يحتاج بناء الحضارات وتطويرها لدراساتٍ مُعدّة وتخطيطٍ طويل لنؤثر في مجتمعاتٍ كاملة بأفكارها ومعتقداتها وخلفياتها المختلفة ونُشَكلها في قالبٍ جديد يرتقي بها، وقد استطاع شخصٌ واحدٌ مؤيدٌ برسالةٍ عظيمة أن يبني يومًا حضارةً من أعظم الحضارات، رسالةٌ أدى من خلالها ما لم يستطع الجبابرة والسلاطين على تأديته وتغييره في المجتمع، جاء بما يستهدف القلوب ويوافق الفطرة لا بالمُغرياتٍ الدنيوية الزائلة.
وفي هذه الأيام نجد الإحتفالات بالمولد النبوي الشريف حيث إستحقّ خيرُ البريّة أن نحتفي به وبكُل يومٍ عاشه على هذه الأرض، وقبل البدء لنتفق عزيزي القارئ على أن نوجه تركيزنا على جميل الرسالة المحمدية وعظمتها بدلًا من أن نتفانى بجهدٍ على إثبات الاحتفال كونه بدعة أم محمودا، ولنعمل على إستثمار هذا الوقت بأكبر قدرٍ لنجعل منه ثورةً توعوية بالرسالة المحمدية والملّة السمحة. ودعنا في هذا المقال نذهب معًا في رحلة جميلة نستكشف فيها بعض التحولات الحضارية الجذرية التي لولا الرسالة المحمدية لظلت الحضارة عجفاء لسنينٍ أطول، وهذه التحولات قد ذُكرت مختصرةً في كتاب (في الفقه الحضاري) للمؤرخ الإسلامي عماد الدين خليل ونأتي هنا لتفصيلها.
التوحيد في مواجهة الشرك
يحتاج الإنسان بفطرته السليمة إلى "إله" يدير شؤونه ويُدبر أمره، ويبدأ في البحث من أين جاء ولماذا، قديمًا في الحاضرةِ العربيّة أبى الإنسان إلّا أن يُرضي ضميره ويسدّ حاجته بأصنامٍ صنعها ليجعل منها آلهةً تدير حياته، رغم أنّه يعلم جيدًا أن إدارة الكون تحتاج لقُدراتٍ تفوق القدرة البشرية. وهنا كان علينا أن نبدأ بأهم المحاور وأجلّها، وهو توجيه العباد جميعًا لعبادة الله الواحد الأحد، بعد أن كانت الأمة في أسوأ حالاتها وتعددت الآلهة فأصبح الإنسان في ذلك العصر مشتتًا لدرجة أن يصنع إلـٰهًا من التمر في أول النهار يأكله في الليل، وآخر يركع لصنمٍ يعتبره أقدس الموجودات، فنشأ التعصب الديني وبات كل شخصٍ يتبع منهجًا مختلفًا، إلى أن جاء دينٌ موحدٌ للمقاييس والعبادات، حيث يسير الجميع وفق قوانينٍ محددة ورؤية سليمة قويمة ونجحت بدحر الشرك والتعدد وإحالته إلى رحاب التوحيد.
الوحدة في مواجهة التجزؤ
كانت شبه الجزيرة العربية في ذاك الحين تعيش أنواعًا مختلفة من التجزؤات وعلى مستوياتٍ متعدده منها الطبقية والقبلية، رغم عيش الناس في نفس المكان إلا أنهم انقسموا، فقد كانت لكل قبيلة صنمًا يخصها، فباتوا يتفاوتون ويتفاخرون حتى فيما بينهم، إلى أن جاءت الرسالة حاملةً للدين الذي يدعو للوحدة والاتحاد الذي يعتبر من أهم مقومات بناء الحضارة وأيضًا من أهم خصائص الأمة الإسلامية وقد قال الله تعالى في الآية 51 من سورة المؤمنين: "وإنَّ هٰذِهِ أُمتُكُمْ أُمّةً واحِدة وأنا ربُكُمْ فاتّقُونِ"، فجاءت بما تحبه الفطرة من أن يكون الناس كالجسد الواحد يشدُ بعضه بعضًا، معتصمين بحبل الله، ساعيين لتحقيق مساعٍ نبيلة وتحت قيادةٍ واحدة.
الدولة في مواجهة القبيلة
كان لزامًا على الدولة الجديدة القائمة أن تمُرّ بالقبيلة التي تحوي عادات مختلفة وقوانين خاصة، فبعد أن وُجِهَ الجمعُ لعبادة موحدة وزُرِع الإخاء بين الناس كان لابد أن ينتقل بالناس من مفهوم قبيلتي وقبيلتك لمفهوم الوطن الواحد والدولة الإسلامية الواحدة، وأننا جميعًا نعملُ لأهدافٍ واحدة.
وقد أبان بُطلان القبيلة في رده على الشجار الذي حصّل بين الصحابة –رضوان الله عليهم – في المدينة يوماً فنادى كل فريق عشيرته وتوشحوا السيوف، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:( دَعُوهَا فإنَّها مُنْتِنَةٌ) ويقصد بذلك القبلية، وتأتي الرسالة المحمديّة لتُواجه القبيلة بعدل الدولة، لذا وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة كدستور يضبط العلاقة بين الأطراف جميعا مهاجرين وأنصار، مسلمين وأهل كتاب ومشركين.
التشريع في مواجهة العُرف
بعد الفترة الطويلة التي مرّت وانقطاع الرُسُل اعتاد الناس على عاداتٍ جديدة وردود أفعالٍ ثابته إزاء مختلف المواقف، منها الصالح ومنها غير ذلك فجاء الدين بشريعته والرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته، فغربلها ليُبقي على الصالح ويدحر تدريجيًا الطالح منها ويُقوِّمَ المعوّج. فجاء الشرع بسيطًا حتى تمكن من توجيه الناس في آخر الأمر بإرادتهم واصبحوا يعتبرونه عُرفهم القائم على مر الاجيال اللاحقة
المؤسسة في مواجهة التقاليد
من أجل بناء الحضارة كان من بين المطالب الإلتفات للتقاليد التي سار عليها الناس، غير أنّ الحاجة الحضارية تتطلب أن نحيلها لأفعال مؤسسة، ومن هنا كانت الدعوة برجوع المسلمين إلى القرآن والخضوع لأحكامه فقط، فنقلنا بذلك من الولاء للمجتمع الذي يحتكم إلى العادات للعمل بمنهج ثابت. قال تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الآية 46 من سورة الأنفال).
الأمة في مواجهة العشيرة
يطلق لفظ العشيرة على المجموعة من الناس الذين عاشوا مع بعضهم وكانت بينهم عُشرة ولا تتفاوت أعدادهم عن العشرات، وذلك لقُربهم وأُنسهم ببعضهم، وعملهم لمصلحة العشيرة ومواجهة أبناء باقي العشائر لنصرة ابن العشيرة، مما قد يؤدي على المدى البعيد إلى نشوب نزاعات داخل الحضارة، فجاءت الرسالة المحمدية داعية لبناء أُمةٍ واحدة لا تحوي بداخلها قبيلة او عشيرة أو نسب أو عائلة وإنما تحوي إخوانًا مسلمين لا فرق بينهم إلا بالتقوى، يعملون جميعًا لأجل الهدف الأسمى منيبين لله قائمين له. قال تعالى: " إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء ٩٢)
الإعمار والإصلاح في مواجهة التخريب والإفساد
تناول الدين مختلف سبل الإعمار من زراعة وصناعة وتجارة والحث على العمل الدؤوب والمخلص، وحرّم الربا والغش والرشوة، وقضى على السرقة والكذب وجعل من الفتنة إثمًا عظيمًا حيث منها يبدأ الفساد، ويقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33]، فاهتمت الرسالة المحمديّة بتفاصيل الإصلاح ومن ثم طرق الإعمار.
المنهج في مواجهة الفوضى والخرافة والظنون والأهواء
هنا أكتفي بجانب أن الله زرع في نفس كل مؤمن الإيمان بالقدر خيره وشرّه، وجعل الأمر بيده واتباع المنهج نجاةً للإنسان، واذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
وقد جاء النهيّ الإلهي عن اتباع الهوى واتخاذ العدل منهجًا في قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135]
المعرفة في مواجهة الجهل والأمية
رسالةٌ قويمة، مُربية للنفس وموجهة للروح، حثت على بناء الحضارة من خلال مجموعة سلوكيات، ولا يخفى علينا حث الرسالة على طلب العلم من المهد إلى اللحد ولا النهي عن كتم العلم، ولا حتى الأجر في السعي إليه، فكان لابد لبناء الحضارة بما يضمن استمراريتها، ووقود الحضارة يكمُن في العلم والتطوير الذي يحُث ديننا عليه وعلى إعلاء كلمة الحق والعدل، وكل شعارات اليوم من مساواةٍ وحقوق جاءت بها الرسالة قبل أكثر من ألف عام. فعلمت الإنسان بأنه مُكرّم ومفضّل على سائر الخلق والخلائق فزرعت فيه الثقة اللازمة ليبني أجيالًا قادمة.
التوازن والتناغم بين الثنائيات في مواجهة التناقض والنفي والاصطراع
أخيرًا لنُحافظ على حضارتنا العاملة الساعية، ولمعرفة الله سبحانه الخالق بطبيعة الإنسان الإستكشافية وعدم تسليمه بكل شيء كان التوازن والتناغم بالمشاورة، فأمرُنا شورى بيننا، بين الكبير والصغير، العالم والجاهل ليكمل بعضنا بعضًا ويتزن المسير لنصل متقبلين لآراء بعضنا دون صراعاتٍ فكرية كبيرة ونقضٍ لما زرعناه من إخاءٍ ووحدة.
ختامًا، لنُصلي ونسلم على أفضل من جاء برسالةٍ منجية وعلى أفضل أبٍ للأجيال، بانٍ للحضارة
هو النبي الذي أفضى لكل فتيً بأن فيهِ نبيًا إن هو اجتهدَ.