسلامية، لا سيما القضية الفلسطينية وبيت المقدس، فهو بناء معرفي على طريق التغيير والتحرير، ومرشد للطلاب ولصنّاع التاريخ المستقبلي الذي يبدأ من بيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك وصولًا للمشرق الإسلامي، شاملًا للمعرفة التي تفي باحتياجات التعليم والتعلم وتنميتها في هذا المجال مع إبراز إسهامات المسلمين في مجال العلاقات الدولية.

وقد اعتمد المؤلف البروفيسور العويسي منهجية الحقول المعرفية المتداخلة التي يتبناها منذ زمن، لتعيد قراءة تاريخ بيت المقدس بشكل أكاديمي مبينًا النتائج التي توصل إليها بعد جمع ودراسة البيانات وتحليلها.

كما تطرق لمواضيع مهمة بيّنها في أجزاء ستة، وخمسة عشر فصلًا غنيا بالمعرفة وجمعهم في 362 صفحة، يتناول الجزء الأول المراحل التي مر فيها المشروع المعرفي ودراسات بيت المقدس والتي بدأت في المسجد الأقصى المبارك عام 1990 م ثم انتقل إلى بريطانيا للعلاج، وفي عام 1994م بدأ بتحقيق حلمه وعمل على تأسيس مشروع معرفي تطور على مر السنوات حتى أصبح مشروعًا عالميًا، ثم بيّن حاجتنا للإعداد المعرفي وتحرير العقول حتى يتم القضاء على النكبة المعرفية، كما تحدث عن مفهوم جديد لبيت المقدس وبيّن ضرورة استخدام هذا المصطلح لاعادة القضية لبُعدها الاسلامي موضحًا الفرق بين بيت المقدس والبيت المُقدّس.

ثم انتقل إلى الجزء الثاني ليخبرنا عن النظريات الاستراتيجية والجيوبولتيك، لا سيما نظرية دوائر البركة لبيت المقدس ونموذج التغيير الجذري بعد حادثة الإسراء والمعراج والتي جعلت بيت المقدس أرضًا للأمل والأمان ومصدرًا للتغيير، ثم تحدث عن الخطة النبوية الاستراتيجية للتحرير، والتي تعتبر خارطة يمكن أن نسير عليها حتى نحقق ما حققوه، وهذه النظريات والنماذج منبثقة من مصادرنا الإسلامية لتكون بديلًا عن النظريات الغربية التي فرضت علينا.

تحدث في الجزء الثالث عن نماذج انتهاء الحرب والفتح، الحدث المميز الذي ما زالت آثاره حتى يومنا، والعهدة العمرية التي بيّنت عظمة الإسلام فيما يمنحه للبشرية والذي يعتبر رؤية جديدة للمسلمين مستمدة من مصادرنا الإسلامية الأولى "القرآن والسنة النبوية".

ثم في الرابع تحدث عن نماذج الأمان والتواصل الحضاري للتخلص من النزاعات والعبودية والاستبداد والفساد وتحقيق الأمان والعدل والحرية.

كما تطرق في الجزء الخامس لإشكالية مهمة لا بد من معالجتها، وهي افتقار جامعاتنا لتخصص مهم في مجال دراسة العلاقات الدولية ونقص الفريق البشري المتخصص، وأكد المؤلف كونه أستاذًا في هذا المجال حاجتنا الماسّة إلى متخصصين بهذا الحقل لعلاج الداء المنتشر المتمثل باحتلال العقل والأرض واستعمارهم.

فقد حان الوقت أن نتوقف عن النظر بعيون الآخرين والتفكير بعقولهم ونبني صرحًا علميًا يساهم في تغيير حال المسلمين وتحريرهم بدءًا من صناعة التاريخ وعدم الاكتفاء بكتابته أو تدريسه، وصناعة الفعل الذي يختلف تمامًا عن ردة الفعل، ونجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دافعًا لنا وموجهًا فقد قال: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "

ثم ناقش ادعاءات بعض المستشرقين والأكاديميين الاسرائيليين الذين يعمدون تزييف الحقائق ليحققوا أهدافهم، ودعا إلى مواجهتهم عبر الأبحاث وتبيان الحقائق.

فبيت المقدس هو المرآة التي تعكس أوضاع المسلمين والمقياس الحقيقي لعزتهم وذلهم، ومفتاح السلم والحرب في المنطقة فمن يحكمه يسيطر على العالم.

وبهذا يمكن أن نرسم معالم خارطة الطريق المعرفية للتحرير القادم للأرض المقدسة (بيت المقدس) ومسجدها الأقصى المبارك (البيت المُقدّس) والتي تبدأ من الخطة المعرفية الممنهجة، فلا يمكن لأمة أن تحرر أرضها وعقول أبنائها محتلة ومستعمرة، مع ضرورة التخصص والتكامل بين كافة التخصصات والعمل بعيدًا عن العاطفة، فالثغر المعرفي أولًا ثم يتبعه العسكري والثغور الأخرى.

في الجزء السادس والأخير سعى إلى تقديم الوصف الدقيق لما يجري حاليًا في منطقتنا، مؤكدًا أن الدولة العازل /اسرائيل اكتملت دورتها وستصل إلى نهاية صلاحيتها ونهايتها وزوالها، كما زالت مملكة بيت المقدس اللاتينية الصليبية، ولكن هذا الزوال سيسبقه ويتزامن معه زوال بعض الدول/الدويلات العربية من الخارطة السياسية لمنطقتنا العربية في بضع سنين بإذن الله.

 

تميز هذا الكتاب الغني بالمعرفة، لذا يمكن اعتباره مصدرًا مهمًا نستطيع اعتماده لصناعة القرار في الأمة وخارطة طريق نحر التغيير للباحثين والطلاب والعاملين على الرباط المعرفي، لا سيما أنه بيّن وحلل بدقة المراحل التاريخية منذ مائة عام والتي مرت بها أمتنا وحاضرنا لا سيما منذ ثمان سنوات، والأزمات والصراعات التي نمر بها حاليًا والأحداث المتسارعة، فكان بذلك خلاصة معرفية لتوضيح وفهم وتفسير وإدراك للأحداث فبرزت نقاط القوة بذلك.

وأكثر ما استوقفني البُشرى والتحليل الرقمي باقتراب زوال الكيان العازل والذي يسبقه زوال الأنظمة المستبدة التي أوجدها الغرب، وكمية الوعي التي تبين حقيقة كل نظام يتبعه أبناء أمتنا دون إدراك وفهم، بالإضافة للمعرفة وكمية الطاقة الإيجابية التي تبشر شباب الأمة أن النصر لن يكون على أيد فلسطينية فحسب بل هم جزء من كل، والجيش القادم سيكون من شباب أمة الإسلام بإذن الله بعيدًا عن الجنسيات والحدود التي رسمها ووضعها عدونا، وهذا مشجع وحافز لكل مسلم يسعى لأن يشارك في التحرير القادم.

وبالتالي أصبح العمل الممنهج ضروريًا وواجبًا على كل مسلم، وعلى كل منا أن يبدأ أينما تواجد، ودعوة مباشرة للوحدة والكف عن التفرق والنزاعات الداخلية أو بين الأوطان لارتباط الدول الإسلامية بعضها ببعض وتأثير كل منهم على الآخر.

ويمكن الاستفادة من المحتوى المعرفي في الكتاب لتطبيقه في ظل الأحداث الراهنة، لا سيما أنها أحداث مكررة وذلك من خلال الأحداث التاريخية التي ذكرها وأعمال صلاح الدين وغيره لتكون لنا عبرة ولندرك خطورة الوضع الراهن إذا لم نستفق ونبدأ العمل الممنهج.  

هذا الكتاب جهد وكنز معرفي قدمه لنا من أعتبره شخصيًا مصدري الأول للمعرفة وأستاذي الذي أفخر أني طالبته، فالبروفيسور العويسي يتميز بإخلاصه الصادق وأسلوبه المميز في إيصال المعرفة وزرعه للأمل في نفس كل من يعرفه، وشجعنا للاستمرار رغم كل الصعوبات فلا مستحيل بإذن الله، كذلك حرصه دومًا على العودة أولا إلى مصادرنا الإسلامية الأولى "القرآن والسنة النبوية" وربط جميع النظريات والأعمال بذلك، وهذا ما لمسته ويلمسه كل قارئ للكتاب لنشعر بالبركة المستمدة من بركات المسجد الأقصى المبارك، والحث على صناعة الفعل بدل الاستمرار بردة الفعل مع ضرورة أن يكون هناك تخصص وتكامل حتى تسد جميع الثغور ويتم العمل يدًا بيد بين أبناء الأمة، بإخلاصنا ووحدتنا نصل بإذن الله.

وبهذا يكون البروفيسور قد رسم لنا خارطة نسير عليها متوكلين على الله بحوزتنا إيماننا واخلاصنا ومعرفتنا التي تنير لنا طريقنا لنصر الحق، ونصل ونساهم بالتغيير الذي يبدأ من أنفسنا ثم أمتنا وصولًا للتحرير، أسأل الله أن يبارك هذا الجهد وصاحبه وأن يرزقنا ويكرمنا ونجتمع على مصطبة التسوية الشرقية في المسجد الأقصى المبارك ونصلي صلاة فتح ونعد العدة لتحرير الأمة، ويبقى شعارنا دومًا " المعرفة تقود التغيير والتحرير".