المؤسسة هي الصوت الصاخب للقرن الحادي والعشرين، وهي من ضمن ما تميّز به القرن، حيث انتقلت الحركة والتسيير من الفرد إلى الجماعة التي هي المؤسسة التي تُسيِّر شؤونها وفق رؤى واضحة وخطط محكمة، وآراء متباينة متبادلة متقابلة تصب في هدف مشترك محدد منعوت، وبلغة العلم والأرقام والمعطيات الدقيقة والفرضيات المضبوطة المؤدية إلى نتائج شبه معروفة، ومعروفة.

ذروة المؤسسة وروحها "الإدارة" التي تعتبر عتيقة وقد بدأت في الإزدهار والترقي منذ القرن التاسع عشر مع النظريات الإدارية المعاصرة، بدءً من المدرسة الإدارية الكلاسيكية، والبيروقراطية، والإدارة العلمية مع تايلور، ونظرية التقسيم الإداري، والمدرسة الإنسانية، وغيرها من النظريات والمدارس الإدارية وهي في ترقي مطرد إلى يومنا هذا، وعلى ذات الدرب خطى العالم العربي كغيره من بقيّة العوالم، والسؤال المطروح: هل عالمنا العربي الإسلامي في مجال المؤسسات نحى ذات المنحى وسلك ذات المسلك؟ وإن كان كذلك، فلماذا مؤسساتنا غير المؤسسات الغربية في معظم الأمور الإدارية؟ ومن هذين السؤالين سنطرح العديد من الإشكاليات التي تعاني منها المؤسسة العربية، ومن خلال تلك الإشكاليات سيتبين لنا العقل والفقه العربي الإداري.

إشكالية الأنسنة

ذهبتْ مؤسساتنا، أو يُخيّل لها ذلك، على ذات الطُّرق والتدابير التي سلكتها المؤسسة الغربية، لكن أبداً المبدع ليس كالمقلد، وصاحب الصنعة ليس كمن يدفع مُقابلا ليتمكن منها، معظم من يقف على أعتاب مؤسساتنا سيدرك جيداً كم تلاشت فيها أبسط معاني الإنسانية، فأنت بالنسبة لها مجرد رقم أو حرف، أو ورَق، أو ظل يُظلِّلُ صاحب الهيئة أو المصلحة، وفي زيارتك التي يخبرك ويعلمك الجو العام بعدم سرورها ولا الترحيب بها، لذلك سَتسأل مرغمًا عن الأسئلة الإنسانية لطبعك وكونك إنسان، ولست إنسانًا فقط بل أيضا مسلم مما يعني أنك صاحب رسالة إنسانية؛ إذاً أين هي الأسئلة الإنسانية؟!

لماذا لم أسمع كلمة مرحباً أهلا وسهلا؟ تفضل هل نحضر لك شيئاً ريثما نحل وضعك؟ أين الوجه الطّلق؟ أين هي الإبتسامة؟ ألسنا أمّة البسمة؟ ما به صاحب المهنة هل هو إنسان فعلا؟ أم تخلّى عن إنسانيته؟ لم أعد أميز بين إنسان وآلة وأيهما أقرب للأنسنة بحق؟ قد يبدو السؤال غريبا لكنه حقيقي، ومن صميم الواقع ومعظم من زار إداراتنا ذات التشعب التخصصي قد طرحه مرارا وتكرارا، أين هي مكانتي ومعاملتي كإنسان؟ المفروض أن التكنولوجيا ومختلف فنون العصر سهلت ويسرت الأمور، وسهلت الحياة ووفرت الإنتاج ويسرت وجوده، وأزاحت الهموم، أو خففتها على الأقل ليرتاح العامل نوعا ما وبالتالي يمكنه أن يتعامل وفق كينونته وإنسانيته، لكن ما نشاهده وما يبدو عكس ذلك!

وبالتالي يفرض السؤال نفسه: أين هي إنسانية مؤسساتنا من إنسانية المؤسسات الغربية أم أن إدارتنا حدث لها كما حدث للغراب عندما أراد تقليد مشية الطاووس؟

إشكالية التكنولوجيا

 تتقدّم لأي إدارة بهدف استخراج وثيقة، وأول ما تلحظه آلات متنوعة متراصة بعضها جنب بعض، فتَستبشر بأن أمورك ستحل في أسرع وقت ومن دون تكاليف تذكر، لكن سرعان ما يتفضلوا عليك باحضار آلاف الوثائق قد تضطر لجولة سياحية في مدينتك لتجمعها، ساعتها ستعرف أن مؤسساتنا شكل لا عقل ولا فهم ولا معاملة، ولا تقنية، وحتى الشكل لم يكتمل بعد، في زمن قطعت فيه مؤسسات الدول المتقدمة شوطًا متقدمًا في تكنولوجيا الإنسان؛ أي الآلة الخادمة للإنسان على أكمل وجه، لا الآلة المعرقلة للإنسان كما هي الآلة المجلوبة خاصتنا!

المفروض أن الآلة موفرة للجهد وللوقت ومتممة للمهام على أحسن ما يكون، ولكن هذا إلى يومنا هذا لم يحدث في الإدارات العربية ما زال الضغط مطردا مسيطرا على العامل الذي أصبح مجرد آلة، والمواطن مازال يعاني من صعوبة متعلقات الوثائق، والشعور العام أن زمن الورق والقلم ما زال قائم الأركان كما هو! 

لا وجود لأرقام ولا إحصائيات دقيقة تبنى على ضوئها دراسات ترمم حطام الحاضر وتبني مستقبلا متجاوزا لعثراتنا، وأزماتنا. ومنه قد يصبح مطلبك ساخرًا نوعا ما، آلا وهو: أن يا إدارتنا فَّعِّلِّيْ الآلة لا غير، فالأصل أنها وجِدتْ لتسهل حياة بني البشر لا غير!

إشكالية العبد المأمور! 

رغم أن العبودية لا تكون إلا لله، ولا يجب أن يصف كائن نفسه بالعبد إلا لله؛ إلا أننا أصبحنا اليوم كثيرا ما نسمعها خصوصا من عمال الإدارات (المؤسسات)، فهل الكلمة هي الترجمة الحقيقية لمعنى الوظيفة الجديدة؟ وهل إطلاقها لذي معنى حقيقي وواقعي، وهو أن العبودية فعلا لم تختفي يوماً إنما هو تغير أسماء، فاليوم تحت اسم جديد وعمل جديد؟

تأتي من أجل إتمام مهمة إدارية، وبالرغم من جاهزية وثائقك وتمامها غير منقوصة، وغايتك معروفة ومحددة ومشروعة؛ إلا أن العامل يصفعك بالعبارة التالية "أنا عبدٌ مأمورٌ!" لابدَّ من انتظار فلان أو رأي علان أو موافقة عمر، وأنت لا تطلب سوى ما هو قانوني والعامل متأكد من ذلك، بل وما تطلب سوى الموافقة، أو التسريع وهو حقك، لكن مهما كانت ظروفك فذاك لا يعني العامل بقدر ما يعنيه رأي سيد العمل، تناقش وتحاول أن تفهم لا جدوى، فتوقن أنه عبدٌ مأمور فعلا، بيد أنّ أسفَكَ أنه أعترف بذلك، وباح بأن العبودية ما زالت ولم تختفي بعدُ؛ إنما هي بحلّةٍ جديدةٍ ووظيفةٍ مغايرةٍ، والرابط بين الشيئين؛ أي عبد اليوم، والأمس، أن للسكون والحركة سيد يأذن أو لا يأذن، وأنَّ العبدَ سواءً عبد اليوم أو أمسٍ لا تعنيه مجريات ولا تفاصيل الأمور التي يشرف عليها، فعبد الأمس لو قيل له: اسفك الدّم لفعل، وعبد اليوم لو قيل له: احرمه من كذا، أو عقه في كذا لفعل.