إن القيم الفاضلة والسجايا الحميدة من عظم المحاسن التي يمكن أن تتحلى بها المجتمعات، وإن الأخلاق الحسنة هو أعظم ما تعتز به الأمم وتمتاز عن غيرها، والأخلاق تعكس ثقافة الأمة ورقيها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها وتلفت الأنظار لها ويتحير أعداؤها فيها فلا يسعهم إلا الاعتراف بها ولها، وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم فلا يرون بها بأسا ولا يرفعون لها رأسا، وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق العالية والقيم السامية .

أما إذا شاع وذاع في مجتمع ما القيم النبيلة من الصدق والأمانة والعدل والنصح والمحبة والأمن بين الناس وحفظت الحقوق وقويت أواصر الإخاء صار المجتمع كالجسد الواحد مصداقا لقوله قال رسول الله ﷺ "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى." أما إذا شاعت مساوئ الأخلاق من الكذب والخيانة والظلم والغش فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق وانتشرت الرذيلة والقطيعة بين أفراد المجتمع وضعفت الشريعة في نفوس أهلها وانقلبت الموازين. ومن تأمل الأمرين رأى أن الثاني هو الغالب وذلك لعجز العديد من المجتمعات على ترسيخ قيم السامية في نفوس الناشئة وهذا راجع إلى مجموعة من الأسباب أبرزها: 

 بعد الناس عن الدين

نعم إن ابتعادنا عن الإسلام وضعف الإيمان والوازع الديني، هو سبب لما نراه من تدني القيم. فالنفس الخاوية من الإيمان الذي به تخشى الله ولا رسوله، ولا تبالى بارتكاب المنهيات، ولا تخشى العقاب الرباني، ولا تشعر بالضيق أو بالهم والحزن الذى يشعر به المؤمن في حال التخلي ‘من مبادئه وقيمه، بل يزين له الشيطان سوء عمله، ويسمى الأسماء بغير مسمياتها، وكذلك اتباع الهوى وانتشار الأخلاق الفاسدة، مثل الكذب، والنفاق، والرياء، والغلظة، وسوء الظن، وعدم الوفاء بالعهود، والعقود، وخيانة الأمانة والرشوة والمحسوبية والاحتيال. ومن عرف هذا فقد أدرك كبد الحقيقة، ووضع يده على الدواء الذى لا يُعرف إلا إذا عُرف الداء. ويؤكد هذا الأمر من خلال الحتمية الشرعية، والحتمية التاريخية.

           1.الحتمية الشرعية:

حيث تبين هذه الحتمية الشرعية أن سبب تدهور الأخلاق وتعرض المجتمعات لأزمات القيم المتتالية هو بعد الناس عن الدين والأدلة على ذلك كثيرة نورد منها قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). حيث يبين سبحانه وتعالى أن ظهور الفساد الذي هو ضد الصلاح المشتمل على القيم بشكل عام وشامل، متخذاً شكل الظاهرة التي تكون مكشوفة لكل ذي عقل وبصر وبصيرة، وسبب ذلك الرئيسي والأساسي هو البعد عن الدين وبما اقترفته أيدي الناس من المعاصي، والمعنى هنا عام وشامل فكلمة الفساد المذكورة في الآية والتي جاءت معرّفة تشمل كل أنواع وأشكال ودرجات الفساد.    

             2.الحتمية التاريخية:

ومن تأمل التاريخ تأكد له جليا أن أمة الإسلام لم تحقق رقيها وعلوها إلا بتمسكها بتعليم دينها عبادة ومعاملة وسلوكا، وأن شمسها الساطعة غابت عندما تركت وابتعدت وفرطت في الإسلام عبادة ومعاملة وسلوكا، وأنها لن يعود لها مجدها و قيمها وأخلاقها التي بهرت العالم قاطبة ماضيا وحاضرا، ولن يرجع رقيها وريادتها وسيادتها إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام إذ به ستشرق شمس الأمة من جديد. 

غياب دور المسجد

باعتبار المسجد النواة الأولى في المجتمع الإسلامي، وباعتباره أيضا المؤسسة الأولى التي لها دورها الكبير في غرس أساسيات القيم والمفاهيم التي يسعى الإسلام لتعليمها للناشئة وخصوصا الشباب. إلا أن مفهوم تعرض لتضيق شيئا فشيئا فأصبح ينحصر في المكان المعد للعبادات المحضة فقط كالصلاة وقراءة القرآن والدعاء، في حين أن دوره أكبر من ذلك، ومن عاد لسيرة سيد الأخيار صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، تبين له دور المسجد في الإسلام. 

غياب دور الأسرة

سوء التربية الأسرية للأبناء والمقصود بالتربية هنا التربية الاسلامية التي تنبع من ديننا الحنيف الوسطي. إلا أن العديد من الأسر ابتعدت كثيرا عن مبادئ الإسلام وتعاليمه السمحة لعدة أسباب أهمها تعلق بعض الأسر بالثقافات الدخيلة على المجتمعات الإسلامية. لأن الأبناء مثل البراعم الصغيرة يلزمها الهداية والعناية منذ نعومة أظفارهم وتطوير مفهوم القيم الإسلامية بما يتناسب مع أعمار، فمثلا كالحض والتشجيع على احترام الجيران ومساعدتهم وخدمتهم إذا لزم الأمر. وتعويد الأبناء أيضا على قول الصدق منذ الصغر وإفهامهم أن الصدق سمة من سمات الإنسان الصالح والمصلح المهذب والخلوق وإنماء هذه الصفة الطيبة في عقولهم. وليكن الأبوان هما الملهمان للأبناء في قول الحقيقة والصدق حتى ولو كان على أنفسهم.

غياب دور المجتمع

 بحيث انتشرت الماديات بين الناس، وأصبحت هي المعول عليها ابتداء وانتهاء، وضعف السلوك الإيجابي والسَوي بين أفراد المجتمع، وتفككت عرى التكافل والتضامن الاجتماعي، وانتشار الأنانية والحقد والكراهية. كما ظهرت الجهل ونقص المعرفة بالحقوق والواجبات والدور الديني لكل مسلم والدور الوطني لكل مواطن .

غياب دور المدرسة

إن تنشئة الأجيال ليس عبأ فقط على الأسرة، بل أيضا على المناهج التعليمية التي يجب أن تزرع الأخلاق العالية والقيم الاسلامية في الأبناء . إن التنشئة الأخلاقية السليمة ليست منوطة بمدرس التربية الإسلامية، بل يجب أن يلاحظ جميع المدرسين سلوكيات الطلبة في كل زاوية من المدرسة ليكافئ الطالب حسن الأخلاق ويعاقب سيء الأخلاق. أما ترك الحبل على الغارب وغض الطرف عن السلوك المشين يزيد من الفشل الدراسي والأخلاقي والتربوي للناشئة الذين هم عماد أوطانهم في المستقبل. 

غياب القدوة الحسنة

 غياب القدوة الحسنة داخل الأسرة . يجب على الأبوين أن يكونا مثالا للقدوة الحسنة وحث الأبناء الأكبر سنا على أن يكونوا قدوة لمن هم أصغر سنا داخل الأسرة الواحدة. الصغار من الأطفال يميلون إلى تقليد أحد الوالدين أو الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى ، فإن لم يكن الآباء والأمهات قدوة حسنة أحدهما أو كليهما فسوء الأخلاق يثبت في عقول وسلوكيات الأبناء .

المواكبة السلبية للتطورات

التطور التكنولوجي الهائل الذي خلق للشباب والشابات متاهات كثيرة وعندما يتعمقون فيها يزدادون ضياعا وخسرانا مبينا. الشبكة العنكبوتية (الأنترنت) عالم مليء بالمغريات والمتاهات التي حتى تُفسد البالغين. ومن أخطر مظاهر التطور التكنولوجي المحطات الفضائية التي لا تحترم دين ولا أعراف وتُفسد من يشاهدها ويداوم على مشاهدتها. 

وختاما، إن أزمة القيم باتت وبشكل ظاهر مكشوفة لكل ذي عقل وبصر وبصيرة، وما نحتاجه اليوم هو البحث وبشكل دقيق عن حلول ووصفات لائقة لأجل زرع أو إحياء قيم تتماشى وطبيعة المجتمع الذي نتواجد به، ورد الاعتبار للأدوار الفيصلية والأساسية التي تقوم بها الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي ليس فقط المحلي وإنما العالمي على حد سواء، لأننا أصبحنا نتحدث اليوم عن قيم كونية نظرا لما وصل إليه العالم من تقدم جعل العالم قرية صغيرة، إذ ساهمت التكنولوجيا، ومواقع التواصل الاجتماعية، في التواصل بين الحضارات والثقافات، بسهولة تامة مما سهل تقاسم وتبادل المعلومات والأفكار والتي ساهمت في تغيير النظام القيمي في المجتمع والتخلي عن بعض القيم التي كانت تميز بعض المجتمعات في وقت من الأوقات.