ينتقد الكاتب والأستاذ الجامعي جوناثان هايدت في كتابه "تدليل العقل الأمريكي" التحول السلبي الذي شهدته البنية الأسرية الأمريكية منذ بداية التسعينات، إذ لاحظ أنها غدت تنتج أفرادا ألفوا "التدليل" أو الاهتمام المبالغ فيه، أفراد ذوي حساسية مفرطة اتجاه كل ما لا يتناسب مع قناعاتهم، ولا يقبلون الرأي المخالف باعتباره وقاحة أو تهجما على أمنهم العاطفي.

و يعزو الكاتب هذه الظاهرة لطرق التربية لدى الأسرة الأمريكية، إذ أصبحت الأخيرة ميالة لتقديم الحماية والرعاية المبالغ فيها، وتحصين أطفالها من شرور العالم الخارجي والاحتكاك به، وكذا تلبية رغبات أطفالها كلما ظهرت. واعتبر الكاتب الظاهرة نتيجة منطقية لانخفاض معدلات الإجرام في أواخر الثمانينات، وارتداد شعور الخوف بعدها ليصبح إجراء وقائيا.

فطن الدكتور، رفقة المؤلف المساعد كريك لوكيانوف، لامتداد الظاهرة التي غمرت المدارس وحرم الجامعات، ورسخت ثقافة الحماية من الآراء المخالفة، وعدم قبولها باعتبارها "عدوانية" أو "مهينة". منتجة لمواطن رخو البنية النفسية يفضل الحماية على المواجهة والتدافع. 

وقد جرد الكاتب للظاهرة انتقادات لعل أبرزها ترسيخ أحادية التفكير والغطرسة الإيديولوجية، والانقضاض على حق الغير في التعبير عن الرأي.

ويمضي بعض الملاحظين، من بينهم الطبيب النفسي وأستاذ علم النفس الكندي جوردان بيترسون، لدعم الطرح في تبيان الدور الذي تلعبه تلك المؤسسات بدكاترتها وإداراتها المنتمي أغلبهم لليسار وللنسوية المتطرفة والمنتسبين للتيار الفكري بعد الحداثي، والذين تلقوا انتقادات لاذعة باستغلالهم المؤسسات التعليمية لتفريخ أجيال من التابعين، ولعزفهم على أوتار عدم المساواة، والمطالبة بأمن اقتصادي مالي شمولي، والدفاع عن الحريات الجنسية، وذلك باستغلالهم المباشر وغير المباشر لسيكولوجية أجيال مجبولة على "الأمن" المادي والمعنوي، أو بتغليب أنا الجماعة على استقلالية الفرد.

  جوناثان هايدت

ويلاحظ المتتبع للشأن الأمريكي والغربي عموما، آثار ما تم ذكره، إذ سجلت كثير من حالات "الإسكات" في الجامعات الأمريكية، وتم شطب عديد من الأسماء من لائحة المرحب بهم وبطريقة نهائية. الظاهر في الأمر أن اغلب الأصوات المرفوضة داخل الحرم الجامعية هناك تنتمي لتيارات محافظة، أو يمينية، أو بالأحرى تلك التي تعارض الأجندات اليسارية والنسوية المتشددة، بدعاوي أنها عدوة للمرأة، أو خادشة لحساسيات الأقليات العرقية والجنسية.

نتيجة لهذا تواجه الولايات المتحدة أزمة حرية تعبير خانقة، تمارس من خلالها الأغلبية ذات توجهات إيديولوجية معينة اضطهاد حقوقيا وإعلاميا على الفئات الأخرى. 

يمكننا من خلال طرح الكتاب وتتبع التجربة الأمريكية صياغة عدة تساؤلات؛ هل يمكن الوثوق في فعالية الديمقراطية وحرية التعبير إن علمنا أن الأنفس البشرية سهلة التأثير والانقياد والتوجيه؟ هل نعيد إحياء الشك السقراطي في جدوى الديمقراطية، باعتبارها صوت الأغلبية وبالتالي صوتهم هو الأحق؟ أو أن بناء مجتمع ديموقراطي يستلزم تهيئة أفراد مستقلي القرار والفكر، وبدونه يمسي مجالا تمارس فيه الأغلبية جبروتها؟