لطالما كانت الأخلاق حاكما قويا على سلوك الأفراد وحتى على مستوى المجتمعات بمختلف طبقاته، بل وتجاوزت ذلك لتكون حاكما على الحضارات المتوالية في التاريخ ومحددا من محددات المصير بالنسبة لها، ذلك أن المقوم الأخلاقي يعد من أهم مقومات الحضارة وأكثرها تأثيرا، فنجد على سبيل المثال أن زوال بعض الحضارات كان نتيجة لاضطرابات أخلاقية، بعكس ما تميزت به الحضارة الإسلامية من مزايا أخلاقية تكاد تنفرد بها عن غيرها، الأمر الذي عزز من قوتها وسلطانها وأمديتها، بل كانت رابطا مهما من روابط الاتساع والتأثير في ما جاورها من دول، فكانت الأخلاق بابا من أبواب التوسع وانتشار الإسلام في الهند والصين، وبذلك عززت من نفوذ الدولة وقوتها.
الأخلاق الراقية
ما يميز الحضارة الإسلامية أنها تجاوزت بعدها الظاهري من عبادات وشعائر نحو تربية النفوس وتعزيز جانبها الاخلاقي، الأمر الذي جعلها رائدة ومتميزة عن ما سواها من الحضارات والتي بقيت عاجزة عن حل أبسط المعضلات الأخلاقية في مجتمعاتها رغم ما حققت من التطور المادي!
كما يعتبر منهج الإسلام في بناء الأخلاق فريدا ومميزا بحيث تقوم هذه المنهجية على مجموعة من الأسس أهمها: ربط الأخلاق بالإيمان وبالمصير في الآخرة، بل وجعل لأصحاب الأخلاق الطيبة منازلا في الجنة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. [حديث حسن]
وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَاناً أَحسَنُهُم خُلُقاً" [حديث حسن صحيح، رواه الترمذي]
هذا وجعل الإسلام من تحسين الأخلاق مقصدا من مقاصد العبادات، فالصلاة والزكاة والصيام لم تسن لذات العبادة فيها، بل َ لينعكس أثرها على سلوكنا وحياتنا، لذا قال ربنا تبارك وتعالى عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة العنكبوت، الآية 45]، وقال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة، الآية 103].
ومن تلك الأسس أيضًا، أن القيم في الإسلام ثابتة وليست متغيرة أو نسبية، في الرخاء أو الشدة، في الحرب أو السلم.
الحرية الفاضلة
إن ما ينشر عن الغرب اليوم من حريات مزعومة ومفاهيم مشتتة عن الحريات، هاته الحريات التي قادت الإنسان إلى الانسلاخ من دينه وتقاليده وما تعارف عليه، بحجة الانفتاح المطلق..
فنجد أن الانسلاخ الاخلاقي هو أول ما عرفته الحضارة الغربية تحت مسمى الحرية، مـــع أن الحرية كلمة جميلة ورائعة ومطلب حرص عليه الإسلام، لكن الحرية بمفهومها الذي يخدم الفضيلة ولا يحاربها.
من المعروف أنه لا توجد حضارة فاعلة بلا حرية، والحضارة الإسلامية تتيح حرية التدين، وتكفل حرية التعبير، لكنها حرية مسؤولة لا تنفصل عن الأخلاق، وحرية مشروطة بعدة شروط كاحترام الآخر وعدم التعدي عليه والالتزام بالمعايير الأخلاقية.
حرية المرأة
إن سؤال الحرية دوما ما يقودنا لواقع الحال وخاصة فيما يتعلق بالمرأة، التي يصدر لنا الغرب عنها مفهوما مثاليا عنها وعن الحرية المتاحة لها، وبأنها لا تختلف عن الرجل في شيء، هذا الادعاء الذي يطعن في مصداقيته حين نلحظ حجم الاستغلال المادي والمعنوي الذي تعاني منه المرأة الغربية، فنجدها مستغلة بشكل مسيء لها فأصبحت أداة عرض رخيسة جالبة للأرباح من خلال مختلف الإعلانات والمسابقات التي أودت بها في وادي الانحلال الخلقي، وأبعدتها عن مهمتها الفطرية ونزعت عنها خصوصيتها الناعمة والأنثوية، فتجدها إما سلعة لشكلها، أو آلة للصناعة والحدادة وما شق من الأعمال.
حرية المعتقد
إن حرية التدين والاعتقاد من أعظم الشواهد والأمثلة على صيانة الإسلام للحريات، فأعطى الإسلام الفرد الحرية َفي اعتقاد ما شاء، وألا إكراه على الدخول في الإسلام، ونص على ذلك في أكثر من آية كريمة
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [سورة البقرة، الآية 256]، يرجع هذا إلى قيمة أساسية ومرجع ثابت ألا وهي الأخلاق، فالحاكمية الأولى هي احترام الأخلاق وعدم التجرأ على ما قد يمس بها.
حرية التعبير
ومثلما كفل الإسلام حرية المعتقد، فإن حرية التعبير من الحريات المكفولة للمؤمن، فلديه حرية قول ما يشاء من آراء أو أفكار دون أي قمع أو إساءة، كل ذلك في حدود الضوابط الأخلاقية المتعارف عليها، للمؤمن حق النقد والمساءلة والمحاسبة ويدخل في ذلك حقه في متابعة حقوقه وسيرورتها وحتى سياستها، فهو معني بكل ذلك مع كفالة التصريح بما شاء من نقد، ونجد في عصرنا هذا أن الإعلام والصحافة ومواقع التواصل من منابر التي تعنى بالحريات التي كفلها الإسلام.
الفن القيمي
حين نتحدث عن الفن فإننا نفتح بابا واسعا تتنوع فيه الصنوف، فنجده يأخذ أشكالا عدة منها المادي كالرسم والنحت والزخرفة والعمارة، ومنها المعنوي كالغناء والإنـشـاد، والكتابة والخطابة والشعر والتمثيل وغيرها..
والفن شأن من شؤون العبادة تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، فمنه الحلال والمستحب والواجب كما أن منه المكروه والحرام، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد احتفى بالشعر كلون من ألـوان الفن، بل قد احتفى بالشعر وبالشعراء، وشجع على توظيفه في خدمة الدين، ونصرة الحق، فقد روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضـي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينصب المنبر لحسان ويقول: {هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ}.
هذا وعرفت الحضارة الإسلامية ألوانا من الفنون التي تعد أيقونة تفردت بها الحضارة عما سواها من الحضارات، ذلك أن الإسلام دين الفن والذوق والجمال، فكل فن متاح ما كان داخلا في أدبيات الأخلاق، ذلك أن الغرض الحقيقي من الفن هو النهوض بالانسان والارتقاء بقيمه وعدم النزول به لمنازل الحضيض.
الإبداع الملتزم
يعد الإبداع من أهم وأقوى وسائل النهضة والتطوير في أي حضارة، بالابداع تستمر في الإثمار والتجديد والتغيير، وبدونه يصيبها الموات والتراجع والتقهقر، نعتبر الإبداع وسيلة لأن اعتباره كغاية قد يلغيه ويستبعده من ميزان المحاسبة، كما هو الحال في الغرب أين تهمش مكامن الإبداع وسبله أكانت أخلاقية أم مدعاة للانحطاط والرذيلة، ما يشكل فارقا أن الإسلام يشجع ذلك الابداع الأخلاقي المثمر، فتجد أنه يقدم القاعدة الأولى للإبداع ثم يترك العنان ويطلق حرية الوثب من تلك القاعدة الأصيلة.
وانطلاقا من تلك القاعدة وبمثل هذه المنهجية أنتجت حضارة الإسلام إبداعات كثيرة، كانت قمة في الروعة والعظمة، ومن تلك الإبداعات:
الإبداعات العسكرية
يعتبر «حفر الخندق» حيلة لم تعرفها العرب، وأسلوب عسكري غريب عنهم، لذا لما وقف فوارس من قريش على الخندق قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرُفها»، وهذه المكيدة تعلمها النبي صلى الله عليه وسلم من «سلمان الفارسي»، وفعل النبي يدل على أن مجتمع المسلمين آنذاك كان منفتحا على الثقافات الأخرى، وأن الإسلام يرحب بكل إبداع وكل جديد، ما لم يخالف مقاصد الشريعة وأحكامها.
الاجتهادات والمؤلفات
إبداع القاضي «أبي يوسف» في كتابه الخراج، الذي يعتبر أول كتاب يتحدث عن السياسة المالية للدولة.
إبداع الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة» الذي يعد أول كتاب يوضع فيه علم أصول الفقه.
أبدع العلماء المسلمون علم الجرح والتعديل لرواة الحديث الشريف، الذي لا يوجد مثيل له في حضارة أخرى.
يعد أول كتاب فـي العالم يتحدث عـن علم الإبـــداع من تأليف «الجويني» فـي كتابه «غـيـاث الأمـــم» الــذي يتحدث فيه عن المستقبليات وإدارة الأزمات.
الإبداعات العلمية
أبدع العلماء المسلمون منهجية في التوصل إلى العلم التجريبي الرصين، القائم على الفرضية والبرهان، والمشاهدة والتجريب.
أبدع المسلمون فكرة الفرق العلمية، حيث يكون الباحثون فريقا علميا متكاملا، يشتمل على أكثر من تخصص، وأكثر من عالم، لتكون النتيجة عملا متكاملا مدروسا من كل النواحي.
إنّ إبداعات المسلمين المادية والعلمية تملأ التاريخ، وتم جمع بعضها في كتاب رائع هو «1001 اختراع للمسلمين.»
الدعوة بالعلم
ما يميز الإسلام أنه جعل من كل مجال من مجالات الحياة سبيلا للدعوة والحث على الأخلاق والقيم النبيلة، فكان العلم أحد أهم أبواب نشر الدعوة السمحة، من خلال الالتزام الأخلاقي وبثه فيمن يأخذون عنهم العلم، بل وينبذ الإسلام استغلال العلم في مصالح دنيئة أو الاتجار به والاستهزاء بعقول العامة، فيجب أن تكون ذمة العالم بريئة من كل هاته النوايا المخلة، بل يحرصون كل الحرص على تتويج أبحاثهم بما يفيد وينفع البشرية دون أي استغلال مؤذي، أو إنتاج يخاطر بأرواحهم وعقولهم.