تعدّ العلاقات بين الشعوب الهندو- أوروبية وحضارات الشرق الأدنى محور اهتمام الباحثين، إذ إن وصول هذه المجموعات غيّر من معالم الشرق الأدنى، فحدث تأثير وتأثر مكّن دول الشرق الأدنى من إحداث تطور كبير في مختلف المجالات. وتعدّ التجارة أهم هذه العلاقات، فكان هناك نشاط تجاري كبير بين هذين الحضارتين، ومن أبرزها: شعوب أرمنستان وبلاد آشور، فمعروف عن هذين البلدين الصراع، إلا أن هذا لم يمنع من وجود علاقات حضارية ساهمت في تطور المنطقتين.

 تتواصل الحضارات فيما بينها بعدة أساليب، والأسلوب الأكثر شيوعًا في تاريخ البشرية الحروب التي أدت إلى التقاء الحضارات في صراعٍ مسلحٍ يظهر للوهلة الأولى أنها شرّ على المجتمعات. إلا أن هذه المعاناة سرعان ما تنتج حضارة جديدة تغير معالم الحضارة في تلك المنطقة. وإلى جانب الصراعات العسكرية نجد التجارة، عاملًا مهمًا لالتقاء الشعوب في أسواق أو وكالات تجارية، يتبادل كل من البائع والمشترى أطراف الحديث، ويتعلم كل واحد من الآخر ثقافات الشعوب ولغاتهم.

عرفت كلّ من الأرمن وآشور علاقات تجارية، ساهمت في توطيد التواصل الحضاري بين ثقافتين مختلفتين وهم الهندو-أوروبيين والشرق الأدنى، فقد كان لهذا المزيج الحضاري آثار على الشرق الأدنى، إذ إن دخول الثقافة الهندو-أوروبية في الألف الثانية ثم في الألف الأولى ق.م للشرق الأدنى، ساهم في إدخال مواد جديدة إلى الشرق الأدنى، إضافة إلى ظهور لغات جديدة في المنطقة. في المقابل، إن الشعوب الهندو-أوروبية ومنها الأرمن، اكتسبوا أشياء جديدة من خلال مخالطتهم شعوب الشرق الأقصى. وعليه، سأحاول في هذه المقالة أن أوضح ما جاء آنفًا.

منشأ الشعوب الأرمنية

الأرض الأرمنية أرض مرتفعة يبلغ ارتفاعها بين (850-1850مترًا) فوق سطح البحر. وتعدّ هذه الأرض زلزالية، وهي منطقة متوسطة بين أوروبا الشرقية والشرق الأدنى يحدها من الغرب الهضبة الأناضولية. أما الشمال الغربي فنجد جبال البونتيك (Range Pontic) والمنحدرات الغابية لازستان، وفي الشمال يحدها بلاد جورجيا (جرجستان)، بينما في الشرق تحدها أذربيجان (Azərbican) والهضبة الإيرانية والتي تفصلها عن بحر قزوين(درياى خزر)، بينما في الجنوب الغربي نجد جبال طوروس(Taurus)، وفي الجنوب الشرقي يحدها بلاد الرافدين وسهول الجزيرة.


تتشكل أرمنستان من سلاسل جبلية أهمها جبال الأرارات (Ararat)، التي منها ينبع نهر الفرات، تغطيها الثلوج في قممها، وهي امتداد طبيعي لبحيرة وان (Van) (التابعة لجمهورية تركيا)، وهناك جبال الألاغوز (Alagoz)، وهي جبال بركانية يصل ارتفاعها إلى 4090 مترًا حاليًا (جبال نمرود داغ Dagh Nimroud). وكل هذه الجبال وأكثر تقسم أرمينيا طبيعيًا إلى قطع كأنها دويلات مستقلة عن بعضها.

تؤلف بلاد الأرمن العديد من الأنهار والبحيرات. ومن أهم الأنهار نجد نهر الأراكس (Arax) الذي ينبع من جبال بانغول داغ في مدينة أرضروم (التابعة حاليا للجمهورية التركية)، إضافة إلى نهر الفرات (Euphrates) الذي ينبع من جبال الأرارات، ونهر الدجلة (Tigris) والذي ينبع من جبال طوروس جنوبي بحيرة فان (Van). وتعدّ هذه البحيرة من أهم البحيرات التي تمتاز بها بلاد الأرمن حيث ترتفع على سطح، إضافة إلى بحيرة سيفان (Sevan) البحر ب1590 مترًا، وطولها 8 أميالٍ وعرضه 35 ميلًا وبحيرة أروميا (Oromia) (التابعة حاليا للجمهورية الإسلامية الإيرانية).

تاريخ أرمينيا قديم يعود إلى 100000 سنة ق.م، بينما يرجع التأريخ لشعوب الهندو-أوروبية في المنطقة إلى قصة هايك Hayuk وبيل Bel. كان هايك قائدًا لعشيرته، وقد استطاع أن يستقر هو وقومه في المنطقة المقابل لبحيرة وان (فان)، كما تمكنوا من القضاء على غطرسة ملك بابل بيل، وأسس شبه دولة ومنها سميت أرضهم "هيستان" وهذا حسب ما ذكره موسيس خوريناتسي. بينما يرى هيرودوت أنهم من الفريجين الذين استوطنوا تراقيا. وفي القرن الثاني عشر قبل الميلاد قرروا الهجرة والاستقرار في آسيا فعبروا مضيق الدردنيلن واستقروا في بحيرة فان، ثم إلى جبال وقبلهم الأرارات. استقرت العناصر الهندو-أوروبية في المنطقة في حدود الألف الأولى ق.م، وتمركزت عدة شعوب منهم السوباريون وبعدهم الخارميدانيون فالموزك، وهذه الشعوب بدأت تعيش في أيامها الأخير ثورات القلاقل، وكان ذلك مصاحبًا للهجرات الهندو-أوروبية، حيث استقرت قبيلة اسمها أوراردو في حوالي 1200 ق.م واندمجت مع السكان الأصليين، وأسس أحد أبنائه سنة 860 ق.م مملكة أوراردو أو أورارتو وهو أرامه.

منشأ بلاد آشور 

تقع بلاد آشور شمال بلاد الرافدين، حيث تتمركز في أعالي نهر دجلة. ويتكون الشعب الآشوري من خليط السوباريين والآراميين، ويعدون  الآشوريين من الشعوب المقاتلة التي تهوى الحروب. وقد نشأت دولتهم في الألف الثالثة ق.م، وبدأوا في التوسع في الألف الثانية ق.م نينوى وكالح نمرود وخورسباد من أهم مدنهم.

أسست أشور أول إمبراطورية في القرن الثامن عشر ق.م من طرف شمشي أدد الأول(1 Adad-Shamshi)، إلا أن حمورابي أسقطها سنة 1760 ق.م، وتمكن شلمنصر الأول من إعادة تشكيل الإمبراطورية الأشورية وتوسعت أكثر لتضم الميتانيين. وبعد هذا التاريخ، استطاع الآشوريون الوقوف في وجه البابليين وأخضعوا الشعوب الآرامية التي تهدد امبراطوريتهم من الغرب.

ويعدّ حكم آشور-بانبال (Banpal-Assur) للإمبراطورية الأشورية (669-627 ق.م)، فشهدت بلاد آشور تطورات في عدة جوانب منها: الجانب الاقتصادي والعسكري والثقافي؛ إذ تعد مكتبة هذا الإمبراطور من أعظم المكتبات في تاريخ هذه الإمبراطورية.

ثروات أرمنستان 

أرمنستان منطقة تشغل السهول مساحة كبيرة، إذ تتنوع التربة الموجودة فيها. وبذلك، تتنوع المزروعات، وفي جوف هذه التربة تتعدد المعادن والثروات الباطنية، هذا ما جعل بلاد الأرمن غنية. ومن ذلك  تنشيط التجارة مع دول الجوار.

تزرع الحبوب والبقوليات في السهل المقابل لجبال الأرارات، بينما نجد زراعة الكروم والحمضيات في السهول المقابلة لنهر أراكس والأراضي المجاورة لبحيرة فان، وتكثر الفواكه البرية في هذه المنطقة إذ نجد التوت والكرز وغيرها، وتحتوي المناطق الدافئة في نهر أراكس. وتوجد بأرمينيا نباتات جبلية تستغل في مجال التطبيب وخاصة في جبال أرارات وجبال نمرود داغ. تشكل الغابات حيزًا كبيرًا في أرمنستان، والتي تحتوي على أشجار متنوعة منها أشجار البلوط والشوح والحور والصنوبر. ولهذا، فالمنطقة تصنع الأخشاب ذات الجودة العالية.

تحوي بلاد الأرمن على العديد من الحيوانات، ومنها نجد الأبقار والجاموس والخيول، والغنم والمعز والخنازير إضافة إلى الدواجن، وتوجد بأرمينيا أيضًا حشرة القرمز التي يستخرج منها اللون الأحمر للدباغة، وتوجد هذه الحشرة بكثرة في منطقة أرداشاد في سفوح جبال، ويوجد أيضًا أسماك كثرة خاصة في بحيرة فان والتي تشتهر بسمك السلمون والذي الأرارات يعرف عند العرب بالطرنج.

بمأن أرمينيا أرض بركانية، فهي غنية بالخامات؛ فنجد الحديد والذهب والفضة والنحاس، ومن ذلك أيضًا ما نجده من تطور الصناعة البرونز. كما يعدّ التعدين من أهم الصناعات العسكرية التي تتميز بجودة عالية، فقد وجد الباحثون آثار لوسائل الحربية والتي تعود للقرن التاسع قبل الميلاد، منها: السكاكين والخناجر والسيوف ورؤوس الأسهم ومدافع الساعد ودروع البطن والدروع والخوذات.

اشتهرت في بلاد الأرمن الصناعات النسيجية وأهمها البساط الذي يعدّ صناعة رائجة في هذه المنطقة، والتي تتميز بأشكالها المعبرة عن ثقافة هذه الشعوب، كما يعدّ الصوف المستخدم في صناعة هذا البساط من أجود أنواع الصوف العلاقة التجارية بين بلاد الأرمن وبلاد آشور.

العلاقة التجارية بين بلاد الأرمن وبلاد آشور

تعدّ علاقة بلاد آشور مع الشعوب القاطنة في أرض أرمنية قديمة بحكم الجوار الاستراتيجي، والدارس لتاريخ آشور وأرمينيا يلاحظ وجود صراعات مسلحة جمعت البلدين، وكان الصراع محتدمًا بينهما نذكر منها: الصراع في عهد الملكين شلمنصر الثاني (Salmanazar2) (858 – 824) الآشوري و أراموا (Aramu) (860-844)، وهناك حملة شرسة قادها ثيغلت-فلاسر (phalasar3-Tiglat) الأرميني (النائيري/Naïri) (745-726) الآشوري على سابور الثاني (Sarduri2) (753-733) النائيري، كون كلا البلدين سعى نحو الهيمنة على مناطق النفوذ في تلك الفترة، خاصة ما بين الأرميني. 

ورغم وجود صراعات عسكرية الألف الثانية والألف الأولى ق.م أي قبل التاريخ المذكور آنفا بين البلدين سواء أكان ذلك في الفترة الواقعة ما قبل عهد أورارتو أو في عهد أورارتو أو في عهد نائيري، إلا أن الجانب الحضاري كان له نصيب من هذه العلاقات، فجمعت التجارة شعوب هذين البلدين. 

وقد اشتهرت بلاد الأرمن منذ القدم بالتجارة، إذ عثر بعض المؤرخين ومن خلال التنقيبات الأثرية على آثار لجماجم مطابقة للشعوب التي استوطنت بلاد الأرمن في جنوب بلاد الرافدين تعود للفترة السومرية. وبعد التحقيقات والأبحاث اكتشفوا بأن الطبقة الأرستقراطية في مدن سومرية كانوا من الأرمن، وبأن الأرمن استحوذوا على تجارة بلاد سومر. إذن، لا عجب في وجود علاقات تجارية بين شعوب بلاد الأرمن وآشور، كون الجوار الاستراتيجي أدى إلى وجود احتكاكات بين هذه البلدين، بخاصة  في فترة استقرار الشعوب الهندو-أوروبية في المنطقة أي فترة استقرار أورارتو وما بعدها فترة حكم أسرة نائيري.

إن فقر بلاد آشور بالمواد الأولية المساعدة في قيام نشاطاتها الصناعية والعمرانية مثل: الأخشاب (خاصة في الجانب العمراني)، والفضة والنحاس (في المعاملات الاقتصادية) والحديد، هذا ما حتم عليها البحث عن مناطق تستورد منها هذه الذي بات مادة أساسية لصناعة الأسلحة والمواد اللازمة للحماية. ومن الطبيعي كأي دولة من الدول ترغب بلاد آشور في أنها تستورده من المناطق القريبة، والمنطقة الأقرب لها وهي بلاد الأرمن التي كانت تتوفر على الحديد والنحاس والفضة إضافة إلى الأخشاب، هذا ما دفعهم إلى اقتناء احتياجاتهم من بلاد الأرمن.

تعد بلاد الأرمن منطقة عبور تجارية إذ إن مدينتي نخجوان (Naxçivan) وتفليس (Tbilis) والمدينة العريقة التي يعود تاريخها للقرن التاسع، مدينة إيروان أو يرفان (Erevan) من أهم مناطق عبور القوافل التجارية نحو الشرق وخاصة دول الجنوب -نقصد بذلك بلاد آشور- إذ كانت مدينة نينوى الآشورية تزدهر فيها التجارة وتتوفر فيها السلع القادمة من أرمنستان، فكان التجار يسلكون الطريق المحاذي لنهر دجلة من قلعة وان إلى غاية الجنوب أي مدينة نينوى الآشورية. ومن السلع التي كانت تباع في أسواق نينوى نجد المنسوجات (البساط والألبسة)، إضافة إلى الصناعات النحاسية وكذلك بعض المواد الغذائية من الفواكه الأرمينية الأكثر رواجًا في بلاد آشور.

أثرت التجارة الأرمينية على بلاد آشور والشرق الأدنى، فساهم اندماج التجار الأرمن مع الشعب الآشوري خصوصًا والشرق الأدنى عمومًا في انتشار اللغة الأرمينية.

ختاما لما سبق، نستنتج أن للأرمن والآشوريين علاقات صراع وحروب نتيجة جوارهم ورغبة كل طرف في تثبيت مواقفه السياسية على مناطق استراتيجية في الشرق أو الغرب؛ فمجيء الشعوب الهندو-أوروبية المتمثلة في أورارتو إلى جبال الأرارات شمال بلاد آشور، شكل خطرًا على هذه الأخيرة، وإن بلاد آشور معروف عنها القوة والشدة. هذا ما استدعاهم إلى منع هذه الشعوب بكل ما أوتوا من قوة، إلا أن هذا لم يمنع من وجود صلات حضارية؛ فالتجارة التي قامت نتيجة ضرورة حتمية، لتوفر مواد في أرمنستان تفتقر لها بلاد آشور، وسعي أرمينية نحو تصدير سلعها خارج حدودها، هذا ما دفع إلى وجود احتكاك بين البلدين امتد إلى غاية التلاقح الثقافي وانتشار اللغة الأرمينية، ليس في بلاد آشور فحسب وإنما في كل المناطق التي انتشر فيها التجار الأرمن. تعدّ هذه العلاقة بين الأرمن وبلاد آشور، حلقة ضمن مجموع الصلات الحضارية التي كانت بين الشعوب الهندو-أوروبية والشرق الأدنى التي كانت كبداية لدخول الشرق الأدنى في حقبة جديدة ساهم في غنى المنطقة بمعادن جديدة كالحديد إضافة إلى تعلم تدجين الخيل.