رغم أنَّ كثيرًا من الأبحاث والدّراسات والكتب الَّتي تتحدَّث عن الحُكم الرَّشيد تحاول أن تُظهرَ هذا المفهوم في الثَّقافة الإسلاميّة وتتجوَّلَ بنا في النَّواحي التي تتعلَّق به، إلا أنَّ الإطارَ النّظريَّ الذي يُمكن أن يجعلَ من الحكم الرَّشيد أداةً حقيقيَّةً للحُكم وتَحقيقِ أهداف المجتمع التَّنموية ظلَّ غائبًا في كثيرٍ من هذه الأبحاث. 

   الحوكمة أو (الحُكم الرَّشيد) وسنستخدم المصطلحين بشكلٍ متبادلٍ وسنوضِّح فيما بعد الفرق بينهما يتعلَّق بصناعةِ القرار والسِّياسات والآلية التي يصنع بها القرار في دَولةٍ أو شركةٍ أو مؤسّسات ربحيَّة وغيرِ ربحية، وهو يتعلَّقُ بهذه الآليات وعلاقتِها بسلوك المؤسّسات المختلف أكثر من تركيزه على البناءِ لهذه المؤسّسات وتحديد الصَّلاحيَّات والإدارات القائمة فيها، فإنَّ العناصرَ المكوِّنةَ لنموذج الحُكم الرَّشيد وهي الهرمية والسّوق والشّبكة؛ مفاهيمُ تطورَّت من طبيعةِ المؤسّسات التي تصوَّرها ماكس ويبر وهي التي تتجاوز الانحيازاتِ المسبقة للعاملين في مؤسّسات الدّولة وصانعي القرار في المجالات كافَّة، قد أخذت أشكالًا أخرى ارتبط فيها القطاع الخاصُّ بالعامِّ عبر مجموعةِ العلاقات التَّعاقديَّة التي أعادت للأذهان فكرَ السّوق والعقلانية التي تحكم الإنفاق في مجموع مؤسّسات الدّولة، ثُمَّ انتشرتْ أفكارٌ أخرى للشَّبكة التي تربط مجموع مؤسّسات الدّولة ممَّا اقتضى الحديث عن المُساءلة والشَّفافية ومحاربة الفساد؛ لأنَّ العلاقات التي تنشأ أُفقيًّا تعبِّرُ عن رأس مالٍ مجتمعيٍّ يتعزَّز بالثِّقة.

 لذا فإنَّ هذه الثِّقة تقتضي مزيدًا من فهم آليات الرَّقابة والمحاسبة في المجالات والمتسويات كافَّة، ونعني بالمؤسّسات هنا الشَّركات المحليَّة والشَّركات الكبرى والمؤسّسات الحكوميَّة والحكومات والمنظَّمات العالميَّة والعولمة بوصفها ظاهرةً اقتصاديَّة، كلّها تحتاج إلى ترشيد قراراتها عبر حُكمٍ رشيد يُرسِّخ المؤسّسات بقراراتٍ تُعبِّر عَن تسلسلٍ طبيعيٍّ دَاخلَ هذه المؤسّسات، وعن حسابٍ حقيقيٍّ للمفاسدِ والمصالحِ وفي المدى البعيدِ تعزيز للتَّعأو ن بين أبناء المجتمع. 

   لكنَّ تعريفَ الحُكم الرَّشيد قد تَدرَّجَ بين مَن يحاول أن يجعله جزءً من مفاهيم الحداثة الغربيَّة كالدّيمقراطيّة والعلمانيَّة والرأسماليَّة ومَن يرى أنَّ الحكم الرَّشيد هو نموذجٌ منافِسٌ لنموذجٍ سائد هو النَّموذج الغربي؛ لذا فإنَّ نموذجَ الحُكم الرَّشيد نموذجٌ جاء في سياق أزماتٍ شهدها العالمُ.. كأزمةِ الحكومات والدُّول والعولمةوالبيئة وهو نموذجٌ له قواعدُه الفكريَّة التي قد تتعارض مع النَّموذج الغربي السَّائد.

 الحكمُ الرَّشيد نموذجٌ معرِفيٌّ أكثر من كونه أداةً من أدوات الحكم، لذا فإنَّ الجوانب الموضوعيَّةَ التي يُمكن من خلالها دراسة الحكم الرَّشيد تتعلَّق بمجموعةِ مسلَّمات هي التي جعلت هذا المفهوم ينتشرُ بعد سقوط الاتِّحاد السُّوفياتي في كثيرٍ من الأدبيَّات التي حاولت أن تنظرَ لمسألة الحُكم والتّنمية بمقاربةٍ مُخالِفةٍ للمقاربة التي سادت في القرن العشرين، خصوصًا في الصِّراع بين الرَّأسماليَّة والاشتراكيَّة؛ ومع تطوُّر مفهوم الدّراسات المقارنة (تلك الدّراسات الفلسفيَّة التي تحاول أن تفسِّر هذا التفاوت في مستوى التّنمية بين دول العالم) بعد أن عجزت الرَّأسماليَّة أو الاشتراكيَّة عن تفسير هذا التفاوت، وإنَّ كثيرًا من الدُّول المتخلِّفة اقتصاديًّا قد تكون في مقدِّمة الدُّول الدّيمقراطيّة، بينما دولٌ أخرى تميل نحو الحكم الجبري قد حقَّقت مستوياتٍ متقدّمةً في مؤشّرات التّنمية.

   الحكم الرَّشيد نموذجٌ متكاملٌ لتفسير ظاهرة التفاوت التَّنمويّ لذا فإنَّ الحديث عن منظورٍ إسلاميٍّ للحُكم الرَّشيد لا يعني استخدام الأدوات الفقهيَّة لإثبات وجود هذا المفهوم في الفكر الإسلاميّ، بل يعني اكتشاف الإنجاز الحضاريّ الإسلاميّ الذي يُعطي تعدُّدًا لهذا المفهوم الذي بدأ يأخذ مكانه في كثيرٍ من العلوم الإنسانيَّة؛ في الأنثروبولوجيا والعلوم السِّياسية والاقتصاد وعلم الاجتماع والإدارة وعلوم الإحسان Science of Improvement أو الجودة. 

   أهميَّة الحكم الرَّشيد في هذه المرحلة الانتقاليَّة التي تمرُّ بها منطقتنا العربيَّة والإسلاميّة، ويشهدُ فيها العالم تحوُّلًا كبيرًا؛ تأتي في سياق البحث عن نظامٍ عالميٍّ أكثر عدلًا يمكن أن يتوافق مع الحضارة الكونية وثورة الاتِّصالات التي نعيشها، فطبقًا لنظريَّة التَّغير العظيم لمجموعة السيناريو العالمي، فإنَّ الحوكمة أو الحكم الرَّشيد ضرورةٌ من ضرورات التحوُّل العظيم والانطلاق من النَّمطية التي صبغت بها الحداثة النِّظام العالميَّ، فضلًا عن الخروج من حالة التَّخلف التي تعيشها كثيرٌ من دول العالم؛ فاستغلال الموارد لحلِّ إشكالاتٍ بيئيَّةٍ وتنمويَّةٍ متمثِّلةٍ فِي التفاوت بين الأمم والشُّعوب في مستوى الدَّخل ومستوى التَّعليم، يطرح سؤالًا هامًّا بشأن جدوى النِّظام العالمي وقدرته على قيادة العالم، وهذا لن يتأتَّى إلا بإدارة وحدات المؤسَّسة لهذا النِّظام العالمي؛ وهي الدُّول، خصوصًا في المناطق الَّتي تشهد صراعات وتحوُّلات في النِّظام السِّياسي أو حالة من ترهُّل المؤسّسات الحكوميَّة أو هشاشتها.

   في العالم الإسلامي تزداد أهميَّةُ الحكم الرَّشيد؛ فتفسير التَّدهور الذي شهدته الأمَّةُ الإسلاميّة منذ سقوط الدّولة العثمانية قد خضع لتجاذباتٍ أيديولوجيَّة، غاب الاهتمام بالبُعد المؤسَّسي لفهم حركة التَّاريخ، وتقدَّم سؤال الهو ية والنِّظام بوصفه سؤالًا محوريًّا، رغم أنَّ الدُّول العربيَّة التي نالت استقلالها بعد مرحلة كفاحٍ ضدَّ الاستعمارِ؛ لم تصنعْ أيَّ نموذج لإدارةٍ منفتحةٍ تُفعِّل موارد هذه الدُّول أو بناء نُظُم اقتصاديَّة وتنموية يمكن أن تُسهم في تطوير أجهزة الدّولة ونظم الحوكمة في المؤسّسات والقطاعات المختلفة؛ لذا كان تقرير التّنمية البشريَّة الصَّادر في مطلع القرن الحادي والعشرين، وأظهر حجم الفشل في إدارة الدُّول العربيَّة بمثابة أزمة تقتضي البحث عن نموذجٍ بديلٍ لإدارة الدُّول العربيَّة، وسرعان ماتوجَّه التَّفكير إلى الدّيمقراطيّة وكُتبت مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ عن الدّيمقراطيّة، وبدأ السُّؤال عن مدى توافق الدّيمقراطيّة مع الإسلام، وما إن لحق العالم الإسلاميّ بقطار الدّيمقراطيّة الذي افترضه فوكوياما في مقاله الشَّهير (نهاية التَّاريخ)، بعد أن انتشرت ثورات الرَّبيع العربي، حتَّى بدأت إشكالاتٌ أعمقُ من النِّظام السِّياسي، وسؤال من يحكم ؟ تظهر في دول الربيع العربي، هذه الإشكالات أعادت للأذهان العلاقة بين الثَّبات المؤسَّسي لأجهزة الدّولة وانتشار العنف، فليس مصادفة أنَّ أغلب الدُّول التي شهدت احترابًا داخليًّا هي في ذيل القائمة في مؤشّر الحوكمة. 

لذا فإنَّ وضع الحكم الرَّشيد في سياق تكوين الدّولة العربيَّة، من خلال إبراز العلاقة بين السُّلطة بوصفها ظاهرةً تارخيَّةً، والدّيمقراطيّة بوصفها نِظامًا سياسيًّا وبناء الدّولة قد يجعل الحكم الرَّشيد أنموذجًا معرفيًّا يصلح أن تُبنى له مجموعة مؤشّرات تعبِّر عن استقرار النِّظام السِّياسي كما هو مؤشّر الحوكمة لصندوق النّقد الدّولي.

   يهدف هذا البحث إلى:

  • وضع الحكم الرَّشيد في سياق النّظريّة السِّياسية وتطوُّر الفكر السِّياسي من خلال عرض أبرز الازمات التي حفزت المنظرين للبحث عن نموذج تفسيري أخر.
  • التَّمييز بين ظواهر ومفاهيم سياسيَّة؛ كالحكم الرَّشيد وعلاقته بالدّيمقراطيّة والعلمانيَّة والحداثة وتفكيك العلاقة بينها في إطار دينامية تكوين الدّولة واستقراراها.
  • فهم المسلَّمات التي يُمكن تطويرُها لصياغة نظريةٍ لمفهوم الحُكم الرَّشيد في عالمنا العربي والإسلامي.

   الإشكاليَّة التي يعالجها هذا البحث تكمن في أنَّ الحديث عن الدّيمقراطيّة والحكم الرَّشيد جعلهما مترادفين، ولم تصنع الأمَّة نموذجًا معرفيًّا يمكن أن تتمايز معه هذه المسلَّمات؛ كالقول بأنَّ الدّيمقراطيّة والحكم الرَّشيد صنوان، أو يفسِّر العنف السِّياسي على أنَّه صراعٌ أيديولوجيٌّ بشأن الهو يَّة…

 لذا سنحاول أن نناقش هذه المسلَّمات للوصولِ إلى مقاربةٍ مغايرة في الحكم الرَّشيد وفق أدبيات الأمَّة الإسلاميّة وثقافتها على الأقل في إطار المفاهيم الأساسيَّة التي لم نضع لها منظورًا يمكِّننا من فهم النّظريّة السِّياسية في الإسلام، بل كان التّصور لغياب نظريَّةٍ سياسيَّةٍ محددة لتدأول السُّلطة، وكأنما هو اعترافٌ بغياب نظريَّةٍ سياسيَّة، مع أنَّ المسلَّمات التي يمكنها أن تكون نواةً لهذه النّظريّة ظاهرةٌ في التُّراث الثَّقافي للحضارة الإسلاميّة، لذا فإنَّ هذا المبحث يعالج الإطار النّظري للحكم الرَّشيد ليميِّز المسلَّمات التي يمكن أن تكون أنموذجًا لدراسة الحكم الرَّشيد وفق مقاربةٍ ثقافيَّةٍ مغايرة، وإنَّ محاولة إبراز العناصر الأساسيَّة للحكم الرَّشيد من خلال مقارنته بالنّظريّات المؤسَّسة لهذا المفهوم وبالتُّراث الذي بين أيدينا عن العدل والرُّشد قد يكون مقدمةً لبناء أنموذجٍ للحكم في الفكرِ الإسلامي. 

   هذا الموضوع شغل الباحث من خلال مطالعاتٍ عدَّة في هذ المجال جاءت في إطار بحثٍ أو سع عن نموذجٍ معرفيٍّ يُمكن أن يُسهم في تفسير الفاعل السِّياسي في العالم الإسلاميِّ وتوجيهه، فإنَّ البحث في مرحلة من مراحله التي يفسِّر بها ظاهرة ما يترقَّب توجيه صُنَّاع القرار بطريقتين: الأولى تتعلَّق بالسّلطات الحاكمة حين ترغب في صناعة معرفةٍ تؤكد شرعية حكمها، والثانية تتعلَّق بقُدرة هذه النّماذج على التَّوقع، ونجاحها هو الذي يُدخلها في تغذيةٍ راجعةٍ تؤكِّد قدرة العلم على صناعة القرار الرَّشيد الَّذي يتوقَّع الصَّدر قبل العجز، ويتَّقي المخاطر قبل أن تقع، وهذا عين الرُّشد في صناعة القرارات. 

كما أنَّ هذا البحث مساهمةٌ في إنجاح هذا المشروع البحثيِّ المهمِّ الَّذي قدَّمه منتدى كوالا لامبور للفكر، وجائزة مهاتي محمد لأفضل بحثٍ في هذا المجال(الحكم الرَّشيد).

   مراجع كثيرةٌ تحدَّثت عن الحكم الرَّشيد وبناء الدّولة، خصوصًا في فهم تطوُّر النِّظام السِّياسية (المدخل التطوري)، لكن العلاقة بين الدّيمقراطيّة والحكم الرَّشيد لم تخضع لكثيرٍ من البحث، هناك عدَّة أعمال رائدة يمكن أن نشير إليها قد استفدنا منها في هذا البحث؛ منها ما كتب صموئيل هنتجتون؛ (وهو من المنظِّرين الأمريكيين المشهورين)، وذلك في كتابه: النِّظام السِّياسي في المراحل الانتقالية، الذي صدر عام 1968م، وكتاب (بناء الدّولة والحوكمة في القرن الحادي والعشرين)، لفرانسيس فوكوياما المفكِّر الأمريكي من أصل ياباني، وهي الدّراسة الَّتي تغيَّرت فيها بعض أفكاره عن مقاله :نهاية التَّاريخ، وظهر له أهميّة الحكم الرَّشيد شرطًا أساسيًّا لقيام الدّيمقراطيّة، هذا العمل تطوَّر في عملٍ مهمٍ آخر صدر أخيرًا استفاد الباحث منه كثيرًا وهو أصل: النِّظام السِّياسي وتدهو ر النِّظام، وهو كتابٌ ضخمٌ من جزئين، حاول أن يحذو فيه حذو أستاذه هنتجتون، والعمل الذي يمكن أن يكون نظريةً متماسكة قُدِّمت في هذا المجال هو دراسةٌ صدرت تحت عنوان: لماذا تسقط الأمم؟ للعالم التركي من أصل أمريكي دارون اجيم أوغلو، وهي بمثابة ثورةٍ في فلسفة التَّاريخ؛ لأنَّها وضعت المدخل المقارن في سياقٍ تاريخيٍّ، وبيَّنت أهميَّة المؤسّسات، كما عنون الكاتب الفصل: المؤسّسات المؤسّسات المؤسّسات... بهذا التَّأكيد. 

   مارك بارڤي الباحث في مركز الدّراسات البريطانية في كاليفورنيا أصدر كُتبًا عدَّة عن الحكم الرَّشيد؛ منها كتابه ضمن سلسلة مداخل أصدرتها جامعة أكسفورد عن الحكم الرَّشيد، غير أنَّ الكتاب الذي كان في صُلب سياق البحث هو ما كتبه عن الحوكمة الدّيمقراطيّة، وناقش فيه التَّقاطعات وتأثير نموذج الحوكمة على نموذج الحداثة الغربي؛ فإنَّ كثيرًا من الدّراسات التي سنذكرُ بعضها تعاطت مع الحكم الرَّشيد في البداية، بوصفه وسيلةً من التَّعامل مع الدُّول النَّامية، وإنَّ هذه الدُّول يجب أن تتحلى بالرشد في استقبال الهبات والمساعدات التي تقدّم لها، خصوصًا في مناطق النِّزاع التي صارت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة مسؤولة عنها بعد سقوط الاتِّحاد السوفياتي وتولّيها قيادة العالم، لذا كما سيأتي كان الخوفُ من أن يدخل الحكم الرَّشيد بوصفه قيمًا عامَّةً تتجاوز النّظريّات التَّقليديَّة التي تحميها القوى العظمى عن المسلَّمات التي انتشرت عن العلمانيَّة والدّيمقراطيّة والفردانيَّة والرَّأسماليَّة، هذه المفردات وجدت منافسة في تجارب ناجحة جعلت فكرة التَّمثيل النِّيابي تسلم الأمر للعقلانيَّة ومنطق السّوق في تعامل الدّولة، ثمَّ انتهى الأمر إلى فهم العلاقات الاجتماعيَّة ممَّا اقتضى الأمر استدعاء قيمٍ غريبة عن النّماذج الغربية، كالثِّقة والتَّجانس والتّوافق إلى الحب والصِّدق والعفَّة كما سنذكر كتابًا مهمًّا لفوكوياما تحت عنوان: الثِّقة (1995).

   هذه الدّراسات تضمَّنت مجموعة دراساتٍ بحثت فيها، وأخرج الباحث المباحث الأساسيَّة فيها، وأحيانًا ذكرها في المتن، أو أشار إلى اسم الباحث والسَّنة، وفي بعض الأحيان يذكر الكتاب وما تضمَّنه من بحوثٍ، ولعلَّ أهمَّ مصدرٍ لدراسة الدُّول العربيَّة وتكوّنها ما نُشر للمؤلِّف غسان سلامة؛ وهو الكتاب الذي أُعيد نشرُه بعد الرَّبيع العربي، وضمَّ دراسات عميقة عن الدّولة العربيَّة لكُتَّاب مرموقين، اقتضى الأمر كذلك دراسة كثيرٍ من المؤشّرات التي حاول البحث أن يقدِّمها في سياقٍ فكريٍّ أكثر من الحديث عن إحصاءاتٍ قد تحجب عن القارئ الفكرة الرَّئيسة. 

   في فصلٍ من هذا البحث؛ وهو العلاقة بين الدِّين والحكم الرَّشيد استفاد الباحث من كتاب الدكتور شندرامظفر المفكِّر والأكاديمي الماليزي عن الحكم الرَّشيد والدِّين، وهو الكتاب الَّذي جمع فيه المؤلِّف مجموعة دراسات عن الأديان المختلفة ومنظورها للحكم الرَّشيد، ما سمَّاه الدّراسات السَّبع، وجمع فيها تقريبًا كلَّ المذاهب والأديان ومن كُتَّاب متخصصين في هذه المجالات، واستفدتُ كذلك من كتاب لهنت بيكر وهو يعدُّ المفكِّر الأشهر عالميًا خصوصًا في كتابه: (نهاية العلمانية) الذي أثار جدلًا واسعًا في الأو ساط الأكاديميَّة، ومن أبرز الأفكار التي يعرضها أستاذنا الدكتور سيف عبد الفتاح وغيره عن وجود سلطات تقف وراء المعارف التي تنتشر في العالم العربيِّ والإسلامي، وهذا ما ذكره الكاتب في نقده لأفكارٍ تتعلَّق بعلاقة العلم والدين.   

   تقارير دوليَّة وكتب عربيَّة أخرى استفدت منها بفهم سياق تكوين الدُّول العربيَّة ومؤشّراتها في الحكم الرَّشيد، ذُكرت أثناء البحث. في ملاحق البحث، وضع الباحث أهم التعريفات المتعلقة بالبحث؛ فمجال الحكم الرَّشيد مجال واسع جدًا حتى إنَّ مؤسَّسة روتليدج العريقة أفردت كتابًا ضخمًا تحت عنوان قاموس الحكم الرَّشيد.

   نظرًا للتَّداخُّل بين موضوعات هذا البحث، كان لابُدَّ من التَّحليل والتَّفكيك لكثيرٍ من المفاهيم ثُمَّ تركيبها وصياغة مركبٍ كُليٍّ قد يُعطي مفهوم الحكم الرَّشيد - وقدرة المؤسّسات الحكوميَّة وغير الحكوميَّة على صناعة قرارات رشيدة - قدرةً تفسيريَّةً عاليَّة، فَإنَّ غياب مؤسّسات الدّولة قد تكون سببًا للعُنف السِّياسي بمظاهره المختلفة؛ كالانقلابات والثورات والثورات المضادة والاحتراب الدَّاخليّ، وقد تكون سببًا في تخلُّف بعض الدُّول وسقوط الأمم وخراب الأوطان. 

وَلا يمكن العمل في هذا المنهج التحليليِّ دون عرضٍ تاريخيٍّ يُبرز تسلسل الأفكار والأزمات الفكريَّة والسِّياسية التي تطورَّت من خلالها نظريات الحكم الرَّشيد، فدونَ فهم هذا البناء والخلفيَّة التَّاريخيَّة لا يمكننا وضع مقاربة لها علاقة بواقعنا وثقافتنا العربيَّة والإسلاميّة. 

   أدواتٌ كثيرة قد تساعدنا على فهم الحكم الرَّشيد ومجالاته؛ عبر فهم التحوّلات التَّاريخيَّة التي جعلت هذا النَّموذج يأخذ مكانه في المجتمع العلمي، أو من خلال تفكيك هذا النَّموذج للعناصر التي تشكَّل منها، من خلال تجارب التَّحوُّل في التَّاريخ الحديث أو المفاهيم التي تطوَّرت عبر الأزمات التي أظهرت عجز النّماذج التَّفسيريَّة التي سادت في القرن العشرين، خصوصًا مفهوم الحداثة وعلاقته بالتحوُّلات المجتمعيَّة، ونظريَّة التَّطور وعلاقتها بالنّظريّة السِّياسية والاجتماعيَّة، فعرض هذه النّظريّات وأهم فرضيَّاتها يعني القدرة على فهم البناء الكليِّ لتطوّر مفهوم الحكم الرَّشيد، وهذا هو المنهج التحليليّ الذي نعنيه في هذا السّياق.

   لعرض كل هذه المفاهيم عبر هذه الأدوات التحليليَّة والتَّاريخيَّة فَإنَّ الفصل الأول من هذا البحث سيضع إطارًا معرفيًّا لأهمِّ المفاهيم المستخدمة في أدبيَّات الحُكم الرَّشيد ونظريَّة تكوين الدّولة والمراحل الانتقاليَّة، وفي هذا المدخل التَّعريفيِّ سيبرز النَّمط الذي سيتكرَّر معنا في كلِّ فصلٍ من فصولٍ هذا البحث؛ وهو أنَّ الحوكمة نموذجٌ جديدٌ يدخل في مجالات عدَّة، ويمكن أن يكون أداةً لتوقُّع المستقبل في كثيرٍ من المجالات.

   في الفصل الثَّاني كان الحديث عن العلاقة بين الدّيمقراطيّة والحكم الرَّشيد، وقدمت مقاربتَين: الأولى تتعلَّق بأهمَّ الدّراسات التجريبيَّة في هذا المجال.والثَّانية مقاربة تاريخيَّة تعرَّضت لتكوين بناء مؤسّسات الدّولة، وعلاقتها بتاريخ تلك الدُّول ونظرتها للحكم الرَّشيد.

    وإنَّ بناء الدُّول والمؤسّسات لا يمكن أن يأخذ منحنى خطيًّا يمكن تطبيق بوصفه نسخةً جاهزةً في كلِّ دولةٍ من دول العالم، بل إنَّ نماذج مختلفة تجعل تعدُّد النّماذج هو المسار الذي يتَّجه إليه العالم وهو سرُّ التَّدافع الأيدويولجي الذي نراه في مؤسّسات الدّولة الوطنيَّة والمؤسّسات الدّولية.

   في الفصل الثّالث نتعرَّض لعلاقة الحكم الرَّشيد بالعلمانيَّة، وكيف أنَّ الحكم الرَّشيد جاء استجابةً للأزمة التي تعيشها العلمانيَّة، وقدَّم قدرتها على تحقيق السِّلم المجتمعيِّ بعد أن صارت التَّعدديَّة الثَّقافيَّة هي الأساس الذي تُبنى عليه المُجتمعات في ظلِّ ثورة الاتِّصالات التي نعيشُها؛ لذا يحاول هذا الفصل أن يجمعَ تطوُّر هَذا المفهوم والكيفيَّة التي استطاع بها فكر الأنوار أن يُدافع عن العلمانية بوصفها مُسلَّمةً لا يمكن تصوُّر النجاح والاستقرار دونها.

   في الفصل الرَّابع الأخير كان الحديثُ عن علاقةِ الحكم الرَّشيد والحداثة وعن كون الحكم الرَّشيد نموذجًا يمكن أن يُطوَّر ليُصبح أداةً تفسيريَّةً قادرةً على الاستجابة للسِّياق العربيِّ والإسلامي، وعن نمذجة الواقع العربي وبناء المؤشّرات التي يُمكن من خلالها إقناع صُانَّع القرار بأنَّ بناء موشراتٍ خاصَّة بمسار هذه الدُّول، وتنتمي لثقافتها، وهذ الذي يخلقُ الثقةَ الحقيقيَّةَ بينَ الحركاتِ الاجتماعيَّةِ والنُّظم الحاكمة، وهذا ما يضع السّياق الطَّبيعي للمعارضة الإيجابيَّة، ويُبعد شبح الشِّقاق والنِّزاع والحرب الأهلية الدَّائرة في كثيرٍ من الدُّول التي فقدتْ بوصلة الحكم الرَّشيد.