إنها الحقيقة التي تَطرُق بابي كل يوم، إنّ الأمر أصعب مما أظن، كيف لكَ أن تسير مسافاتٍ طويلة وعلى ظهرك أعباءٌ ثقيلة؟ كيف لك أن تختار العلقَم بإرادتك الحرة؟ كان سؤالًا جديرًا بالبحث.
إنّ الدنيا تُعاديني، تلفظني وتُعاندنِي، وتقول لي: يا أحمق! لستَ ممن يحتمل هذا الطريق، ولكنني ولدتُ وفي فمي مرارة الغربة، حتى كبرت وواجهتها حقيقةً لا مجازًا، واكتملت غُربَتا الفكرِ والوطن، حتى صار الأمر واضحًا كـشمس يومٍ صيفيٍ حار، إنني أواجه الأمَريّن، وبين الطرقات أتخبط، أسقط، أجري وأتعثر، أقف وأبكي، يا حسرتا.. هذا جسدٌ مهاجرٌ بقلبٍ راقد! 
من أين لي بِوسام "مُهاجر"؟ أعطني الخِتم، أعطني شارة المهاجرين، أو قلادة الهجرة، أو أعطني قـلبًا مهاجرًا، أجوب به الدنيا فلا أنثني، وأعبر به الآلام ولا أكتوي، وأصلُ به إلى دنيا الصحابة المهاجرين لأرتوي.
عندما أعدَتُ راحلتي، وعلمتُ أن الطريق طويلة، قلتُ لعل الله يجعل لي صاحبًا، فوجدت صاحبيَّ في انتظاري.. القرآن والسُنة. 

في الرحلة عانقتُ القرآن وصاحبتني السُنة، يقول لي القرآن: هذا طريقٌ يلزمه الصبر، فاثبت ولا تتزلزل

“وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".

يا أسماء بنت أبي بكر؛ علميني الصبر، عندما هاجر أبوكِ دون أن يترك لكم شيئًا، وتعمَدينَ إلى حجارة تغطينها بثوب لكي يتحسسها جدك أبو قحافة كأنها مال، ليطمئن الشيخ الضرير الذي فقد بصره، يا سيدتي لقد ترك لكِ أبوكِ إيمانًا راسخًا وورثكِ صبرًا يليق بهجرة خالصة لله ورسوله.

يقول لي القرآن: التضحية واجبة في هذه الرحلة، فلا فوز بدون بذل

"الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ".

- وبمَ أضحي؟
- بكل ما لديك إن لَزم، والربح مضمون

"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ".

يا صهيب ابن سنان كيف ربحت البيع؟ عندما أوقفك أهل مكة وأنت مهاجر، قائلين لك: ﺃﺗﻴﺘﻨﺎ صعلوكًا ﻓﻜﺜُﺮ ﻣﺎﻟﻚ ﻋﻨﺪﻧﺎ، وتريد أن تخرج بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك.
فتقول لهم: ﻫﻞ ﺗﺨﻠﻮﻥ ﺳﺒﻴﻠﻲ إﻥ ﺗﺮﻛﺖ ﻟﻜﻢ ﻣﺎﻟﻲ؟، ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﻧﻌﻢ. ﻓتَدلهم ﻋلى ﺍﻟﻤكان ﺍﻟﺬﻱ ﺧﺒّﺄت ﻓﻴﻪ ﻣَﺎﻟَك ﺑﻤﻜّﺔ، فيسمحون لك بالهجرة ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ضحيت بكل ما تملك في سبيل هذا الطريق. وعندما بَلَغَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ".
يا سيدي عليّ بن أبي طالب؛ كيف صمدت في فِراش رسول الله وأنت تعلم أن السيوف تتربص بك، وقد تمزق لحمك وعظمك.. أيُ تضحية هذه!

يا أبا بكر علمني حبَّ الدعوة كما أحببتها أنت، من شدة خوفك على رسول الله، تارة تمشي بين يديه، وتارة تمشي خلفه، فيقول لك رسول الله: مالك يا أبا بكر؟ فتقول: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون ورائك، وتقول له: يا رسول الله إن أُقتل فأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قُتِلتَ أنت هلكت هذه الأمة.

يا سيدي يا رسول الله، علِمني صبرك على فراق مكة، وهي أحب البلاد إليك، وترى القلق في عين صاحبك أبي بكر فتطمئِنه وتذَكِرَه بوكيلكم ومالك أمركم

"إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

إنَّ رحلتي لا تزخر إلا بكم، ولا أتخفف من آلامي إلا معكم، يا أيها المهاجرون عانيتم آلام الغربة الروحية والقلة المادية لسنوات، فما وهنتم ولا استكنتم، بل لم تترددوا في ترك حياتكم وأموالكم ودياركم والهجرة لأجل الدعوة، فما كانت هجرتكم فرارًا من الموت، بل كانت نصرًا مبينًا

"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

يا بحارًا بلا مرفأ، وطرقًا بلا نهاية، وديارًا لا أعرف الطريق إليها، بـصاحبَيَّ أسير ولا أشعر بالثقيل.. 
يا صاحبَيِ الهجرة، قد وفيتم حق الصحبة، وآنستم ذلك القلب الراقد، أنا بكما أجوب البحر وإن كان بلا شاطئ، وأسير الطريق وإن كان بلا نهاية، فلا بد أن يكون للبحر منارات، ولابد للطريق من علامات، ولا بد للمهاجر أن يُهاجر.. لا بد للقلب أن يُهاجر.