مصر والعالم الإسلامي كله مدين للأزهر فكريا وعقائديا وسياسيا، حيث كان ولا يزال حارس الإسلام الأول والمسلمين منذ قرون مضت حتى يشاء الله فمنذ العصر الفاطمي وانتهاءً بالازمة الأخيرة مع فرنسا هو يذود عن الإسلام والمسلمين وينشر تعاليم الإسلام السمحة ويدعو للدين الوسطى ويبين للناس صحيح دينهم وما اختلفوا عليه في أمور دينهم. 

فتذكر معي أخي القارئ ما حل ببلاد العراق على أيدى التتار وكيف قام الأزهر وحل محلها ولم يخضع مثلها وأيضا ما حدث ببلاد الأندلس وما أصاب قدسنا الشريف ومسجدنا الأقصى على يد المعتدين.

لكن الأزهر لم يكن ليصيبه الله بهذا إلا بما حفظ فيه من أسباب علمية وشخصيات شامخة دافعت عن ديننا الحنيف من خلاله من قرون وإلى الآن. 

العصر الفاطمي: كيف أنشأ الجامع الأزهر؟ وكيف نشر المذهب الشيعي من خلاله؟ 

ما إن استقر حكم المعز لدين الله الفاطمي رابع الخلفاء في المغرب حتى أمر جوهر الصقلي (الحلوانى سابقا) وقائد قواته وقتئذ بدخول مصر فدخلها جوهر بعد أن انتزع حكمها من الإخشيديين عام 358 هجريا الموافق 969 ميلادي.

 ووضع جوهر أساسا لبناء الجامع الأزهر في الجنوب الشرقي من القاهرة وجعله مسجدا رسميا في عاصمة ملكهم الجديدة ونشر من خلاله المذهب الشيعي، ونقل إليه أبرز علماء الشيعة وشيوخها ونقلوا للأزهر أهم الكتب وشجعوا الطلاب على الدراسة فيه وأعطوا لهم الأموال والعطايا التي تعنيهم على نشر المذهب الشيعي في مصر وبين أهلها وتضييق الخناق على المذهب السني وسامر الحال هكذا طيلة عهدهم ولكن الله لم يكن ليدعهم هكذا بل قيض لهم رجل حكيم وفارس مغوار انهى ما عملوا على نشره طيلة قرنين من الزمان.

قُم في فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا… وَانثُر عَلى سَمعِ الزَمانِ الجَوهَرا

وَاجعَل مَكانَ الدُرِّ إِن فَصَّلتَهُ... في مَدحِهِ خَرَزَ السَماءِ النَيِّرا

وَاذكُرهُ بَعدَ المَسجِدَينِ مُعَظِّمًا... لِمَساجِدِ اللهِ الثَلاثَةِ مُكبِرا

وَاخشَع مَلِيًّا وَاقضِ حَقَّ أَئِمَّةٍ... طَلَعوا بِهِ زُهرًا وَماجوا أَبحُرا

كانوا أَجَلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَةً... وَأَعَزَّ سُلطانًا وَأَفخَمَ مَظهَرا

تسمية الأزهر بهذا الاسم 

كان هو أول المساجد في القاهرة لذا عرف في بادئ الأمر بمسجد القاهرة وتذكر المصادر أن سبب تسميته بالأزهر تعود لعدة احتمالات ، منها : نسبة للسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّ الله عليه وسلم، ولأنه كان محاطا بقصور فخمة تسمى القصور الزهراء، أو لأنه سمى بذلك تفاؤلا لأن يكون أعظم المساجد ضياء ونورا... ومهما كان سبب تسميته فقد ظل إلى الآن زاهرا بعلمائه وعلومه الزاهرة 

ظهور صلاح الدين الأيوبي وإغلاق المسجد 

حارب صلاح الدين الدولة الفاطمية وقضى عليها وأسس دولته الأيوبية في مصر وبالتالي قضى على كل مظاهر التشيع وأعاد مصر إلى المذهب السني الوسطي حيث أنشأ المدرسة الناصرية بجوار جامع عمرو بن العاص لتدريس المذهب الشافعي ثم أعقبها بمدرسة أخرى للفقه المالكي وبالتالى أهمل الدراسة في الجامع الأزهر ومنع إقامة صلاة الجمعة فيه أقامها في مسجد الحاكم بأمر الله بحجة أنه أوسع رحابا وأغلقه حوالي مائة عام تالية.

المماليك وعودة دور الأزهر

أعاد السلطان الظاهر بيبرس البندقداري الخطبة بالجامع الأزهر وجدده واستعاد الأوقاف من مغتصبيها وسرعان الأزهر ما استرد مكانته بوصفه معهدا علميا ذا سمعة عالية في مصر والعالم الإسلامي وتوقفت عليه الأوقاف وفتح لكل الدارسين من شتى أقطار العالم الإسلام، وكان ينفق عليهم ويقدم لهم السكن والجراية من ريع أوقافه. 

وزاد من مجد الأزهر غزوات المغول في المشرق التي قضت على معاهد العلم هناك وخاصة بغداد وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار معاهد العلم هناك.

واستمر الأمراء واحدا تلو الآخر يقوم بخدمة الجامع الأزهر وعلمائه على مدى عقود من الزمان فهذا يقوم على توسعته وذلك يوقف عليه المزيد من الأموال وهذا يزيد من مذاهبه وشيوخه وذلك يوسع مكتبته إلى أن أصبح الجامع الأزهر أحد أشهر المعاهد العلمية الإسلامية في العالم أجمع إلى وقتنا هذا.

وكعادة الإنسان والتاريخ الإنساني لا يبقى حال على حاله ولا يدوم صاحب قوة بقوته ولا ضعيف بذله وفقره وهذا ما أصاب الأزهر بعد قوته في عصر المماليك فانتكس في عهد العثمانيين فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتعرف على ما أصاب الأزهر من ضعف وانتقاص دوره. 

العهد العثماني: وتقليص دور الأزهر 

أهمل السلاطين العثمانيين النواحي العلمية والاجتماعية وحملوا ذخائر العلم وخيرة العلماء إلى الأستانة وكل ذلك لتعطيل وتقليص دور الأزهر الشريف حتى لا يكون منافسا للخلافة العثمانية، ولكن العثمانيين فشلوا في تحقيق كل ما راموا إليه واستطاع الأزهر أن يحمى التراث الإسلامي طوال ثلاثة قرون.

الحملة الفرنسية على مصر 1798

جاء نابليون بونابرت إلى مصر بحملته وفي نفسه العديد من المطامع وإلحاق الضرر بالإسلام عامة وبمصر خاصة -معقل الإسلام- ولكن الأزهر أصبح متربصا به حيث اجتمع في الجامع الأزهر بعض العلماء والمشايخ ولم يكن الغزاة قد عبروا النيل إلى القاهرة بعد، وتباحثوا في الأمر وبعثوا برسالة إلى المعسكر الفرنسي يسألونهم عن مقاصدهم، ولكن نابليون تزيا بزي المسالم صاحب العدل والمساواة وكتم ما بداخله ودعاهم للاجتماع معه وأنشأ الديوان وكان أعضاؤه من مشايخ الأزهر الشريف ولكن سرعان ما ظهرت النوايا الحقيقية للحملة الفرنسية فلم يدخر شيوخ الأزهر ورجاله جهدا في محاربة المعدتين وشحذ الهمم ضدهم من جموع الشعب المصري العظيم.

وحدثت الفجيعة الكبرى وهي دخول الحملة إلى الأزهر بخيلهم ورجلهم فهدموا مظاهر العلم بالأزهر وأحرقوا الكتب والمصاحف وعاثوا فيه فساداً.

حتى جعلوا خيلهم تتغوط بالجامع الأزهر وفي ذلك يقول الجبرتي وهو خير شاهد على هذا الحدث بحكم معاصرته له "وبعد هجعة الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم ممانع كالشياطين، أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من من المتاريس، ودخل طائفة من باب البرقية، ومشوا إلى الغورية، وكروا ورجعوا، تترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين، وتراسلوا إرسالاً، ركباناً ورجالاً، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيل، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطول خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمطلوبين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع، والودائع والمخيمات بالدواليب والخزانات، ورشقوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها... وشربوا الشراب وكسروا أوانيه بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه".  

وأعقب الفرنسيس هذه الفعلة الخسيسة باعتقال المشايخ والزعماء الذين يقودون الثورة ضد الحملة الفرنسية، ولكن كان الأزهر بشيوخه ورجاله أعظم من أن يفتروا عن الدفاع عن دينهم ووطنهم والذود عن عرضهم وأموالهم حتى يئست الحملة وتركت مصر فارةً مما لحق بها من جموع الشعب المصري، ولا ننسى ذكر سليمان الحلبي الطالب بالأزهر الشريف الذى قتل كليبر قائد الحملة الفرنسية الثاني. 

محمد علي والأزهر 

أرسل محمد على البعثات إلى أوروبا فكان الازهريون في الطليعة وخير مثال على ذلك رفاعة رافع الطهطاوي الذى أشار عليه بإنشاء مدرسة الألسن، وأنشأ أيضا محمد على المدراس وعين بها شيوخ الأزهر وأزال عنهم المظهر الأزهرى وأشغلهم بأمور أخرى كالترجمة للعربية وتولى أمور الصحافة والمطبوعات وغيرها حتى انصرف كثير منهم إلى ذلك وتركوا الأزهر بعلومه الدينية وانصرف طائفة من الناس عن الدراسة في الأزهر إلى مدارس محمد علي حتى وهن الأزهر وضعف ولم يعد يقدم ما كان قدمه للدين والدنيا من قبل. 

الاحتلال البريطاني والمأساة من جديد 

حمل الأزهر راية النضال ضد الاحتلال البريطاني منذ للوهلة الأولى، عندما قاد الأميرلاي أحمد عرابي، أحد الدارسين بالأزهر- قبل التحاقه بالمدرسة الحربية- ثورة الأحرار ليقف أمام الخديو توفيق قائلا كلمته المشهورة "لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً؛ فوالله الذى لا إله إلا هو، لا نورث، ولا نستعبد بعد اليوم" عام 1881 ، ليلهب الأزهر شعلة المقاومة والفدائية ضد المحتل الإنجليزي. 

والجدير بالذكر أنّ أغلب رجال الثورة العرابية كانوا من الأزهر منهم عبد الله النديم والشيخ محمد عبده وكلن بأت الثورة العرابية بالفشل واستمر الاحتلال البريطاني طيلة 70 عاما. 

لمحة من ثورة يوليو 1952

نظرا لمكانة الأزهر العلمية والدينية أولت الثورة اهتماما بالأزهر الشريف ومن أبرز ذلك عندما خطب الرئيس عبد الناصر من فوق منبر الأزهر الشريف ليعلن الدفاع عن مصر ضد العدوان الثلاثي، وأصدرت الثورة قانونا لتطوير الأزهر بشأن إعادة تنظيمه وتنظيم الهيئات التابعة له وتحديد منصب شيخ الأزهر وما يتبعه ثم تحديد ميزانيته وما يختص به من باقي الأمور المادية والإدارية.

لمحة من التعليم الأزهري 

كان الطالب يلتحق بالأزهر بعد أن يتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم دون الالتزام بسن معينة ليتردد على حلقات العلماء كما كان له الحق في اختيار العلماء دون قيود، ولم يكن الطالب مطالباً بالالتزام في الدراسة فقد ينقطع عنها فترة ثم يعاودها.

ولم تكن هناك لوائح تنظيمية تنظم سير العمل أو تحدد المناهج والفرق الدراسية وسنوات الدراسة. والطالب إذا أصبح مؤهلا للتدريس استأذن شيوخه وقعد للدرس فإذا لم يجد فيه الطلاب ما يرغبون من علم انفضوا عنه وتركوا حلقته أما إذا التفوا حوله ولزموا درسه ووقفوا فيه فتلك شهادة بصلاحية التدريس بعدها يجيزه شيخ الأزهر فيحصل على شهادة الإجازة في التدريس.

وظل هذا النظام متبعا حتى عهد الخديوي إسماعيل عندما أصدر أول قانون للأزهر سنة ( 1288 هجريا / 1872 ميلادية) لتنظيم حصول الطلاب على الشهادة العالمية، وحدد المواد التي يمتحن فيها الطالب بإحدى عشر مادة دراسية شملت الفقه والأصول والحديث والتفسير والتوحيد والنحو والصرف والمعاني والبيان واليدين والمنطق، وطريقة الامتحان بأن يقوم الطالب بالجلوس فوق أريكة الشيخ، والممتحنون أعضاء اللجنة يلتحقون حوله في موضع الطلبة فيلقي الطالب درسه ويناقشه الشيوخ وقد يستمر الامتحان لساعات طويلة لا يقطعه إلا الطعام والصلاة. 

ثم في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني أنشئت ثلاث كليات أزهرية وهي: كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربيّة. واستمرت عملية تطوير الأزهر إلى أن انتهى به الحال إلى ما هو عليه الآن.

ولا يكفي الحديث عن التعليم في الأزهر بدون ذكر أشهر العلماء الذين ارتبطت أسماؤهم بالأزهر ومنهم: ابن خلدون، وابن حجر العسقلاني، والسخاوى، وابن تغري بردي. ومن القيادات الحديثة: عمر مكرم ومحمد عبده وجمال الدين الافغاني وأحمد عرابي وسعد زغلول. 

وهذا أخى القارئ قليل من كثير قدمه الأزهر للدين والدنيا وأقل الواجب منا تجاهه عدم تشويه سمعته والذود عنه وكذلك الدفع بما رزقنا الله من أبناء داخل أروقته لينهلوا منه ويتعلموا أصول دينهم.