تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

العقل والوحي

كثيرا ما يتناغم الوحي البشري مع العقل في ميزات عدة، فالفلسفة بأبوابها العديدة كانت بابا مشرعا للفهم والتعمق في كثير من الفهوم والنصوص، وكانت تتواءم مع منهج الوحي المتقن والسلس، ويختلف ذلك التناغم بين النصوص والشرائع والقوانين الإلهية المنظمة لسيرورة هذا الكون، ولأنّ الوحي بمعطياته العقلية والواقعية المواكبة لأحداثها استطاع أن يحتوي مختلف جوانب الحياة الإنسانية ويشتمل على الاحتياجات الحقيقية لسيرورة الأرض واستخلافها بالشكل الجيد فإنّ التشريع الإلهي يبقى الأصلح على الإطلاق لتسيير شؤون الحياة بمختلف جوانبها. 

يقول ابن خلدون رحمه الله: «إن هدف الخلافة والحكم هو تطبيق شرع الله تعالى، وتطبيق الشريعة هدفه نشر الخير ومراعاة مصالح العباد، كما هو هدف كل شريعة، لكن شرائع البشر يصيبها شيء من الجهل البشري، وتأثيرات الشيطان، بخلاف شريعة الله تعالى فهي معصومة من ذلك، وكل حكم دنيوي في شرع الله تعالى له ارتباط بالآخرة كذلك، فالحكم والخلافة في الحقيقة نيابة عن الله تعالى، في حماية الدين وسياسة أمور العباد بشرع خالقهم » بتصرف.

إنّ ما عانته وتعانيه البشرية لغاية يومنا هذا من التشريعات المحكومة باجتهادات بشرية يعد إشكالية حقيقية، لأنها تشريعات قاصرة عن تحقيق السعادة للإنسان، وإقامة العدل بين الناس، وكذلك هي تشريعات تتأثر بحدود الزمان والمكان، وغالبا ما يكون فيها محاباة لبعض الناس، أو لفئة معينة، أو طائفة بعينها، لذا فلا يصلح لقيادة الناس إلا شرع الله تعالى، الصالح لكل زمان ومكان، والخالي من كل عيب أو نقص، والذي لا يحابي أحدا، ولا يجور على أحد، لأنه صادر عن الله تعالى الذي خلق الإنسان وهو الأعلم بما يصلح له.

إنّ البعض قد أساؤوا فهم الإسلام، وطبقوا الشريعة بناء على فهمهم، فمنهم المغالي المتشدد، ومنهم المفرط المتساهل، وهذا كله انعكس سلبا على وعي الناس، فالعيب ليس في نصوص الشريعة، وإنما في العقول التي تتعامل معها.

وبالرغم مما يحمله التشريع الإلهي من صلاح للبشرية والأرض على حد سواء إلا أنّ هناك من تجده يدافع عن الأنظمة البشرية الهشة في وجه التشريع الرباني؛ وحجته في ذلك أنّ كثيرا مـن الـدول الإسلامية متخلفة فـي شتى مـجـالات الحياة، من تقدم ضعيف وتراجع تنموي واضح، متجاهلا حقيقة أنّ المسلمين قد حادوا وابتعدوا عن مقاصد شرع الله تعالى، ولم يلتزموا بتطبيقها، وذلك بسبب أنّ البعض قد أساؤوا فهم الإسلام، وطبقوا الشريعة بناء على فهمهم، فمنهم المغالي المتشدد، ومنهم المفرط المتساهل، وهذا كله انعكس سلبا على وعي الناس، فالعيب ليس في نصوص الشريعة، وإنما في العقول التي تتعامل معها.

من ضمن الأسباب أيضا أن كثيرا من العلماء -بحسن نية- يقدمون الشريعة الإسلامية على أنها قصاص وحدود فقط، فالشريعة قطع ليد السارق، وجلد للزاني أو رجم، وهكذا، والخلل ليس في تطبيق أحكام الإسلام مهما كانت قاسية، ولكن الخلل في تجزئة تطبيق أحكام الإسلام، بأن نطبق بعض الأحكام ونترك بعضها الآخر، وكذا الخلل في أولويات التطبيق.

وفي هذا تجزئة لشريعة الله تعالى التي هي كل متكامل، سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد؛ وما يختص بالشعائر والعبادات، وما يختص بالحلال والحرام؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية.

ومن شواهد الحق لهذا التشريع أنه لم تقم حضارة العرب إلا بشريعة الإسلام، فبه علت أمجادهم واتسعت دولتهم وقويت بعد أن كانوا قبل ظهور نبي الرحمة لا وزن لهم، كانوا مجرد قبائل تتناحر فيما بينها.

 وتوسعت بعد ذلك الدولة لتصل مشارق الأرض ومغاربها واستمرت ريادة الحضارة الإسلامية لفترة زمنية طويلة جدا، مقارنة بباقي الحضارات التي سادت ثم بادت، حيث استمرت ريادة الحضارة الإسلامية قرابة (600) سنة.

وكل هذا يدل على نجاح تطبيق الشريعة بغض النظر عن الزمان والمكان والإنسان، فطبقت الشريعة في كل أرض فتحها الإسلام، من الصين إلى الأندلس، وبذلك تحقق على أرض الواقع التقدم الحضاري لأمة الإسلام، وأثبتت تفوقها في كافة المجالات العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وكل هذا بسبب تطبيق مقاصد الشريعة الإسلامية.

إنّ الشريعة لم توجد لتعطيل مصالح الناس إنما لتسييرها والحث على تحصيلها، وهنا يكمن التناغم بين منطقية الشرع وعدم تعارضه مع العقل والفهم القويم.

المصلحة هدف الشريعة

يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحَكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها».

فالأصل في التشريع الإسلامي هو خدمة مصالح الناس، وأينما وجد تعارض مع ذلك فلابد من مراجعة النظر في الأمر، لأنّ الشريعة لم توجد لتعطيل مصالح الناس إنما لتسييرها والحث على تحصيلها، وهنا يكمن التناغم بين منطقية الشرع وعدم تعارضه مع العقل والفهم القويم.

ولضمان تحقيق المصالح جــاءت الشريعة الإسلامية بخمسة أمور، اصطلح العلماء على تسميتها بالضرورات الخمس، التي تتوقف عليها حياة الناس وسعادتهم، وتفسد حياتهم من دونها، ومتى اختلت اختل نظام الحياة كله، والضرورات الخمس هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال.

واعتبرت الشريعة الإسلامية التعدي على إحدى هذه الضرورات جناية وجريمة تستلزم عقابا وتأديبا، وشرع من العقوبات ما يحفظها من التعدي، فحفظ العقل بتحريم الخمر، وحفظ العرض بتحريم الزنا وقذف المحصنات، وحفظ الدين بتحريم الردة وتجريم المرتد، وحفظت النفس بتحريم القتل وإزهاق الروح بلا سبب شرعي، وحفظ المال بتحريم السرقة الغصب وتشريع حد السرقة والحرابة وغيرها، وفي كل ذلك تحقيق لمصالح العباد.

الإحسان والعدل

قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [سورة النحل، الآية 90] ، يقتضي العدل في الإسلام أن لا محاباة ولا قرابة، فالكل كأسنان المشط متساوون إذ ما تعلق الأمر بالحكم بما شرعه المولى عز وجل لقوله صلوات ربي وسلامه عليه: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)، أما الإحسان فهو مرتبة تفوق العدل بدرجة، ففيها مراعاة للضعيف والرفق بالمحتاج والتهوين على المصاب ومن شواهد الإحسان حين روت لنا كتب التاريخ عن الفاروق عمر حين مر ذات يوم برجل كبير في السن من أهل الذمة يقوم على أبواب الناس يسألهم الإحسان والصدقة، فسأله عمر: ما شأنك يا رجل؟

فقال الذمي: لقد عجزت عن دفع الجزية، فأنا أسأل الناس حتى أجمعها وأعيل نفسي.

فقال عمر: ما أنصفناك! أخذنا منك الخراج شابا، فلما كبرت سنك خذلناك، ثم أمر أنّ مال المسلمين عطاء (راتب) يعينه بقية حياته.

إذًا هنا العدل يقتضي أن يدفع هذا الذمي ما عليه من جزية، أسوة ببقية أهل الذمة، ولأنه قانون عام ليس فيه محاباة، هذا هو العدل، لكن عمرا -رضي الله عنه- عامله بالإحسان ولم يعامله بالعدل، فالإحسان أعم وأرفع من العدل، العدل أن يأخذ الإنسان حقه ويعطي الآخرين حقوقهم، أما الإحسان فأن تعطي فوق ما هو عليك وما هو مطلوب منك.

الحقوق والواجبات 

إنّ الشريعة الإسلامية لا تطالب الناس بالواجبات، إلا وتعطيهم في المقابل حقوقا، فمن واجبك أن تطيع ولي الأمر، إن أمرك بمعروف، وفي المقابل فإن ولي الأمر مطالب بأن يمنحك حقوقك، من عدالة اجتماعية، وحرية رأي وتعبير، وحفظ كرامتك من أن تهان، فإذا لم تتوفر تلك الحقوق الأساسية فلا سمع ولا طاعة لحاكم لا يؤدي حقوق العباد، ولا يقوم بالواجبات المنوطة به.

السلطان والدين والقانون

 يتجلى الأمر في أنّ تأثير الحاكم المسلم في حياة الناس قد يكون أكثر من تأثير الأحكام الشرعية ذاتها، خاصة عندما يضعف الوازع الديني في نفوس الناس ويضعف ميزان التقوى ليستبدل بميزان الرقابة البشرية، بمعنى أنّ الحاكم المسلم يمنع اقـتـراف المعاصي، ويحول بين الـنـاس وبين ارتكاب المحرمات والفواحش وذلك من خلال مختلف القوانين والتشريعات، الأمر الذي يخلق انصياعا يسهم في بقاء الأمة على عهدها من النظام والخلق.

الأصل في الإسلام أنّ الوازع هو الدين، أمـا السلطان "كالأمن والــقــانــون والجـيـش" مكمل معـيـن للشرع على تحقيق المقاصد، وليس بديلا عنه، لأنّ الدولة في الإسلام تـقـوم على ركنين أساسيين هما التقوى ومخافة العقوبة، ويقول عثمان بن عفان: «إن الله تعالى يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن».