وقفت الفلسفات والأديان الكبرى من الإنسان مواقف متباعدة متعاندة، فمن الفلسفات التي لم تر في الإنسان فرقا يذكر بينه وبين الكائنات الدونية، ومنها من رأى هناك فرقا، ومن الأديان من جعله إنسانا حال فيه إله كما كان في الأديان المصرية والفارسية القديمة، ومن الأديان من رفض أن لا يكون للإنسان جوهر مختلف عن الكائنات الأخرى كما رفض أن يكون الإنسان إلها.  

لكن أشد الفلسفات قسوة على الإنسان الفلسفة المادية التي لم تر فرقا بين الإنسان والكائنات الأخرى، وقالت بأن الفرق بين الإنسان والكائنات الدونية فرق في الدرجة وليس في النوع، فليس هناك جوهر إنساني أما الإسلام فإنه يقف ضد هذه الفلسفة ونقيضا لها، فإنه يرى أن الله ليس كمثله شيء، وأثبت أن الإنسان ليس حيوانا أي أنه خليفة الله في أرضه (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (1)

وقال الملك الحق: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (2)

بلغت الفلسفة المادية الذروة مع نظرية التطور لصاحبها الفيلسوف تشارلز داروين، والذي يقول في شأن تقرير هذه الفلسفة بأن الحيوان يمتلك نفس الخصائص التي لدى الإنسان فهو يمتلك نفس الأهواء والمشاعر والانفعالات حتى تلك الأكثر تعقيدا، مثل الغيرة والشك والمنافسة والإقرار بالفضل والشهامة(3)، ويستمر داروين بقوله: يوجد لديها (الحيوانات) أيضًا حس الدعابة، وهي تشعر بالدهشة والفضول وتتمتع بنفس الملكات الخاصة بالمحاكاة والانتباه والتروي والاختيار والذاكرة والتخيل وتداعي الأفكار والتفكر(4) وهذه أيضًا لدى الإنسان، وكذلك الحيوانات الدنيا تشعر بشكل واضح مثل الإنسان بالسرور والألم والسعادة والتعاسة (5)، وبناء على هذا يرى داروين وأنصار المذهب المادي أنه ليس هناك ما يميز الإنسان عن الكائنات الدونية وما الإنسان إلا حيوان أرقى، ولا يوجد شيء يمكن أن يقال عنه جوهر إنساني. 

لكن انظر إلى عذابات رسكينكوف من جهة، ومحن أنا كرنينا من جهة أخرى، وبعث الأمير نيكنندوف، وانظر في المقابل للأسد وهو يجهز على أبناء اللبوة التي صارت زوجته غصبا، أنظر كيف يجهز عليهم بكل أريحية واطمئنان لا يوجد ضمير يؤنب أو أي شيء، ليس طبيعيا مالم يعرفه هؤلاء السادة العلمانيون هو أن الضمير يفصل الإنسان عن الحيوان فصلا تاما كاملا. 

يقال بأن الأهواء صوت الجسد وأن الضمير صوت الروح، يقول أحد الفلاسفة الموهوبين عن الضمير: "أيها الضمير، أيتها الغريزة الإلهية، أيها الصوت السماوي الخالد، أيها الحاكم المعصوم الذي يفرق بين الخير والشر، أنت الذي تجعل الإنسان شبيها بالله، فتخلق ما في طبيعته من سمو وما في أفعاله من خيرية، لولاك لما وجدت في نفسي ما يرفعني عن الحيوان إلا شعوري المؤلم بالانتقال من ضلال إلى ضلال بمعونة ذهن لا قاعدة له وعقل لا مبدأ له."(6)

لا يوجد شيء مثل الإيثار أو التضحية في عالم الحيوان، تقوم الشمبانزي بمساعدة بعضها البعض في حالة صلة قرابة بينها فقط، لكنها لا تقوم بمساعدة أقرانها الذين لا تعرفهم ولو كان ذلك غير مكلف لها، وتقوم الرئيسيات بتعاون مع الأقارب والشركاء دون الغير من أجل تبادل المنافع، لكنه لا يمتد التعاون أبدا ليشمل الغرباء، أم أن تعطي بلا مقابل فهذا شيء غير موجود، أم (أن َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) فهذا شيء خاص بالكائن الإنساني. 

"وأنظر لمبدأ التضحية وهو يبلغ الذروة في بذل الإنسان بأعز ما يملك روحه التي بين جنبيه في سبيل الدين أو الشرف أو قضية ما، التضحية مبدأ يفصل بين ما هو إنساني وما هو دون إنساني يحكى أن امرأة إسبارطية كان لها في الجيش المحارب خمسة بنين، ووقفت تنتظر أنباء المعركة الدائرة، وجاء من الميدان من يحمل أنباءً فسألته ما وراءه وهي ترتجف، فقال لها بنوك الخمسة سقطوا صرعى، فزجرته وسبته وصاحت به سحقا لك من عبد أعن هذا سألتك، فلما قال لها العبد قد انتصرنا أسرعت الأم إلى المعبد وقدمت القرابين شكرا للآلهة (7) لا توجد تضحية ولا إيثار في عالم الحيوان لكنها قاعدة في عالم الإنسان هذا مبدأ آخر يفصل الإنسان عن غيره. 

في عالم الطبيعة الأمور توجد في جبرية تامة وحتمية كاملة لا مجال للخيار أو الصراع النفسي (الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ وَالْقَمَرَ مقَدَّرْ مَنَازِلَ) في عالم الطبيعة (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ) في عالم الكائنات الأخرى يجوع فيذهب ليفترس، يشعر بالرغبة الجنسية يتوجه نحو الأنثى، لا توجد فاصلة بين رغبته وغرائزه، ولا يوجد تعالي عليها، هي المحرك الرئيسي والوحيد، لكن في الإنسان نجد القلق والحيرة الصراع بين المصلحة والواجب، إننا لا نفعل ما نريد بل نفعل ما يجب، لكن في عالم الطبيعة الأمور قد حددت مسبقًا ولا مجال للخيار لا مجال للحرية، لكن في عالم الإنسان نجد أنه كائن حر حرية كاملة وأفعاله لم تحدد مسبقًا، إنه كما يقول جون بول سارتر مجبر على الحرية(8)، وهذا غير موجود لدى الكائنات الأخرى، إنها اللمسة الإلهية إنها (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي). 

شيء رابع يضع فاصلة بين ما هو إنساني وما هو غيرذلك، تلك الخصيصة هي المسعى الخالد تطلع الإنسان لسماء ظاهرة غريبة عن الحيوان لصيقة بالإنسان، الخوف من الموت، النظر وراء القبور، السعي نحو الخلود، الشعور بأن هناك وطن قد طردنا منه، البحث عن المعنى، القلق الوجودي ذلك القلق الذي قال عنه هيدجر "العامل الخالد المحدد لنوع البشري حتى برجوع 350000 قبل الميلاد نجده ملازم للإنسان"، تقول مؤرخة الأديان كارين كرمستونج:" كان البشر دائمًا صناع أسطورة ،وقد اكتشف علماء الآثار بعد تنقيب عن قبور جماعة النيندرثال احتوائها على أسلحة وأدوات وعظام الحيوانات مضحى بها، تدل جميعًا على وجود معتقد عندهم بعالم أخروي يشبه عالمهم."(9)

تسأل كارل ماركس وصديقه فريدريك إنجلز ما الذي يفصل الإنسان عن الكائنات الأخرى، فكان الجواب الدين والأخلاق، لا يوجد أثر من شعائر أو طقوس لدى الحيوانات كما لا يوجد أثر للمحرمات أو العبادة، الدين مبدأ يفصل الإنسان عن الكائنات الدونية.

 

كهف لاسكو- فرنسا 

ما دام أننا تكلمنا عن الدين، فلنتكلم عن الفن فهما لم يفترقا يومًا، فالفن هو ابن الدين، أنظر إلى الإنسان ما قبل التاريخ تجده إلى جانب أنه مؤمن صادق باحث عن الله فهو فنان أيضًا، أنظر إلى رسومات كهف كاستلو في إسبانيا، وكهوف لاسكو في فرنسا، وآثار اليدين لشعوب ما قبل التاريخ، تزيين جدران كهف جرجاس جنوبي فرنسا، وانظر أيضًا لتماثيل الرومان واليونان وأشعار العرب، والرسالة الغفران، وانظر بعدها إلى الكائنات الأخرى، هل تجد عندها شيء كالفن؟ هل لديها إبداع الفن؟ كما الدين يفصل الإنسان عن ما سواه تخبرنا كارين ارمستونج أن الفن والدين كانا دائمًا مع بعض فتقول: وإذا كان المؤرخون مصيبين فيما يقولونه عن وظيفة كهوف لاسكو يمكن القول إذن بثقة أن الدين والفن كانا مرتبطين بقوة منذ البدايات الأولى والدين مثل الفن هو محاولة لتشكيل معنى في مواجهة الألم الحياة ومظالمها. (10)

كان من بين شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة المساواة، وكان من بين شعارات ثورات الربيع العربي العدالة والمساواة، إن الشعور بالعدالة فطري في الإنسان، فهو يستنكر الظلم ولا يرضاه وهو طبعا وحده الذي يقاوم الظلم، إنه الإنسان الثائر وليس الإنسان المتمرد، لأنه يملك إحساسا بالعدالة يجعله يطلبها ويتشوق إليها ويرفض الظلم والظالمين، الكائنات الأخرى لا تستنكر الظلم كما لا تثني على العدالة، وهي لا تشعر بأنها عادلة أو ظالمة عندما تتعامل مع أقرانها. 

والحاصل أن أخطاء الإنسان وضلاله لا تسمح لنا بتنصيبه إلها كما فعلت المسيحية، وحبه للعدل وسعيه وراء الله وإيمانه الصادق وأخلاقه الرفيعة وضميره الإلهي وتضحيته من أجل الغير وسموه فوق رغباته وانعتاقه منها نحو عالم الحرية وفنه وإبداعاته وقلقه الوجودي وشفقته على الغير لا تسمح لنا أن نضع في صنف الكائنات الأخرى كما فعل داروين والماديين، بل هو في منزلة بين المنزلتين فيه شيء من السماء وفيه شيء من الأرض.

قد يختلف الأشاعرة والمعتزلة هل هناك خير في ذاته أو شر في ذاته أم لا؟ لكن لا يمكن الاختلاف أنه لم يوجد مجتمع ليس له أخلاق، وإن كانت تختلف عن أخلاق المجتمعات الأخرى، الأخلاق نظام سادة البشر ولا يوجد مثل هكذا نظام لدى الكائنات الأخرى، لا يوجد صراع بين الواجب والمصلحة في عالم المملكة الحيوانية، الإنسان إما أنه خيّر أو أنه شرير، لكنه ليس بريئا، والحيوان لا خير ولا شرير لكنه بريء. 

مبدأ الحيوان المنفعة، ومبدأ الإنسان الأخلاق، تقتل النحل كل عضو لا منفعة فيه، طائر الكوكو عندما يزاحمونه إخوته في الحضانة على الطعام يلقي بهم من العش وعندما يكبر ويقوى ويضيق العش به وبين أمه وأبيه يحاول قتلهما، هذه أعمال يقال عنها لا أخلاقية في عالم الإنسان، فهي على هذا الأساس مرفوضة لكن الحيوان يرها أنها نافعة ولا علاقة لها بالأخلاق، وعلى هذا الأساس هي مستمرة في المملكة الأخرى وهذا هو مبدأ القائد للمملكة الحيوانية. 

ولكن نجد في المقابل الحضارة الغربية وهي تعتمد على مبدأ المنفعة الحيواني لم تستطع أن ترفع التناقض، فهي تزعم أنّ المصلحة والمنفعة هي المبدأ الحق الذي يجب أن يقود الإنسان، لكنها تفتح منازلا للمسنين وتقول النساء والأطفال أولا، وعندما حاول هتلر ابن نيتشه وداروين الوفي دفع مبدأ المنفعة والمصلحة إلى المنتهى وقتل كل من لا منفعة فيه كما تفعل الكائنات الدونية ورفع التناقض أدانته البشرية وشيعته باللعنات حتى العلمانيين أنفسهم، الأخلاق مبدأ آخر يفصل ما هو إنساني عن ما هو دون إنساني. 

يقول البير كامو بأن الإنسان حيوان يرفض أن يكون كذلك، ويكتب لنا: "الإنسان متمردا.. ألا فليتقدس الخالق في عليائه الذي جعل الإنسان متمردا، ألا فلتتبارك يده التي صنعت مثل هكذا كائن فهذا دليل على أن هناك شيء قد جرح فيه فالحيوانات لا تتمرد." 

والحاصل أن أخطاء الإنسان وضلاله لا تسمح لنا بتنصيبه إلها كما فعلت المسيحية، وحبه للعدل وسعيه وراء الله وإيمانه الصادق وأخلاقه الرفيعة وضميره الإلهي وتضحيته من أجل الغير وسموه فوق رغباته وانعتاقه منها نحو عالم الحرية وفنه وإبداعاته وقلقه الوجودي وشفقته على الغير لا تسمح لنا أن نضعه في صنف الكائنات الأخرى كما فعل داروين والماديين، بل هو في منزلة بين المنزلتين فيه شيء من السماء وفيه شيء من الأرض.