حازت التكنولوجيا على اهتمام عالم الاجتماع والمستقبليات والاقتصادي المغربي المهدي المنجرة منذ وقت مبكر فحرص من خلال دراساته في هذا المجال على إبراز دورها في النهوض بالمجتمعات في عصر اقتصاد العلم والمعرفة. وبالنظر إلى غربٍِ متحفظٍ لا يفتح باباً للتعاون الحقيقي، ولا يرى في دول الجنوب إلا سوقاً لتصريف السلع والخدمات أكّد المنجرة مراراً أن التحرر من التبعية للشمال يحتّم على العالم الثالث عموماً وعلى البلدان العربية والإسلامية خصوصاً سلك درب البحث العلمي والتكنولوجي المحلي الذي يخضع لقيمنا ويحترم هويتنا الحضارية والثقافية. 

من بين الأسئلة التي شغلت فكر المنجرة سؤال الغائية وخطر تفريغ التكنولوجيا من المقاصد على الإنسان والبيئة والحضارة ومدى مواكبة التكنولوجيا للقيم الثقافية والاجتماعية وتفاعلها معها. 

نتناول هاته الأسئلة وغيرها في هذا المقال الذي نستحضر فيه رؤية المنجرة وأفكاره حول التكنولوجيا استخلصناها من ثلاثة كتبٍِ: قيمة القيم، والحرب الحضارية الأولى، والإهانة في عهد الميغا إمبريالية.

الابتكار التكنولوجي ينشغل بسؤال «كيف؟» ويغفل عن سؤال «لماذا؟»

يعتبر المهدي المنجرة أن من بين سلبيات التجديد التقني ترسيخُ الغطرسة الثقافية حتى وإن كانت هذه الظاهرة لا تعد خطأً مباشراً للتقنية في ذاتها فإن الابتكار التقني يُستغل كأداة للسيطرة والسلطة من قبل النظام الاقتصادي "الابتكار التقني قلما يهتم بالغائية فهاجسه هو الإجابة عن سؤال كيف؟ لا عن سؤال لماذا؟"(1) يقر المنجرة بأن التجديد والابتكار التقنيان يمثلان قوة تقدم؛ لأنهما يعتمدان على البحث العلمي والإبداع والخلق؛ لكن في المقابل يُظهر قلقه من المكانة المخصصة للقيم في سباق البحث التقني "الاهتمامات الاجتماعية هي الأخرى لا تشكل أول التوجهات؛ وإلا كيف نشرح حوالي ثلثي الطاقة البشرية والمالية في القطاعين العلمي والتقني موجهتان لغايات عسكرية؛ بل إن حتى ما نجنيه من تقدم في حياتنا اليومية ليس إلا من نتائج البحث في المجال العسكري...وهنا تبرز قضية القيم بشكل واضح ومقلق: العدالة الاجتماعية؛ الحرية؛ الهوية الثقافية؛ التنوع الثقافي؛ الكرامة الإنسانية؛ قضايا وإن كانت حاضرة في أذهان الباحثين المجددين لا تشكل مؤثرات سياسية اقتصادية وتبقى في حدود المشاكل المعنوية الأخلاقية". 

وفي هذا السياق تساءل المنجرة عن عدد المستفيدين من هذه الابتكارات على الكرة الأرضية وأكد أن الإجابة عن هذا السؤال لن تتم إلا عبر تجديد اجتماعي وإعادة ضبط ديناميكي للقيم الإنسانية.

غزو الفضاء: يخدم الإنسان أم يزيد من صراعاته؟

حذّر المنجرة من الانبهار الزائد بغزو الفضاء على حساب الانشغال بالتحديات والمشاكل التي تواجهها البشرية على كوكب الأرض لا سيما، حسب قوله، أن الإنسان لم يكن يوما في صلب أولويات البرامج الفضائية "إن غزو الفضاء أصل الإبداع التكنولوجي ونتاجه معا. وكل إبداع له عواقبه، تتمثل في الانقطاع عن الماضي وفي التصدعات اللاحقة. وإذا علمنا ما يواكب هذه التصدعات علميا واستراتيجيا واقتصاديا فإننا لا نعلم ما يواكبها اجتماعيا وثقافيا. وذلك مرده إلى أن الإنسان لم يكن أبداً الشغل الشاغل لواضعي البرامج والأنشطة الفضائية. إن مكان الإنسان في الفضاء الآن لا يوجد إلا في العائدات التكنولوجية. إنها حقائق يجب على الإنسان تدبرها لاسيما إذا كان على بينة من الإنجازات العلمية والتكنولوجية التي أتاحها غزو الفضاء ‏لئلا يذهب إلى ذلك الانبهار الذي لاحد له. أما الذي لا شك فيه، هو أن على الأرض مشكلات كثيرة بسيطة يمكن حل كثير منها لو أعطيت من الاهتمام ما أعطي الفضاء".(2)

إلى جانب ذلك، يعتبر المنجرة أن إحدى الأزمات الكبرى للعلم والتكنولوجيا والثقافة هي أزمة مقاصد وقيم ومعايير أدت إلى اللاتكافؤ بين الجانب العسكري والاقتصادي في السياسيات الفضائية والجانب الاجتماعي الثقافي، فغذّى هذا الأمر مزيداً من الصراعات الإنسانية رغم ما حققه غزو الفضاء من مكتسبات "ثمة هوة سحيقة بين ثقل الجانب العسكري والاقتصادي في السياسات الفضائية، وضعف الجانب الاجتماعي ‏الثقافي. تعجز المجتمعات المعنية عن التكيف مع التحولات الاجتماعية الثقافية الجارية؛ وعن توجيهها الوجهة المناسبة لمجموعة من القيم ولضوابط الأخلاق ولمقاصد أخرى يكون فيها الرغد وازدهار الإنسان والظروف المؤدية إلى السلام الدائم. وهذه الهوة تزيد عمقاً يوماً بعد يوم، لأن الإنسانية في معظمها لم تأت بعد بالإبداع الاجتماعي -الثقافي الموازي لما أنجز في العلم والتكنولوجيا. يبدو أن شساعة فضائنا -وهي نتاج تقدم العلم – زادت صراعاتنا حدة... ومع ما أتى به غزو الفضاء من حسنات، فمن الإنصاف القول بأن مستقبل الإنسان لم يكن من اهتماماته".

ويضيف أن هاته الهوة بين ما أُنجز من تقدم تكنولوجي والاحتياجات الثقافية والاجتماعية للإنسان ساهمت في تهميش أغلبية كبيرة من الناس داخل الفجوة بين الشمال والجنوب "إنها أزمة لا العلم مسؤول عنها ولا التكنولوجيا، لكنها تعزّز الظلم داخل الدول وفيما بينها".(2) هكذا، يرجع المنجرة هذا التفاوت الحاصل إلى عدم الفعّالية الثقافية "كلما طورنا المعرفة والتكنولوجيات نكون أقل تحكّما فيها واستيعابها وتطبيقها بإتقان من أجل مقاصد اجتماعية، لتقليص الفوارق والظلم مع السعي إلى تنوير كل الناس. وهذه الفجوة المتزايدة بين المعرفة والتقنيات، من جهة، وعجزها المتزايد لتحقيق سعادة الآخر يوميا من جهة أخرى؛ هو نوع من عدم الفعَالية الثقافية التي تعاني منها جميع الثقافات".(1)

الصناعة الحربية والبوصلة الأخلاقية المفقودة!

يضع المنجرة الغاية من التطور العلمي التكنولوجي موضع المساءلة نظراً للعلاقة الصريحة التي تربط العلم والتكنولوجيا بالتحطيم والتخريب؛كما ينبّه إلى خطورة تهميش البعد الأخلاقي القيمي "إن العلم والتكنولوجيا في الحضارة الغربية مبنيان على المادة دون أي اهتمام بالجانب الإنساني أو الأخلاقي. ويبدو التركيز واضحا على ما يسمى بالتنمية الصناعية الوحشية، مما نتج عنه تلوث ليس فقط التلوث البيئي، وإنما التلوث الحضاري فيما يخص القيم، فقد أُعطيت الأولوية للمادة على حساب القيم، وصارت هذه المادة هي التي تتحكّم في العلم وفي المجتمع وفي التكنولوجيا. التقدّم الحاصل في الميدان الطبي أو الإعلامي أو في جميع الميادين نتج في جزء كبير منه عن الصناعات الحربية والعسكرية".(2)

 

  إنفاق الولايات المتحدة على الجانب العسكري يفوق إنفاقات عشر دول مجتمعة
حرب العراق...تسخير التقنيات للاعتداء على الآخر

يرى المنجرة أنه منذ بداية تاريخ الإنسانية، كان تطور التقنيات دائماً مرتبطا بحاجيات «الدفاع» ليتم تصفية هذا المفهوم بالتدريج ليصبح اعتداءً على الآخر "إن العلاقات بين العلم والتكنولوجيا والدفاع؛ بصفتها قوة للتدمير؛ قد ازدادت عمقا إلى درجة أصبح فيها العلم والتكنولوجيا تحت الرقابة الكاملة للدفاع. وما يقرب من ثلثي العلماء في العالم، يعملون لصالح القطاع العسكري؛ والنفقات العالمية في التسلح تقترب من تلك التي تتعلق بميزانية البحث العلمي".(1) 

وقدّم مثال الحرب على العراق في أوائل التسعينات للاستدلال على توظيف التقنية كسلاحٍ لتدمير البنيات الاقتصادية والصناعية والعلمية والثقافية لبلد له حضارة 6 آلاف عام من التاريخ وحامل لمعالم الذاكرة الكونية للبشرية "لقد عاش شعب العراق ولمدة 40 يوما من 17 يناير إلى 28 فبراير 1991 محنة جهنمية؛ عرف خلالها جميع الأرقام القياسية: أكثر من 110.000 طلقة نارية أي ما يعادل 114 طلقة في اليوم (42 ضعف الرقم السابق المؤرّخ بمهاجمة اليابان أثناء حرب 1945-1939 والتي كانت ترتفع إلى 65 طلقة في اليوم). إنها تقنية جهنّم المتوحشة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 200.000 شخص الذين ستضاف إليهم على الأقل 150.000 ضحية أخرى في الشهور القادمة فضلاً عن مئات الآلاف من الجرحى وآلاف من المعاقين إعاقة دائمة".(1) 

كما كشف عن ازدواجية معايير الغرب الذي يحصد أرواح الأبرياء متخذاً من أراضي الغير حقلاً لتجريب فعالية الأسلحة والتقنيات "إن حربا بدأت على بغداد «بالألعاب النارية» فأبهرت وأثرت وأرضت أحياناً المتفرّجين الغربيين، المنشغلين باحترام النظام العالمي الجديد والدفاع عن حقوق الإنسان، لدرجة صرفهم الأمر عن الاهتمام بحياة الأبرياء المستهدفين. ولم يكن للآخرين حتى الحق في ذاكرة أرواح أمواتهم. أين هي تقنيات الحنان والتضامن الإنساني؟ تقنيات ذاكرة بعضهم وُجدت لتطوير تقنيات فقدان الذاكرة عند الآخرين. يبقى الحق لبعضهم في الذاكرة؛ أما الآخرين فلهم حق النسيان. أليس التمييز حتى بعد الموت كان أسوأ بكثير من ذلك التمييز الممارس في الحياة؟ إن هذه الملاحظات ليست «للآخر» على الإطلاق، ولا هي ناتجة عن نظرة «الأجنبي» أو «البعيد». إنها فوق كل التحاليل السياسية، ومرتبطة جوهريا بطريقة التقنيات المدمّرة، التي تمس وتبيد حياة الملايين من البشر مع مرور الأيام من كل سنة ولمدة تفوق أربعة عقود من الزمن".

ثورة المعلوميات..من وسائل للتواصل إلى عمل استخباري

يرى المنجرة أن القوة التكنولوجية التي تتمتع بها دولٌ مثل الولايات المتحدة مكّنتها من توجيه ثورة الإعلام والاتصال للتجسس والاستخبار"منذ سنين وأنا أكتب عن ثورة الإعلام والمعرفة وعن البحث العلمي وعن الخلق والإبداع الثقافي وغيره. وكان من مجالات اهتمامي التطورات التي شهدتها الثورة التكنولوجية في الإعلاميات والاتصال. إلا أن البنية التي قامت على استعمال المعلومات والآلات والجهاز الإعلامي لتحسين التواصل ما بين الأشخاص واستغلال المواد التربوية والعلمية تطورت بسرعة صارت معها هذه الوسائل تستعمل لغاية واحدة والمعلومات صارت إخبارية بالدرجة الأولى، وتركنا المجتمع، وخاصة المجتمع الإعلامي الحقيقي الثقافي وأصبحت المعلومات الموجودة والشبكات والتقنيات الحديثة (الأقمار الصناعية) تخدم شيئا معينا، مرتبطا بالاستخبارات".(3)

لتصبح بذلك الثورة المعلوماتية الناتجة عن تطور الأبحاث العلمية – كما يؤكد المنجرة-في خدمة العمل المخابراتي اليومي "الولايات المتحدة اليوم تعمل جاهدة لاستغلال وسائل الإعلام والاتصال، فهي تملك القوة التكنولوجية في مجال الاتصال التي تمكنها مثلا من مراقبة ملياري مكالمة هاتفية، وتسعى إلى أن تكتسب عن طريق هذه التكنولوجيا ما يسمى "بالذكاء الإنساني" أي المخابرات. فمجتمع الإعلام الذي نعيشه والمبني على تدفق المعلومات والأخبار والصور عبر الأنترنيت والتلفزيون والأقمار الصناعية والصحف والمجلات أصبح مجتمعا مخترقاً من قبل الولايات المتحدة التي حولت المعلومات إلى مخابرات".

التعلم مفتاحٌ لتطويع الأدوات التقنية

في إطار إشكالية المقصد من التقدم التقني، يرى المنجرة أنه مهما بلغت براعة المنتوجات على المستوى التكنولوجي والصناعي أو الاقتصادي ستظل دائما وأبدا وسائلَ ينبغي التحكم فيها وتطويعها بالتعلم لأن هذا الأخير، حسب نظره، يقدم مفتاحاً داخلياً للإنسان ويقيه من الاندفاع -بعدم ثقة في نفسه-إلى التطورات التكنولوجية لتعويض قدراته الباطنية وتصوره الفكري

 "هل کون آلة أصغر عشر مرات وأكثر إتقاناً من الآلة السابقة تسعدني أكثر؟ هل تحمل لي جديداً؟ هل تسمح لي بالتنوير، بتحسين الضحك، بتحسين الحب، بتحسين الأكل، بتحسين التفكير وبتحسين تعاملي مع الآخرين، سواء منهم الرجال أو النساء على هذه البسيطة؟ هكذا يجب أن يفهم التقدم. لكن عندما نقيسه بطريقة خارجية للإنسان نفسه، فإن هذا التقدم في نظري زائف".(1)

تمكين الإنسان هو غاية الغايات من التكنولوجيا!

لقيام الديمقراطية في عهد ما بعد الصناعي، يدعو المنجرة إلى إعادة تعريف الغرض من العلم والتقنية ويحث على تسخير التقدم العلمي والتقني لتمكين الإنسان وتحريره من الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية "إعادة تحديد الغاية من العلم والتكنولوجيا على مستوى المعمور أضحى من الضروريات الأساسية للديمقراطية الجديدة اللازم إقرارها لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. ففي غياب إجماع عالمي حول القيم الثقافية، تُشجِع المعايير والقوانين على استعمال العلم والتكنولوجيا في الإنتاجية والربح دون اكتراث كبير لاستغلال أدوات التغيير الضخمة هذه لصالح عمليات أكثر تعبيراً وأحسن إلهاماً. فمثل هذا الاكتراث لا يبرز ضمن قائمة أولويات أصحاب القرار لا شمالاً ولا جنوباً. الإشكالية الجديدة المطروحة في وجه العلم والتكنولوجيا؛ وفي وجه الثقافة أيضا؛ هي النظر في كيفية استعمال معارفنا المكتسبة لتأهيل البشر لمحاربة الفقر، والبؤس، والظلم الاجتماعي، والتهميش، وكراهية الكرامة والحقوق الإنسانية، والاستعمال المفرط للطبيعة ومواردها المحدودة".(2) 

كما يُبين أن العلم والتقنية لا ينفصلان عن البيئة الثقافية فهما يتفاعلان معها "لن يمكننا أن نهرب من مسائل القيم بمجرد أن نذكر بأن العلم والتقنية أمر 'عالمي وموضوعي'. أحد العناصر الرئيسية في معضلة العلم والتقنية الجديدة: هو أنهما كلاهما من المكونات العضوية في الثقافة. وهما لا يصبحان مرتبطين اجتماعيا ومنتخبين اقتصاديا إلا إذا تم دمجهما في البيئة الثقافية التي يعملان بها وبذلك يصيران ظاهرة ديناميكية تستحث التجديد والإبداع".