كتبها: توبياس أدريان وفابيو ناتالوتشي

خلقت جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) أزمة إنسانية وصحية غير مسبوقة. فقد أدت الإجراءات الضرورية لاحتواء الفيروس إلى إحداث هبوط اقتصادي. وهناك درجة كبيرة من عدم اليقين في الوقت الراهن حول مدى حدتها وطول مدتها. ويوضح آخر عدد من تقرير الاستقرار المالي العالمي أن النظام المالي وقع عليه تأثير حاد بالفعل، ويمكن أن يؤدي احتدام الأزمة إلى التأثير على الاستقرار المالي العالمي.

قد حدث هبوط حاد في أسعار الأصول الخطرة منذ تفشي هذه الجائحة. وفي أسوأ نقطة من موجة البيع الأخيرة، عانت الأصول الخطرة من انخفاضات تعادل أو تزيد على نصف الانخفاضات التي حدثت في 2008 و 2009. فعلى سبيل المثال، تحمل الكثير من أسواق الأسهم – في الاقتصادات الكبيرة والصغيرة على السواء - انخفاضات بنسبة 30% أو أكثر في فترة القاع. وحدثت قفزة في فروق العائد، وخاصة بالنسبة للشركات ذات المراتب الأدنى. كذلك ظهرت علامات الضغط في كبريات أسواق التمويل قصير الأجل، بما في ذلك السوق العالمية للدولار الأمريكي.

توتر الأسواق

وارتفع التقلب بدرجة حادة، فوصل في بعض الحالات إلى مستويات لم نشهدها منذ الأزمة المالية العالمية، في سياق عدم اليقين بشأن التأثير الاقتصادي للجائحة. ومع ارتفاع التقلب الحاد، حدث تراجع كبير في سيولة الأسواق، بما في ذلك في الأسواق التي يُنظَر إليها تقليديا كأسواق عميقة، مثل سوق سندات الخزانة الأمريكية، مما ساهم في حدوث تحركات مفاجئة في أسعار الأصول.

و للحفاظ على استقرار النظام المالي العالمي ودعم الاقتصاد العالمي، كانت البنوك المركزية في مختلف بلدان العالم هي أول خط للدفاع. أولا، قامت هذه البنوك بتيسير السياسة النقدية إلى حد كبير عن طريق تخفيض أسعار الفائدة الأساسية – وهو ما وصل بها إلى مستويات منخفضة تاريخية في حالة الاقتصادات المتقدمة. كذلك قام نصف البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة والبلدان الأقل دخلا بتخفيض أسعار الفائدة الأساسية. وستتعزز آثار تخفيضات أسعار الفائدة من خلال إرشادات البنوك المركزية حول المسار المستقبلي للسياسة النقدية والبرامج الموسعة لشراء الأصول.

ثانيا، قدمت البنوك المركزية سيولة إضافية للنظام المالي، بما في ذلك عن طريق عمليات السوق المفتوحة.  

ثالثا، اتفق عدد من البنوك المركزية على زيادة تقديم السيولة الدولارية عن طريق ترتيبات خطوط تبادل العملات.

وأخيرا، أعادت البنوك المركزية تفعيل البرامج التي استُخدِمت أثناء الأزمة المالية العالمية كما أطلقت مجموعة من البرامج الجديدة واسعة النطاق، بما في ذلك شراء الأصول الأخطر كسندات الشركات. ومن خلال تدخل البنوك المركزية في هذه الأسواق باعتبارها "مشتري الملاذ الأخير" ومساعدتها على احتواء الضغوط الرافعة لتكلفة الائتمان، تضمن هذه البنوك استمرار إتاحة الائتمان بسعر معقول لقطاعَي الأسر والشركات.

وحتى الآن، أعلنت البنوك المركزية خططا للتوسع في توفير السيولة – بما في ذلك عن طريق القروض ومشتريات الأصول – بواقع 6 تريليون دولار على الأقل وأشارت إلى استعدادها لاتخاذ مزيد من الإجراءات إذا اقتضت الظروف ذلك.

ونتيجة لكل هذه الإجراءات الرامية إلى احتواء تداعيات الجائحة، استقر مزاج المستثمرين في الأسابيع الأخيرة. وانحسرت التوترات إلى حد ما في بعض الأسواق، وتعافت أسعار الأصول الخطرة جزئيا من انخفاضاتها السابقة. غير أن المزاج السائد لا يزال هشا، وتظل الأوضاع المالية العالمية أكثر تشددا بكثير مقارنة بما كانت عليه في بداية العام.

وفي المُجْمَل، حدث تحول هائل نحو اليسار في توزيع النمو العالمي لعام قادم، بسبب التشديد الحاد للأوضاع المالية العالمية منذ تفشي فيروس كوفيد-19 – إلى جانب التدهور الحاد في آفاق الاقتصاد. ويشير هذا إلى زيادة كبيرة في مخاطر التطورات السلبية التي تواجه النمو والاستقرار المالي. فهناك احتمال بنسبة 5% حاليا (حَدَث يقع مرة كل 20 سنة) أن ينخفض النمو العالمي إلى أقل من -7,4%. ولإتاحة المقارنة، نشير إلى أن هذا المستوى الحدي كان أكثر من 2,6% في أكتوبر 2019.

وكما يحدث كثيرا في أوقات العسر المالي، تتحمل الأسواق الصاعدة العبء الأكبر. والواقع أن الأسواق الصاعدة مرت بموجة الخروج الأكبر على الإطلاق لتدفقات الحافظة – حوالي 100 مليار دولار أو 0,4% من إجمالي ناتجها المحلي- مما يشكل تحديات جسيمة أمام البلدان الأضعف.

وقد يتطلب انتشار فيروس كوفيد-19 عالميا فرض إجراءات لاحتوائه أشد وأطول أمدا – إجراءات قد تقود إلى مزيد من التشديد للأوضاع المالية العالمية إذا أدت إلى هبوط أشد وأطول أمدا. وقد يؤدي هذا التشديد بدوره إلى الكشف عن مواطن الضعف المالية التي تراكمت في السنوات الأخيرة في بيئة من أسعار الفائدة شديدة الانخفاض. ومن شأن هذا أن يفاقم صدمة كوفيد-19. فعلى سبيل المثال، قد يضطر مديرو الأصول الذين يواجهون تدفقات خارجة كبيرة من صناديقهم الاستثمارية إلى اللجوء للبيع في ظل تراجع الأسواق – مما يكثف تحركات الأسعار نحو الانخفاض. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المستثمرين بأموال مقترضة قد يواجهون مزيدا من الطلبات لسداد حساب الهامش ويضطرون إلى بيع محافظهم الاستثمارية؛ وقد يؤدي تقليص الرفع المالي على هذا النحو إلى تكثيف ضغوط البيع.

ومع وصول الشركات لمرحلة العسر المالي وتصاعد معدلات التوقف عن السداد، قد تتوقف أسواق الائتمان بشكل مفاجئ، وخاصة في القطاعات الخطرة كأسواق السندات عالية العائد، وقروض الرفع المالي، وسندات الدين الخاص. وقد حدث توسع سريع في هذه الأسواق منذ الأزمة المالية العالمية، حتى بلغت 9 تريليونات دولار على مستوى العالم، بينما ضعفت الجودة الائتمانية للمقترضين، ومعايير الإقراض، وأوجه الحماية للمستثمرين. ومنذ أوائل مارس، سجلت فروق العائد على سندات العائد المرتفع زيادة حادة رغم انخفاضاتها مؤخرا، وخاصة في القطاعات الأكثر تضررا من الجائحة مثل السفر الجوي والطاقة. وبالمثل، حدث هبوط حاد في أسعار قروض الرفع المالي – حيث بلغت حوالي نصف الهبوط المشاهد أثناء الأزمة المالية العالمية في نقطة ما. ونتيجة لذلك، رفعت هيئات التصنيف الائتماني تنبؤاتها لعدم السداد بالنسبة للديون المصنفة في درجة المضاربة لتصل إلى مستويات فترات الركود، كما حدث ارتفاع حاد في حالات عدم السداد المشار إليها ضمناً من جانب السوق.

وتمتلك البنوك رؤوس أموال وسيولة أكثر من ذي قبل، وأصبحت تخضع في السنوات الأخيرة لاختبارات تقيس تحملها للضغوط ودرجة أكبر من الفحص الرقابي، مما جعلها في وضع أفضل مقارنة بكانت عليه في بداية الأزمة المالية العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإجراءات الكبيرة المنسقة من جانب البنوك المركزية لتوفير السيولة للبنوك في كثير من الاقتصادات يُتوقع أن تساعد على تخفيف توترات السيولة المحتملة.

ومع ذلك، فقد تُخْتَبَر صلابة البنوك في مواجهة التباطؤ الحاد في النشاط الاقتصادي الذي قد يتضح أنه أشد وأطول من المتوقع حاليا.

والواقع أن الانخفاضات الكبيرة في أسعار حصص ملكية البنوك منذ منتصف يناير تشير إلى قلق المستثمرين بشأن ربحية القطاع المصرفي والآفاق المتوقعة له. فعلى سبيل المثال، أصبحت مقاييس رسملة البنوك القائمة على أسعار السوق أسوأ مما كانت عليه في كثير من البلدان أثناء الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وما يثير القلق هو أن البنوك وغيرها من جهات الوساطة المالية قد تصبح عاملا مضخِّما للآثار إذا زاد عمق الأزمة.

نظرة إلى القادم

سيظل للبنوك المركزية دور حاسم في حماية استقرار الأسواق المالية العالمية والحفاظ على تدفق الائتمان إلى الاقتصاد. لكن هذه الأزمة ليست مجرد أزمة سيولة، إنما تتعلق في الأساس بالملاءة – في وقت أصبحت فيه قطاعات كبيرة من الاقتصاد العالمي في حالة توقف تام. ونتيجة لذلك، فإن لسياسة المالية العامة دورا حيويا تؤديه.

وينبغي أن تعمل السياسة النقدية وسياسة المالية العامة وسياسة القطاع المالي معا على تخفيف أثر صدمة كوفيد-19 وضمان تعافٍ مطرد ومستدام بمجرد أن تصبح الجائحة تحت السيطرة. وسيكون التنسيق الدولي المستمر ضروريا لدعم البلدان المعرضة للخطر، واستعادة ثقة السوق، واحتواء المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي. والصندوق على استعداد لتسخير كل موارده – أولا لحماية اقتصادات العالم الأكثر عرضة للتأثر بالأزمة، ثم تعزيز التعافي النهائي على المدى الطويل.

*****

توبياس أدريان يشغل منصب المستشار المالي ورئيس إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي. وبهذه الصفة، يتولى قيادة عمل الصندوق المعني بالرقابة على القطاع المالي والسياسات النقدية والاحترازية الكلية والتنظيم المالي وإدارة الدين والأسواق الرأسمالية. وبالإضافة إلى ذلك، يشرف السيد أدريان على أنشطة بناء القدرات في البلدان الأعضاء بالصندوق. وقبل انضمامه إلى الصندوق، كان نائبا أقدم لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك والمدير المشارك لمجموعة البحوث والإحصاء.

وقد قام السيد أدريان بالتدريس في جامعتي برينستون ونيويورك ونُشِرت له أعمال عديدة في الدوريات المتخصصة في الاقتصاد والعلوم المالية، بما في ذلك American Economic Review وJournal of Finance وJournal of Financial Economics و Review of Financial Studies. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ودرجة الماجستير من كلية لندن لعلوم الاقتصاد، ودبلوم من جامعة غوته في فرانكفورت، ودرجة الماجستير من جامعة دوفين في باريس. وقد تلقى دراسته الثانوية في الآداب والرياضيات في مدرسة Humboldtschule Bad Homburg.

فابيو ناتالوتشي يعمل نائبا لمدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية، وهو مسؤول عن "تقرير الاستقرار المالي العالمي" الذي يتضمن تقييم الصندوق للمخاطر التي يتعرض لها الاستقرار المالي العالمي. وقبل انضمامه إلى الصندوق، كان مديرا مشاركا أقدم في قسم الشؤون النقدية بمجلس الاحتياطي الفيدرالي. وبين أكتوبر 2016 ويونيو 2017، كان نائبا لمساعد الوزير لشؤون الاستقرار والتنظيم الماليين الدوليين، في وزارة الخزانة الأمريكية. والسيد ناتالوتشي حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة نيويورك.