إن الإنسان المنتج والفعال حينما يباشر أعماله، ينبغي أن يكون له تصورٌ عن الأعمال التي يزاولها، ودرجة كل عمل في الأهمية، فيقدم ما هو أكثر أهمية وإنتاجية، على ما هو أقل أهمية وإنتاجية. "لأنه عندما تركز معظم وقتك وطاقتك على القيام بالأشياء التي تتفوق وتتألق فيها حقا، فسوف تجني مكاسب ومميزات كبيرة في آخر الأمر. هذه حقيقة أساسية، وهي ضرورية أساسية لنجاحك المستقبلي." قوة التركيز ص 43
وهذا بخلاف إذا أصبح عند الإنسان كل شيء أولوي، فيعني التزامه تجاه لا شيء، وبلا إنتاجية، كما يقول الخبير جون ماكسويل "إن تكريسك جزءا بسيطا من نفسك لكل شيء، يعني التزامك الشديد تجاه لا شيء." لليوم أهميته ص 6
والقرآن الكريم دائما يدعو في توجيهاته، وأوامره إلى فعل الأولى، ويرغّب المسلم في السعي نحو الأفضل والأكمل في كل شيء. فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل. بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال الله سبحانه وتعالى: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" سورة الرحمن:7 – 9. 
والرسول كذلك في دعوته كان دائما يدعو المسلمين للأفضل نفعا، والأجزل ثوابا، كما كانوا الصحابة يسألونه عليه الصلاة والسلام «أي الإسلام خير، وأي المسلمين خير؟ وأي الأعمال أفضل وما شابه ذلك". ومثال ذلك عن عبد الله بن عمرو "أن رجلا سأل رسول الله أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". صحيح مسلم، باب: بيان تفاضل الإسلام، كتاب الإيمان رقم الحديث 39.

فما أحكم الرسول، الذي أُعطي جوامع الكلم، والذي لا ينطق عن الهوى، وبيَّن أهم شُعَبِ الإيمان، وأبرز خصال الإسلام، إطعام الطعام، وإفشاء السلام، إذ بهما يكون التآلف والإخاء، وقد جمَع في الحديثِ بين إطعامِ الطَّعامِ وإفشاءِ السَّلامِ؛ لأنَّ به يجتمعُ الإحسانُ بالقولِ والفعلِ، وهو أكملُ الإحسانِ، وإنَّما كان هذا خيرَ الإسلامِ بعد الإتيانِ بفرائضِ الإسلامِ وواجباته. 


وبهما تصبح الأمة الإسلامية كالجسد الواحد، تتعاون أعضاؤه على خيرها، وتتسالم وتتكاتف على دفع الضرر عنها، ويشد بعضها بعضا، تحقيقا لمتانتها وصلابتها وقوتها.
وعن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: "إن رجلا سأل رسول الله أي المسلمين خير؟ قال من سلم المسلمون من لسانه ويده" صحيح مسلم، باب، بيان تفاضل الإسلام، كتاب الإيمان رقم الحديث 42.
عن أبي بردة عن أبي موسى، قال: "قلت يا رسول الله أي الإسلام أفضل. قال من سلم المسلمون من لسانه ويده". صحيح مسلم، باب، بيان تفاضل الإسلام، كتاب الإيمان رقم الحديث 42. هذا الحديث مِن جوامعِ كَلِمِ النبي وفصيحِه، ويبين شدة حرص الصحابة وسؤالهم المتتابع عن طريق الجنة. ومعناه: معناه من لم يُؤْذِ مسلما بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر.

إذن الإسلام "وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يُقدم الأولى فالأولى بناء على معايير شرعية صحيحة، يهدي إليها نور الوحي ونور العقل. فلا يُقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل. بل يُقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير. ولا يُكبر الصغير ولا يُهون الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا إخسار" يوسف القرضاوي: في فقه الأولويات، دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، سنة النشر 1995 ص 9.

team

وتقديم الأهم على المهم، والفاضل على المفضول، لا يقتصر على الأمور الدينية فقط، بل يشمل كل الأمور الدنيوية، فالناس الأكثر فعالية، والأكثر إنتاجية، دائمون يقدمون الأهم أولا، وهذه العادة هي العادة الثالثة التي ذكرها ستيفن كوفي في كتابه "العادات السبع للناس الأكثر فعالية"، التي تقول: "ابدأ بالأهم قبل المهم" وخصص لها كتابا منفردا عنوانه "إدارة الأولويات، الأهم أولا".
هذه العادة تساعد كل شخص على ترتيب أولوياته حسب أهميتها وعجلتها، فترتيب الأولويات، سيجعلك مُرَكِّزا على إنهاء أكبر قدر من المهام المهمة، وبالتالي إرجاع سكة مسار النجاح إلى طريقها الصحيح.

يأخذ الناس ذوو الإنتاج العالي، وقتا للتفكير، وللتخطيط، وترتيب الأولويات. بعدها يندفعون بسرعة وبقوة تُجاه أهدافهم. فهم يعملون بثبات، وسلاسة، واستمرارية، ويبدو أنهم يذهبون لأداء كميات هائلة من الأعمال في الوقت نفسه، الذي يمضيه الشخص العادي في علاقاته الاجتماعية، مُضيِّعاً وقته بعمل نشاطات ذات قيمة منخفضة.


و"ترتيب الأمور حسب أهميتها هو في صميم حياتنا. فأغلبنا يتمزق بسبب الأعمال التي يجب أن يقوم بها، وبين ما يريد أن يقوم بها هو، وبين المسؤوليات التي تقع عليه. فنحن نشعر بالتحديات الخاصة بالقرارات اليومية والمستمرة، طِوال لحظات الحياة، فنستجيب لها في ضوء ما نعتقد أنه أفضل استخدام لوقتنا" ستيفن كوفي إدارة الأولويات، الأهم أولا، ص15.


التركيز على الأولويات يقتضي التركيز على الشيء الوحيد الأكثر أهمية، بدل التشتت بين مهام أقل أهمية


إن أداء أكثر من عمل، وإنجاز أكثر من مهمة في الوقت الواحد، يعني التشتت وقلة الفعالية والإنتاجية.
كما يرشدنا (جاك كانفيلد) إلى هذا الأمر بقوله "لا تتصرف مثل معظم الأشخاص الذين توجد لديهم ستة أشياء في قائمة المهام اليومية التي يجب القيام بها، ويبدؤون بأداء أسهلها، وأقلها أولوية. وفي نهاية اليوم يجدون الأولوية رقم واحد ما زالت في القائمة كما هي دون أن يقربَها أحد" قوة التركيز ص59.
إذن من أسباب الزيادة في الإنتاجية والفعالية، هو التركيز على نشاط واحد، والبدء به ولو كان صعبا، "قل لنفسك دعنا نبدأ العمل، وابدأ به، وحَالَما تبدأ، استمر بهذا إلا تُنهي العمل" ابدأ بالأهم أولا ولو كان صعبا، ص63.
وقام الكاتب ستيفن كوفي بتقسيم المهام حسب أولوياتها إلى أربعة تصنيفات، وهي ما تسمى مصفوفة الأولويات:

مصفوفة الوقت وترتيب الأولويات

  • مهام مهمة وعاجلة: مهام العمل ـ التزامات ضرورية ـ حل الأزمات العاجلة.
  • مهام مهمة وغير عاجلة: تعلم مهارات جديدة ـ قراءة كتب مفيدة ـ التخطيط للمستقبل.
  • مهام غير مهمة وعاجلة: متابعة مسلسل أو فيلم ـ متابعة مباريات الكرة.
  • مهام غير مهمة وغير عاجلة: تصفح مواقع التواصل الاجتماعي ـ مشاهدة فيديوهات غير مفيدة.

مربع الجودة هو مربع مهم وغير عاجل، وهو مربع الإنجاز والتخطيط، الذي يجب على الإنسان أن يقضي فيه أكثر الوقت، و"هو مجال التخطيط طويل الأجل، حيث نتوقع المشكلات، ونحاول مَنع حدوثها، وحيث نُحفز الآخرين، ونسندهم، وحين نُوَسِّع من نطاق قدراتنا الذهنية، ونطور مهاراتنا من خلال القراءة والتدريب في مجال المهنة" إدارة الأولويات، الأهم أولا، ص 45.

وميزة هذا المربع -مربع الجودة- أنه لا يتحكم فينا، بل نحن الذي نتحكم فيه.
لكن مشكلة أغلب الناس يستجيبون للمربع الأول: الأمور المهمة العاجلة، مثل في الوقت الذي نغرق فيه بكميات هائلة من المهام والمسؤوليات والالتزامات والمواعيد، والاتصالات، وهذا المربع يسمى مربع الطوارئ، وغالبا كلما قضى فيه الإنسان وقتا أكثر، كلما كان ذلك على حساب مربع الجودة، "مما يؤدي بالتالي إلى ظهور ضغط العمل، والإرهاق، والقلق، والمزيد من الأزمات. وتجد من وقع في هذا المربع، يردد بلسان حاله إن حياتي مرهقة، فأنا أجري طوال اليوم: اجتماعات، مكالمات، أوراق يجب إنهاؤها، مواعيد. إنني أضغط على نفسي حتى النهاية، وآوي إلى سريري مجهدا، وأصحو في اليوم التالي لأدور دورة نفسها. إن نتائجي هائلة، إنني أنجز الكثير. ولكن لدي هذا الشعور الداخلي أحيانا، وهو: ثم ماذا؟ هل قمت به فعلا هي الأمور ذات الأولوية؟ في حقيقة الأمر إنني اعترف بأنني لا أعرف الإجابة عن ذلك." ستيفن كوفي، إدارة الأولويات، ص 13

office

والأخطر من المربع الأول، المربع الثالث، المربع الذي تندرج فيه الأمور غير المهمة وغير العاجلة، وهو مربع الخداع، مثل الكثير من المكالمات الهاتفية، والزيارات غير المُجْدية. وهذا المربع يكون استجابة وتلبية لرغبات الآخرين، "فنحن ننفق الكثير من الوقت في هذا المربع، لكي نستجيب لأولويات الآخرين، وليس بالضرورة لأولوياتنا. ومع ذلك يوجد لدينا شعورا كاذبا، وكأننا نعمل في المربع الأول، وليس الثالث" إدارة الأولويات، الأهم أولا، ص 47.
هذه الأمور غالبًا ما نضحي فيها في سبيل مهام عاجلة ومهمة أي في سبيل المربع الأول، وكلما قضينا وقت أكثر في المربع الثاني كلما كان ذلك أفضل وقللنا من المهام بالمربع الأول وباقي المربعات، وبالتالي إدارة الوقت بفعالية والتخفيف من الضغوط على صعيد الوقت.

تتمحور مشكلتنا أننا نميل إلى القيام بالمهام العاجلة أولا، حتى لو كانت هذه المهام غير مهمة، فمثلا متابعة مقابلة رياضية وهو أمر غير مهم، لكنه عاجل، مما يؤدي إلى سوء تسيير وتحديد الأولويات.

والإنسان أمامه في اليوم أربعا وعشرين ساعة فقط، تلك الساعات يتعين عليه القيام فيها بكلّ شيء يحتاجه، من عمل ودراسة وأعمال منزلية أخرى وغير ذلك. لكن تلك المهام التي يقوم بها تختلف في أولويتها، وإنتاجيتها، لذلك "لا تستطيع أن تفعل كل شيء، لكنك تستطيع فعل هذه الأشياء القليلة التي تُبدع فيها، تلك الأشياء القليلة التي يُمكن أن تُحدث تغييرا حقيقيا" براين ترايسي، ابدأ بالأهم أولا ولو كان صعبا ص73.

إدارة الأولويات يقتضي إدارة الوقت 

إن من أعظم النعم التي أنعم بها الله على الإنسان، بعد الإيمان هو نعمة الوقت. والوقت هو عمر الإنسان، ورصيده الذي يستثمر فيه في هذه الحياة الدنيا، وينال جزاءه في الحياة الأخرى، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. كما أن الوقت مما يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، فعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله "لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه".أخرجه الترمذي (2417) والإمام ابن قيم الجوزية يبين هذه الحقيقة بقوله "فوقت الإنسان، هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر أسرع من مر السحاب. فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوبا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو، والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. وإذا كان العبد، وهو في الصلاة، ليس له إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله، وله. الوقت من المنظور الإسلامي والإداري، ج1/17


ومن هنا حثَّ الإسلام على المُبادرة بالعمل الصالح، وعدم ضياعِ أيَّة لحظةٍ من لحظات العُمُر في غير ما يُفِيد، ومن مظاهر هذا، ما جاء في الحديث "نِعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصِّحَّة والفراغ"  أخرجه الترمذي (2417).

قال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث «قال ابن بطال معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا، حتى يكون مكفيا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن، بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون، وأشار بقوله كثير من الناس إلى ان الذي يوفق لذلك قليل". فتح الباري، ج11/230. لذلك "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور، بما لا يعجز عنه البدن من العمل. ابن الجوزي، صيد الخاطر، دار القلم -دمشق الطبعة: الأولى 1425هـ -2004م، ص 33.

والوقت من أندر الموارد في هذه الحياة، فهو إذا انقضى لا يعوض، ولا يستطيع الانسان أن يخزنه أو يشتريه، بل هو الحياة نفسُها، وعمر الإنسان ما هو إلا ساعات ودقائق وثوانٍ، فوقْت الإنسان هو حياته، ووقته هو نَهاره وليله، وهو عمره، وكل شمس تغرب هو يوم ينقص من عمر الإنسان، ورصيده الحقيقي هو ما بقي من أيام حياته.

"إن الاستخدام السليم للوقت يبين عادة الفرق بين الإنجاز والإخفاق، ففي الساعات الأربع والعشرين يوميا، يوجد عدد محدد منها للقيام بالأعمال، وهكذا فإن المشكلة ليست في محدودية الوقت نفسه، وإنما فيما نفعله بهذه الكمية المحدودة منه. إن الاستفادة القصوى من كل دقيقة شيء مهم، لإنجاز الأعمال بأسلوب اقتصادي وفي الوقت الصحيح، فالوقت يسير دائما بسرعة محددة، وثابتة، ومن ثم فإنه يتعين على الفرد أن يحافظ على الوقت المخصص له. فكمية الوقت مهمة لكن ما يفوقها أهمية هو كيفية إدارة الوقت". فالوقت "سريع الانقضاء وما مضى منه لا يرجع ولا يُعوَّض بشيء، كان الوقت أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، وترجع نفاسته إلى أنه وعاء لكل عمل، وكل إنتاج، فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً ومجتمعاً". القرضاوي، يوسف، الوقت في حياة المسلم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1417هـ 1997م، ص 10  

إذن لن تستطيع تغيير حياتك، إلا إذا غيرت شيئا تقوم به يوميا، وتذكر أن اليوم فيه أربع وعشرون ساعة، ولن تستطيع فيه إنجاز كل شيء، ولكن إذا ركزت على الأمور أكثر أهمية، ستكون أكثر إنتاجية.