مارس رسول الله مهام ترتبط بالقيادة السياسية إضافة إلى مهام النبوة والرسالة التي كرس نفسه لنشرها وإرساء قيمها، وعلى الرغم من اعتماده مبدأ الشورى في علاقاته السياسية، وبالنظر إلى أن الصحابة أخضعوا معظم قراراته إلى المساءلة، فإن جانب المسؤولية والمساءلة في الرؤية الرسالية تظهر بصورة أوضح في سلوك القيادة السياسية خلال الفترة التي تعارف المؤرخون على نعتها بصفة الخلافة الراشدة.

أبو بكر الصديق الذي اختير لخلافة رسول الله في قيادة المجتمع السياسي الناهض من خلال مداولات شورية، أكد بوضوح طبيعة المنصب السياسي الذي تسلمه وخضوعه لمبدأ المساءلة. يروي ابن هشام في سيرته أن أبا بكر الصديق توجه إلى المسلمين في المدينة عقب مبايعته بالخلافة:

فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال:

"أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعینوني؛ وإن أسات فقوموني؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطیعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم." (1)

هذا الكلام يتضمن تأكيدة واضحة أن الجيل المؤسس الذي ترجم مبادئ الوحي والتنزيل إلى ممارسات عملية كان يؤمن بالطبيعة الزمنية للسلطة السياسية كما أوضح الصديق آنفة. 

فهو يؤكد في عباراته أنه تولى منصب خلافة رسول الله في قيادة المجتمع السياسي، لا لأسباب تتعلق بانفراده بالفضل بين الناس، بل لأن الاختبار قد وقع عليه في سقيفة بني ساعدة، ولأنه فرد من أفراد المجتمع السياسي فهو خاضع للمساءلة ومسؤول أمام أفراد المجتمع الذي اختاره عن كل قراراته وتصرفاته السياسية.

المساءلة أمام الأمة تحولت إلى مبدأ أساس خلال الخلافة الراشدة ومورست بصورة عفوية، نراها بوضوح في مساءلة أبي بكر الصديق من قادة الصحابة حول قراره في الدخول في حرب مع القبائل المرتدة. ونجدها تمارس في اعتراض المرأة المخزومية على قرار عمر بن الخطاب في تحديد المهور. هذا الاعتراض الذي تلقاه الخليفة من دون تذمر خلال خطابه إلى أهل المدينة صدر عن امرأة شعرت بأن الخليفة تجاوز في قراره حقة مؤكدة في كتاب الله، فما كان منه أمام الدليل الواضح على خطئه في القرار إلا أن تراجع عن قراره.

المساءلة لم تأخذ صفة مؤسسية كما هي الحال في كثير من الممارسات السياسية خلال الخلافة الراشدة نظرة إلى اعتماد الخلفاء على الأعراف والبنى القبلية في مسائل التشاور والمساءلة، بل إن تمایز الوظائف التنفيذية والتشريعية والقضائية لم يأخذ بعدة واضحة إلا في القرون التالية مع استقلال مهام التشريع عن ممارسات السلطة التنفيذية في العصر العباسي؛ لذلك يمكننا القول إن المفاضلة بين السلطة التنفيذية الأمراء والسلطة التشريعية

المجتمع المدني والعلماء والسلطة القضائية (الفقهاء والقضاة) بدأ في العهد الراشدي ولكنه لم يكتمل إلا في العهد العباسي.

الخلافة الراشدة لم تلبث أن تحولت إلى خلافة سلطانية قامت على اعتماد قوة السلاطين الذين تمكنوا من الاستيلاء على السلطة في مناطقهم، وطور فقهاء السياسة في العصر العباسي مبادئ الحكم السلطاني على أسس ثلاثة:

  1. اعتبار الخلافة عقدة قائمة على اختيار وبيعة، والتشديد على أن أصل العقد القبول.
  2. ربط الشرعية السياسية بإنفاذ حكم القانون أو الشريعة الإسلامية .
  3. إخراج وظائف التشريع من دائرة الدولة السلطان (وحصرها في الأمة العلماء).

فالفصل الأول من كتاب الأحكام السلطانية للماوردي الذي لخص النظرية السياسية التقليدية يحمل عنوان "في عقد الإمامة"، يقدم السلطة السياسية على أنها عقد بين الحاكم والأمة أو ممثليهم، أهل الحل والعقد، المخولين بالدخول في عقد اجتماعي والذين يستمدون لقبهم من هذا العقد.

يقول الماوردي:"الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع". (2) 

وهي عقد اختیار، "فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلا وأكملهم شروطأ ومن يسرع الناس إلى طاعنه ولا يتوقفون عن بيعته. فإذا تعين لهم إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة فلزم كافة الأمة الدخول في بيعنه والانقياد لطاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها لأنها عرض مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار".

إذن، فكرة قيام عقد اجتماعي بين السلطة التنفيذية والأمة التي روج لها مفکرو حركة الأنوار الغربية تعود بجذورها إلى حركة الأنوار الشرقية التي أخضعت الزمني للمعياري كما لاحظ أهم مفکري حركة الأنوار الغربية، هيغل كما بينا آنفا. 

وكما كانت حركة الأنوار التي أعلنتها الرسالة الإسلامية سباقة إلى تحقيق تصالح بين الزمني والمعياري کانت كذلك سباقة إلى تأسیس مجتمع سياسي يقوم على مبدأ التعاقد بين المجتمع السياسي والدولة.

بيد أن الماوردي، ومن سبقه ولحقه من أعلام المدرسة الأشعرية التي طورت مفهوم العقد بين الإمام والأمة، لم يتمكن من تطوير الرؤى النظرية أو الخطط العملية لحماية العقد من استغلال السلطة السياسية، بل أسس لدولة سلطانية منحت الشرعية لأصحاب الطموح والقوة العسكرية للاستيلاء على السلطة من خلال شرعنة إمارة التغلب أو الاستيلاء. 

المساومة الفكرية والسياسية التي شرع لها فقه الأحكام السلطانية يمكن تفهمها في سياق مجتمع لم يتمكن من تجاوز الروابط القبلية، وفي غياب الإمكانيات التواصلية والوعي السياسي الضروري لإقامة مجتمع المشاركة السياسية والمساءلة الفاعلة.

التباين بين التطور التقني والامتداد الجغرافي أسهم في إبقاء السلطة السياسية المركزية عصية على مفهومي المشاركة الشعبية الحقيقية في اختيار السلطان ومساءلته، وشكّل ذلك المعضلة التي واجهت كل المجتمعات السياسية التاريخية، حتى المجتمعات التي عرفت بعض المؤسسات الشورية في سياق الدولة - المدينة، كالإغريق والرومان، فقد أدى تحول أثينا إلى إمبراطورية ممتدة إلى إنهاء الممارسة الديمقراطية، وهو ما حصل لاحقا لدولة روما بعد توسعها وتحولها إلى إمبراطورية ممتدة الأرجاء.

وبالتالي لم تستطع دولة المدينة التي حافظت على تقاليد الرسالة تحت قيادة الخلفاء الراشدين أن تستمر مع التوسع الجغرافي الكبير الذي تحقق عبر الفتوحات في العراق والشام وخراسان واليمن وشمال أفريقيا خلال ولاية الخليفتين الراشدين الثاني والثالث، وبعد انتقال مركز الإدارة من المدينة إلى الكوفة ودمشق اللتين خضعتا للثقافة السياسية التي مثلت امتدادا للثقافة السياسية الفارسية والبيزنطية.