مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كانت سببًا في انقسام المُسلمين إلى مذاهب شتّى منها، المعتزلة وقولهم أنَّ العبدَ خالقٌ لأفعالهِ؛ ونتيجة لنفي القضاء والقدر على إطلاقهِ يُطلق عليهم اسم "القدرية النُفاه". أما الجبرية فقولهم أنَّ العبدَ ليس له من الأمر شيء، وأنَّ العبدَ مُجبرٌ على جميع أفعالهِ؛ ونتيجة لمذهبهم هذا في القضاء والقدر يُطلق عليهم اسم " قدرية الإثبات" فهم على النقيض من المعتزلة، ويطلق عليهم كذلك اسم "القدرية الأبالسه" نسبة لإبليس -لعنه الله- حيث أنّ موقفهم هو ذاته موقف إبليس من القضاء والقدر؛ فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن إبليس أنه قال: "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"، وقال: "قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ". فقد أرادَ إبليس أن ينسبَ عدم سجوده لآدم -عليه السلام- لله، وأنَّ الله قد أجبرهُ على ذلك!

ولكن باستعراض الآيات، نجد أنَّ ربّ العِزّة سأل إبليس -وهو عَليمٌ- فقال تعالى: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ"؛ فقال إبليس: "قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ".

فتبيَّن من ذلك أنَّ الله لم يُجبر إبليس على عدم السجود لآدم، بل كان مُختارًا بين السجودِ وعدمهِ حسب إرادته.

أما أهل السُّنة والجماعة، فنقول أنَّ كُلَّ إنسان له مشيئة وإرادة في ظِلِّ مشيئة وإرادة الله؛ فالإنسان كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "كُلٌّ مُيسّرٌ لِما خُلِقَ لهُ"؛ فالإنسان مُخيّر ومُسيّر في آنٍ واحد؛ فليس مُجبرًا على الإطلاق، وليس مُخيّرًا على الإطلاق.

ونجد عبْرَ التاريخ أنَّهُ قد دخلت على عقيدة أهل السُّنة والجماعة شيء من الجبر في القضاء والقدر؛ حيث تمَّ سحب حرف الياء من كونهِ بعد حرف الميم لجعلهِ بعد حرف السين، من " مُيسَّرٍ " إلى "مُسيَّرٍ"!

من ذلك ما نجده في موقف اثنين من الأعلام الذين عاصروا الهجمة التترية -المغولية- على ديار الإسلام، هما شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عربي الصوفي.

حيث كان ابن تيمية يُحرّض المُسلمين حُكّاما ومحكومين في مصر والشام على جهاد التتار والدفاع عن بيضة الإسلام، كان ابن عربي على النقيض حيث نجده يُنشد قائلًا: "لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ، فمرعى لغزلان، وديرٌ لرُهبان، وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ، وألواحُ توراةٍ، ومصحفُ قرآنِ، أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهت".

ونجد في العصر الحديث بعض طُرق الصوفية قامت بجهاد الاستعمار كالطريقة السنوسية في ليبيا وعلى رأسهم شيخ المُجاهدين عُمر المُختار -رحمه الله-، وعلى النقيض كان كثير من المتصوفة يعيشون في غير واقعهم، ولا يرون الانشغال بغير الذِكر والزُّهد!

حيث يرى بعض المتصوفة -الذين تسللت إلى قلوبهم عقيدة الجبر قديمًا وحديثًا- أنَّ هذه إرادة الله وعقابه للمسلمين، وأنَّ قتال المسلمين للتتار قديمًا أو المُستعمر حديثًا معناه محاربة قضاء الله أي محاربة الله!

بسبب عقيدة الجبر سعى المُستشرقون إلى ضرب الإسلام من خلال الطعن في ركن من أركان الإيمان ألا هو القضاء والقدر؛ فقد قال المُستشرق الألماني سبلنجر: "أنَّ سبب ضعف المسلمين إيمانهم بالقدر والمهديّ المُنتظر"!

حيث تدفع عقيدة الجبر المسلمين إلى الكسل والخمول وعدم العمل، ونعت كل شيء بأنه قضاء وقدر، وسلب الإنسان أي إرادة حُرَّة فاعلة، ويُلقون كلَّ شئٍ بقولهم أن الربّ أرادَ ذلك!

ممّن تنبّه لقول المُستشرقين -بأن الإسلام دين جبر- شاعر الهند وفيلسوف الشرق والإسلام محمد إقبال؛ فردَّ إقبال طعنهم في القضاء والقدر، بأنَّ المسلمين احتجّوا بالقرآن في القصور عن السعي، ومن هذا القرآن نفسه ملك المسلمون الآفاق، وقد ركنوا اليوم إلى القدر، وكان عزمهم قبل اليوم قدرًا!

كما ردَّ إقبال فرية ركون المسلمين إلى المهديّ، بأننا لا نركن إليه؛ بل نتوسّل فقط بذكر المهدي لنفخ الحياة في موتى الأحياء.

لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يتم اختزال انحدار المسلمين في قضية واحدة وغض الطرف عمّن سواها!

ومن تلك القضايا التي تُعدُّ سببًا من أسباب الانحدار، تسلل عقيدة الجبر إلى أفعالنا وأقوالنا؛ وبالتالي لابُدَّ من حلِّها بتوعية الناس بحقيقة عقيدة القضاء والقدر، تلك القضيّة العويصة كما سمّاها ابن رشد الفيلسوف!

وأرى -وهذه وجهة نظري- أنَّ أفضل شارح لمسألة القضاء والقدر وفق منهج أهل السُّنة والجماعة هو ابن رشد الفيلسوف؛ حيث يقول في كتابه منهاج الأدلة: "أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد خلق لنا قوى نقدِر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد، لكن لمّا كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلّا بمواتاة الأسباب التي سخّرها الله لنا من الخارج وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعًا؛ بإرادتنا، وموافقة الأفعال التي من خارج لها وهي المعبّر عنها بقدِر الله".

ومعنى كلام ابن رشد، أنَّ الإنسان ليس مُجبرا فقط ولا مُخيّرا فقط؛ بل هو مُجبر ومُخيّر في آنٍ واحد؛ فالإنسان حُرّ لكن حريته ليست حُرية مُطلقة أو حُرية القادر على كلِّ شيء، فالإنسان مُخيّر؛ ولكن من بين البدائل الموضوعة سلفًا من الله، فاختياره محكموم من بين بدائل ليست من صُنعه.

فالإنسان حُرّ الإرادة على الحقيقة لا على المجاز؛ لكن هذه الإرادة الإنسانية تعمل وسط محيط وتحت مؤثرات خارجة عن إرادته، تلك المؤثرات ليست من صنع الإنسان بل من صنع الله؛ وقد يكون ذلك المحيط الذي يؤثّر على إرادة الإنسان واختياره طبعٌ مجبول عليه أو موروث ورثه عن أبويه أو عن البيئة التي يعيش فيها ولا يستطيع مقاومته وتغييره؛ كما لا بدَّ أن تكون إرادة الإنسان تتماشى مع الأسباب الخارجة عنه؛ أي وجود الأسباب التي يتحقق من خلالها عمل إرادة الإنسان ويكأنها تشبه عمل القوانين الطبيعية!

ويضرب لنا ابن رشد مثالا على ذلك فيقول: "إذا وردَ علينا أمر مُشتهى من خارج، اشتهيناهُ بالضرورة من غير اختيار فتحركنا إليه؛ وكذلك إذا طرأ علينا أمر مهروب منه من خارج، كرهناه بالضرورة فهربنا منه؛ وإذا كان هكذا فإنَّ إرادتنا محفوظة بالأمور التي من خارج ومربوطة بها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }".

 

فلنضرب نحنُ مثالا من وجه آخر ليتضح المقال: لنفترض أنَّ هناك ثلاثة طُرق للسير (أ) و(ب) و(ج)؛ فكون عددهم ثلاثة طرق فقط لا إثنان ولا أربعة هو "قدر الله" كونك مجبور ومُقيد بتلك الطرق الثلاثة فقط، ولكن أن تسلك أيّ طريق من الطُرق الثلاثة فهذا اختيارك وحدك ووفق إرادتك الحُرّة!

فإن سلكت الطريق (أ) فسيُوصلك إلى نقطة ما؛ وإذا سلكت الطريق (ب) فسيُوصلك إلى نقطة أُخرى؛ وهكذا في (ج)! ولنفترض أننا سلكنا الطريق (أ) ووصلنا إلى النقطة (ع)؛ فسنكون كذلك مُخيّرين ومُجبرين عند النقطة (ع)، وهكذا دائر ما يدور!

 

"فلا يُقيّد المؤمن الحُر سوى إطاعته أحكام ربهِ". وأختم بقول محمد إقبال:

فيهِ عزمٌ على القضاءِ مُشير .. وهو في العالميْن كالميزانِ

وقولهِ:

والمؤمن الحُر لا شيء يُقيده .. لكن لخالقه في قَيد أحكام.