"عندما بدأت أخبر الناس لأول مرة عن هذا النموذج من القيادة (المستوى الخامس)، كان هنالك عديد من الرافضين الذين اعتبروه مجموعة من "زغب" (شيء تافه) لكنهم الآن مؤمنون به". ستيفن كوفي

نضع بين يدي القارئ تجربة من تجارب الشعوب الغربية وبالتحديد الشعب الأمريكي، وكيف استطاع ذلك الشعب بناء مجتمع داخلي قوي أساسه الأفراد (الإنسان)، وما يحمل كل فرد من قدرات وطاقات والاستفادة منها وتوظيفها في عملية بناء ذلك المجتمع الذي نراه الآن على اختلاف أعراقهم وأجناسهم ودياناتهم. 

بدأت الخطوة الأولى في بناء ذلك المجتمع بمبادرة فردية من المحاضر الأمريكي العالمي المختص بعلم القيادة وتطوير الذات "ستيفن كوفي"، تلخصت تلك المبادرة في فكرة جديدة عن القيادة الفعالة؛ بأنها خيار وليست مرتبطة أو متعلقة بتأثير قوة المنصب على الأفراد، ولخصها بأنّ القيادة الفعالة هي التي تضم أفرادا قادرين على التأثير الإيجابي على الآخرين من خلال امتلاكهم صفتين رئيسيتين؛ أولهما التخصصية في مجال والاحتراف فيه حيث شغف الإنسان وبصمته المميزة، وثانيهما الخلق المتمثل في إفساح المجال للآخرين بإبداء آرائهم، وإنجاز ما يُؤْمِن به ذاك القائد الفعّال من دون التقليل من آراء الآخرين. وبالفعل نجحت مبادرته وفكرته، وتمخض عن ذلك النجاح، بنشر الفكرة على الولايات الأمريكية، وحتى كثير من الدول الغربية استفادت من تلك التجربة ونقلتها لدولهم عن طريق تأسيس صاحب الفكرة ستيفن لمدرسة داخلية أسماها (القائد الذي بداخلي)، واعتمد كتاب العادات السبع للناس الأكثر فاعلية كمرجع لهم عند صناعة القرار داخل تلك المدارس، الكتاب الذي يعتبر أحد أكثر الكتب مبيعا على مستوى العالم، حيث يرشدك بخطوات عملية كيفية الاحتراف والتخصص في مجال ما لتصبح نموذجا يحتذى به (قدوة مؤثرة بالآخرين)، فهو يركز على المهارات الحياتية التي يحتاجها الفرد للنجاح ومواجهة تحديات القرن ٢١.

وكفرد من أفراد هذه الأمة، أطالع ما يجري من أحداث وتداعيات في منطقتنا وخاصة التي جرت وما زالت للمسجد الأقصى، وربطه بتجربة الأمريكان في صناعة مجتمعهم الداخلي القوي المبني على فكرة أنّ القيادة خيار وليست منصبا، وكيف أنّ المقدسيين عندما قرروا نصرة المسجد الأقصى أخذوا موقع القيادة من دون مناصب، بل لوحظ أنّ أصحاب المناصب وقفوا عاجزين متفرجين لما سيجري كأنهم مجردون من السلطة (القوة)، واستلم زمام الأمر أفراد وجماعات لا يتقلدون مناصب حكومية أو رؤساء قيادات جيوش، واختاروا النصرة فنصروه وصنعوا الفعل. ولأنّ الخالق سبحانه مطلع على جميع الأمم وأحوالهم، أكاد أن أجزم  أنّ تلك الحادثة كانت رسالة للجميع من الخالق لكي نتعض ونعمل مع بعض سويا من أجل إرجاع حق الأمة المغتصب من ١٠٠ عام.

"لقد تعلم جميع الطلاب والموظفون العادات 7 للناس الأكثر فاعلية، ومبادئ القيادة نفسها التي تم تدريب كبار القادة عليها في جميع أنحاء العالم على مدى سنوات، ولاحظوا أنّ جميع الطلاب قد تم تعيينهم لأدوار قيادية، وأنّ عديدا من القرارات تم اتخاذها من قبل الطلاب، وليس المعلمين. وكانوا يرون الطلاب يضعون أهدافًا أكاديمية وشخصية ويتتبعون التقدم في دفاتر الملاحظات الشخصية". ستيفن كوفي

أثبتت كثير من الأبحاث العلمية المتعلقة بعلم القيادة، بأنّ القائد الفعّال المؤثر على الآخرين والذي يسهم في صناعة الفعل مدرك لمباديء القيادة، والتي يتم اكتسابها من خلال الخبرات والاحتكاك مع الآخرين، وأنه لا توجد هنالك علاقة وارتباط في الجينات الوراثية لذاك العلم، وركزت كثير من الدراسات على أنّ كل ما تحتاج؛ هو أن تختار بأن تكون قائدا وتتعلم المباديء والأدوار المنوطة بالقيادة، والأهم تطبيقها يوميا وليس بقاؤها نظريا، عندها بالفعل تصبح قائدا مؤثرا وتصنع الفعل حتى لو لم تمسك منصبا، تذكر دائما أنّ القيادة خيار وليست منصبا.

وتركز البحوث على أهمية إشراك الأبناء في العملية التربوية لما سينعكس ذلك إيجابا على بناء شخصيتهم وثقتهم بأنفسهم، وللأسف الشديد فإنّ هذه النقطة المهمة في عملية بناء الأبناء كانت غائبة عن كثير من الآباء في العقود الماضية، حيث أنهم لا يشركون أبناءهم في الأعمال حتى في أبسط الأمور مما أوجد لدينا جيلا ضائعا وتائها، لا يعلم كيف يواجه مصاعب الحياة دون الرجوع إلى أبويه قبل اتخاذ أي قرار حتى لو كان بسيطا، وهذه العملية الهدامة هي ما أوصلتنا إلى رؤية جيل فاقد لصوته في الحياة، وعملية البناء هذه مثلما تنطبق على بناء الأسرة الفعالة فهي أيضا تنطبق على بناء أي مؤسسة تطمح أن تكون رائدة وتنافس المؤسسات الأخرى عالميا، لذلك كي تنتقل المؤسسة من الجيد إلى العظمة يجب إشراك الأفراد في صناعة القرار؛ والذي لا يقتصر فقط على الأفراد التي تدير المؤسسة، ويبقى السؤال الأهم والذي يخطر في بال القاريء، ألا وهو: كيف يمكن تطبيق وتنفيذ هذه العملية التربوية عمليا ؟؟؟

 تثبت الدراسات العلمية أنّ الطريقة الوحيدة لإنجاح هذه العملية هي السماح لجميع الأفراد داخل المؤسسة بإبداء آرائهم بحرية ودون تعصب، كي يستطيع الجميع الحصول على تصور أفضل للموضوع المطروح ومناقشته من جميع نواحيه قبل الفصل النهائي باتخاذ القرار. ومثلما لدينا بصمات مختلفة كذلك لدينا أفكار ووجهات نظر مختلفة ولكنها بكل تأكيد مكملة لبعضها إذا سمح للجميع بإبداء الرأي، وتجدر الإشارة هنا أنّ بعض صناع القرار يلعب دور المستمع الجيد ولكنه في الحقيقة ينفذ ما يراه مناسبا فقط من زاويته ويتجاهل آراء الآخرين، ليس المقصود بالسماع هنا فقط أن تسمع، بل المقصود أن تسمع جميع الآراء لتحللها بعمق كي يتوسع إدراكك ولتصل لقرار أفضل حتى وإن كان القرار مخالفا لما طرحه الأفراد الذين يتقلدون المناصب، هكذا بنيت المؤسسات العظيمة الرائدة والتي نافست عالميا حتى أصبحت نموذجا يحتذى به.

"الشك هو منتقد، وليس نموذجًا. الشكوكية لا تفكر خارج الصندوق إنها تقلص الصندوق، الشكوك تصمّم إستراتيجيات تحسين ضعيفة وخطط الدرس الضعيفة". ستيفن كوفي

الشعب الأمريكي حالهم مثل حال بقية الشعوب، كان هنالك أناس شككت في إمكانية نجاح فكرة النظام التربوي الجديد بالوصول إلى نتائج محققة وأنه سيكون مضيعة للوقت في حال إقراره، هل يعقل أنه إذا طبقت بعض المباديء على الفرد نفسه أن تؤثر بالآخرين، بحيث يصبحون فاعلين مؤثرين في المجتمع (نماذج يقتدى بها)؟ كإنسان معايش لواقعنا الحالي أجد أنه بالفعل لو أمعنت النظر فيما وصلت إليه مجتمعاتنا ستجد أنه يتم التشكيك بأي طرح أو فكر جديد، بل قد يتعدى الأمر إلى الاستخفاف بصاحب الفكرة ونبذه وقلة احترامه. من وجهة نظري إنّ النماذج التي تقود في مجتمعاتنا الآن واضعون أنفسهم داخل أُطر معينة، ولا يريدون الخروج منها أي لا يريدون التفكير خارج الصندوق، وأصبحوا غير مبالين لما يطرحه الآخرون وخاصة الشباب من أفكار والتحاور معهم لصناعة الفعل من خلال إحياء الأمة من جديد عبر صناعة ذلك الجيل الجديد، والمشكلة الأخرى بعد التشكيك يقفون حائرين ينتظرون فعلا ليردوا عليه فقط، والسؤال الموجه لتلك النماذج أنه من يشكك بهذا النظام العالمي في التربية القيادية، عليه أن يطرح ويقدم نظاما بديلا لذلك النظام المجرب نجاحه ولا يكفي أن نرفضه دون تقديم أسباب وحلول عملية.

"أفضل مصدر للإلهام لاتخاذ القرارات والقيادة في التنظيم والأسرة والفرد هو الأمل، الأمل يعلمنا بطرق أفضل لعمل الأشياء، نأمل أن تبقى أنت وعائلتك والموظفون يتقدمون، الأمل يضيء الضوء وراء ظلام التنظيم والأسرة والمآسي الفردية، يرى الأمل المحتملة في الناس جميع الناس". ستيفن كوفي

يذكر لنا أصحاب التجربة بأنهم خاضوها من دون اليقين التام بأنها ستنجح، ولكنهم كانوا يملكون الأمل بالله -عز وجل- خاصة بعد أخذهم بجميع الأسباب قبل صناعة القرار بخوض التجربة، ولأننا أمة كغيرنا من الأمم تتعرض إلى المرض ولكن لا تموت بعون الله وأملنا بالله كبير بأنّ بعد العسر يسرا، وأنّ الحالة الوحيدة لتحريك المياه الراكدة وغثاء السيل هي الإيمان بالله وبقوة عودة أمتنا الوسطية للمنافسة الأممية، لنكون شهداء على الناس وتواصل الأجيال المختلفة مع بعض وإسهام كل فرد بما يتخصص في نهضة الأمة، ولنا عبرة في الصحابة الأوائل الذين ملكوا الأرض بعدما كان معظمهم من العبيد قبل الإسلام، وفِي زمننا الحاضر كغاندي ومارتن اللذين كانا نموذجين حقيقيين وثقت بهما شعوبهما لا لتعنتهما لرأيهما بل لانفتاحهما وحوارهما لأفراد شعوبهما واتخاذ  القرار بعد التحاور مع جميع أصحاب الاختصاص.