بين إيمان القلب وعمل الجوارح يكمن المقصد الحقيقي للدين الإسلامي ألا هو الجمع بين روح العبادة وواجب العمل، فطالما كان المسجد لبنة الدولة الإسلامية الأولى ومكان انطلاقتها وانبعاثها في أدنى الأرض وأقصاها، فتعدت الصلاة بذلك من أن تكون مجرد عبادة روحية إلى أن تكون مركزا مهما من مراكز الاجتماع والتخطيط والتسيير، وليست الصلاة وحدها بل كل شعائر الدين لا تخلو من شقها العملي الذي ينظم شأن حياة الفرد المسلم ويبقيه فاعلا حركيا ذا تأثير إيجابي لما حوله من مجتمع.
إنّ المتأمل في شأن التشريع سيجد أنه يتواءم مع طبيعة الإنسان وقدرته واستطاعته، فشرع تشريعا منوعا في التأدية والأزمنة مما يبعد عنه الملل والسأم، وشرع من العبادات المقيمة والمرتحلة كالصلاة والزكاة والحج، كما ترك الزيادات لشأن الاستطاعة فكل بما استطاع للعبادات من سبيل ومقدرة.
الروح والجسد
يقول الإمام محمد الغزالي: «إن الإنسان كل متماسك، وتزكيته المنشودة تشمل جوانب نفسه الظاهرة والباطنة»، لذلك حثت الشريعة الإسلامية بأن يكون للجسد أيضا نصيب من العناية والرعاية، فكانت بذلك ضرورة العناية الطبية والجمالية الظاهرة من نظافة وحسن مظهر، دون أن يطغى ذلك على العناية الروحية والإيمانية من تجديد وبلورة ومذاكرة.
ولأنّ الجسد وعاء الروح، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم أنّ الاهتمام به ضرورة، حيث دعا إلى التوازن في الحياة، من خلال إشباع حاجيات الجسد، من غير إسراف أو تبذير، لأنّ الروح تعيش في الجسد، وهو وعاء لها وتتأثر به. كما حث الإسلام على ضرورة العناية بالجسم فقد حذر من إهماله وأذيته من خلال إجهاده فوق طاقته أو تناول ما قد يضره، أو الانتهاء به إلى الحتف من خلال الانتحار، وحرم ذلك بشكل قطعي.
مع القوة والحق
إنّ القوة هي يد الفكرة وسلاحها، فما قويت الأفكار إلا وقوي المحيطون بها إما تأثرا بها أو خوفا من ردعها وبطشها، كذلك القوانين لا تكتسب قوتها إلا من صرامة ما تسنه من عقوبات قد تجرى على من يخالفونها، وقد أحسن الوصف سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين قال: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، ليبين بذلك أثر القوة في حماية الحق.
وعلى هذا الأساس كان من أهم أهداف الدولة الإسلامية صنع القوة وصنع أسبابها وعواملها لحماية الحق والدفاع عنه أمام بطش الشر والأشرار، فالحق سيضعف إذا لم تكن هناك قوة تحميه، لكن القوة تحفظ كرامة الإنسان وتتجنب الاستغلال أو الأذية والتنكيل، وكذلك عرف عن الفتوحات الإسلامية من الصين للأندلس شرفها وأخلاقها ورزانتها في استخدام قوتها، فلم تظلم ولم تستغل ولم تتجبر أو تروع آمنين.
دين الإسلام دين القوة من أجل العزة، فليست قوته من أجل ترويع الناس وسفك دمائهم والاستيلاء على مقدراتهم، بل قوة من أجل تحقيق العزة والكرامة للأمة المسلمة، وكما قال أونوريه دي بالزاك «القوة ليست أن تضرب بقوة أو بكثرة، لكن أن تصيب الهدف».
الإسلام لا يدعو إلى الزهد في المال كما يتصور بعض المسلمين، بل يدعو صراحة إلى كسب المال الحلال، والاستكثار منه، لأنّ المال عصب الحياة، وبه يستعين المسلم على قضاء حوائجه، وبه تتم نهضة الأمة، وبه تتحقق مقاصد الدين!
المال الموجه
إنّ للإسلام فلسفة خاصة فيما يتعلق بالمال، فليس في الإسلام أن تأخذ المال من أين شئت، وتنفقه كيف شئت؟ بل وضع الإسلام لذلك ضوابط تضبط حـركـة المـال، فــلا يـجـوز كسب المال مــن عمل حرام، وإنفاقه أيضا في حرام، لأنّ المال في التصور الإسلامي مال الله تعالى والإنسان مستخلف في هذا المال، {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [سورة النور، الآية 33]
الإسلام لا يدعو إلى الزهد في المال كما يتصور بعض المسلمين، بل يدعو صراحة إلى كسب المال الحلال، والاستكثار منه، لأنّ المال عصب الحياة، وبه يستعين المسلم على قضاء حوائجه، وبه تتم نهضة الأمة، وبه تتحقق مقاصد الدين، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ} رواه أحمد.
كما لم يوجب الإسلام على من أراد الدخول فيه أن يتخلى عن ثروته باسم الزهد أو ما شابه، بل إنّ ستة من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من الأغنياء، بل والأغنياء جدا، مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عن الصحابة أجمعين- ولطالما كانت أموالهم عونا للإسلام والمسلمين، وأقرب مثال على ذلك تجهيز عثمان بن عفان لجيش العسرة (غزوة تبوك)، هذا ويحرم الإسلام من أي كسب يكون محرما أو طريقته محرمة كالقمار والربا، لقيمة عظيمة ألا وهي أن لا ضرر ولا ضرار.
هناك تناغم واتحاد بين مفهومي التربية والتشريع، فوجود التشريع وحده غير كاف، بل وجدت التربية لتخلق ميزانا وضميرا عند كل فرد يتسم بالأخلاقية، ميزان تربوي يحث على ديمومة الخضوع للتشريع دون الفرار أو الإخلال بشروطه.
الحياة المتوازنة
التوازن هو سر عميق من أسرار النجاح في حياة الفرد، للموازنة بين روحه وجسده، بين احتياجاته الجسمانية والروحية، وقد أولى الإسلام أهمية كبيرة لحفظ توازن المؤمن ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة فهو خير من مثل هذا التوازن، حتى شهد بذلك غير العرب.
يقول البروفيسور راما كريشنا راو «لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقـــدمـــه هـــو نـــبـــذة عـــن حــيــاتــه مـــن صــور متتابعة جميلة، فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا».
ويمكن تقسيم الجوانب التي تخلق توازنا كالآتي:
- الروح: قد زكى الإسلام الروح في ميزان الاعتدال بأن شرع للإنسان العبادات وحرم عليه المنكرات وتنقية الروح من الشرك والرياء، وحرص على وضعه في موضع الميزان بين الجنة والنار الخير والشر مذكرا إياه بالخواتيم والدار الآخرة.
- العقل: أما عن العقل فقد أولاه أهمية كبيرة، فقد خص الإسلام العلماء وأهل العلم والمتدارسون فيه منزلة خاصة، فكانوا بذلك ورثة الأنبياء، ودعا في مواضع كثيرة لإعمال العقل تدبرا وتحليلا في كل ما يحيطه في هذا الكون الفسيح.
- العاطفة: وهي مكون رئيسي من مكونات الذات الإنسانية، بها يحيا الإنسان ويسعد ويهنأ، وإن أساء استعمالها كانت سببا في شقائه وتعاسته، فكان للشعور أهمية في التشريع فالغضب والقلق والتوتر حلول إيمانية تمكن المؤمن من السيطرة والتحكم فيها، فكان من ذلك الاستغفار والصلاة وكظم الغيظ واحتساب الأجر لله، فأصبحت بهذا كل العواطف متبوعة بإيمان يقيني يقيها التخبط والضياع.
- الجسد: له هو الآخر حق الرعاية والعناية كثيرا، فلا ينبغي على المؤمن اقتراف العادات المؤذية أو حرمانه من حاجياته وفق ما يحتاجه من ضرورات.
التربية والشريعة
إنّ الإسلام دين عملي في تشريعاته، عملي في مراعاته لمكونات النفس الإنسانية من روح وعاطفة وجسد وعقل، عملي في مراعاته لتغير الزمان والمكان، عملي في احترامه لخصوصية البشر والشعوب.
لذلك نجد أنّ هناك تناغما واتحادا بين مفهومي التربية والتشريع، فوجود التشريع وحده غير كاف بل وجدت التربية لتخلق ميزانا وضميرا عند كل فرد يتسم بالأخلاقية، ميزان تربوي يحث على ديمومة الخضوع للتشريع دون الفرار أو الإخلال بشروطه.
الإسلام دين عملي لأنه لا يركز على القوانين فقط، فإنه يجمع بين القوانين والتشريعات، بين التربية والأخلاق، بينما على سبيل المثال في الحضارة الغربية لا نجد ارتباطا بين القوانين والتربية، فعندهم إن استطعت أن تغش فافعل، لكن احذر أن تقبض عليك الشرطة، كل ذلك يدخل في إطار المصلحة تغلب التشريع.