يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة: "إن المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب" ومن أبرز مظاهر تقليدنا للغرب التقليد في مجال العمارة والتصميم الحضري والذي طغى على العمارة الإسلامية وحصرها في المباني التاريخية، وبالتالي لم يعد لها امتداد أو وجود في غالبية المدن العربية والإسلامية، ولذلك نحن بحاجة ماسة لإعادة الاعتبار للعمارة والتصميم الحضري الإسلامي، ووقف التقليد الغربي في هذين المجالين لأنهما لا يتناسبان مع طبيعة وخصوصية البلدان العربية والإسلامية.

المسجد بين المركزية والتهميش

أذكر أنني مررت أثناء سفري بمطار يُعد من أكبر المطارات في المنطقة العربية، فوجدت ضغطًا وزحامًا شديدا على المصلى الذي لا يتسع إلا لبضعة أفراد في مطار يعج بملايين المسافرين سنويًا، وقد خُصصت له مساحة مهملة في مبنى المطار الضخم يبدو أن إدارة المطار لم تتمكن من الاستفادة منها فخصصتها للمصلى!

ومن مظاهر القبح وتهميش المسجد مجاورة برج ضخم ذي طابع غربي للكعبة وبيت الله الحرام، وقد رأيت بعيني أناسًا حول الكعبة وهم يلتقطون صورًا لهذا البرج! 

والمسجد له خصوصيته ومركزيته في المدينة الإسلامية، والدليل على ذلك أن أول ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، هو بناء المسجد الجامع، وتلا ذلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ووضع أسس التعايش من خلال كتابة الصحيفة (وثيقة المدينة) التي تحدد طبيعة العلاقة بين مكونات مجتمع المدينة الذي يضم المسلمين واليهود.

والمسجد الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة لم يكن للصلاة فقط، فقد كان مقرًا لجمع الزكاة والصدقات وتوزيعها على المستحقين لها، وكان مدرسة وجامعة لنشر العلم، وكان مقرًا للدعوة واستقبال الوفود، وكان ساحة الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل.

والمسلمون اليوم بحاجة إلى استعادة الدور الحيوي والمحوري الذي كان يقوم به المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن تبعهم، فالمسجد ينبغي أن يكون -بالإضافة لكونه مكانًا لأداء الصلوات- مركز تربية وتعليم، ومركز توعية وتثقيف، ومركز إشعاع حضاري، ومكانًا يجذب الأطفال والشباب ويتعلمون فيه الأحكام الشرعية والآداب والقيم الإسلامية، والمثل العثماني يقول:

"إذا لم تُسمع أصوات الأطفال في الصفوف الخلفية في المساجد، فعلينا أن نقلق على الأجيال القادمة".

وبعد بناء المسجد كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإنشاء سوق خاص بالمسلمين يلبي احتياجاتهم اليومية في إشارة إلى أهمية الجانب الاقتصادي والحرص على توفير احتياجات سكان المدينة، وتخليصهم من التبعية الاقتصادية لليهود، ومن شرور التعامل بالربا، يقول الله عز وجل:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة البقرة: 275. 

 

مراعاة الجمال والخصوصية

المتأمل في شكل المنجزات المادية التي أنجزتها الحضارة الغربية ويعيش العالم في ظلها اليوم، يلحظ غياب الجمال وغلبة القبح على المنشآت المعمارية على تعدد أغراضها واستخداماتها، فالاهتمام منصب على استغلال المساحات، وعلى استيعاب أكبر قدر من البشر في مكان واحد، دون مراعاة للبعد الجمالي أو للخصوصية، ومظاهر الحضارة المادية المعاصرة نجدها متمثلة وبجلاء في الطوب والقوالب الإسمنتية والألواح الزجاجية التي تغطي واجهات المباني والأبراج.

وفي المقابل نجد مراعاة الحضارة الإسلامية للبعد الجمالي، وقد تمثل ذلك في استخدام الزخارف النباتية والأشكال الهندسية، والابتعاد عن نحت التماثيل وتصوير الآدميين الذي اشتهرت به الحضارة الرومانية.

ونجد كذلك مراعاة الحضارة الإسلامية للخصوصية وكل ما يحافظ عليها، فنجد الفناء المتمثل في المساحة التي تفصل البيت عن الباب الخارجي وعن الشارع والمعروفة بالحوش، ونجد المشربيات التي تحمي الخصوصية وتسمح بدخول الشمس والهواء للبيت، ونجد كذلك المجالس المخصصة لاستقبال الضيوف، والتي تكون عادة منفصلة عن البيت حفاظًا على الخصوصية.

والشريعة الإسلامية نهت عن التجسس والتلصص وتتبع عورات الآخرين، يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} سورة الحجرات: 12. 

جُحْرٍ في حُجَرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ به رَأْسَهُ، فَقالَ: لو أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ به في عَيْنِكَ، إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ". أخرجه البخاري: (6241)، ومسلم(2156) .

وفي هذا الحديث إشارة واضحة لعظم الجرم المتمثل في التلصص ومحاولة الاطلاع على عورات الآخرين.

ما الذي يوفره التصميم الحضري الإسلامي؟

السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان ويحتاج منا إلى إجابة هو: في ظل التطور الهائل الذي شهدته البشرية في جميع المجالات ومنها مجال العمارة والتصميم الحضري، ما الذي يمكن أن يوفره التصميم الحضري الإسلامي؟! 

والإجابة على هذا السؤال تتمثل في عدة أمور منها:

أولًا: التصميم الحضري الإسلامي يسمح بزيادة فرص التلاقي

بين أفراد المجتمع في عصر يغلب عليه الانعزال والتباعد الاجتماعي، وذلك من خلال الالتقاء في المسجد الذي يقع في وسط التجمعات السكنية ويؤدي أكثر من وظيفة، بالإضافة إلى وجود ساحات وحدائق حول المسجد مهيأة لجلوس العائلات ولعب الأطفال، وفي دول إسلامية مثل ماليزيا وتركيا توجد حدائق محيطة بالمسجد.

ثانيًا: التصميم الحضري الإسلامي سيُعيد الاعتبار لقيمة الجمال

في عصر ساد فيه القبح وبخاصة في تصاميم المباني على تنوعها واختلافها، ومن العناصر الجمالية في العمارة الإسلامية المآذن، والإيوان، والصحن، والقباب، والمقرنصات. 

ثالثًا: التصميم الحضري الإسلامي يحافظ على الخصوصية

المنتهكة في ظل التصاميم المعمارية الحالية التي تركز على الجوانب المادية واستغلال المساحات، وهدفها هو تحقيق الأرباح.

رابعًا: المحافظة على البيئة

من خلال استخدام العناصر الطبيعية في البناء، ومن خلال التصاميم والعناصر المعمارية التي تقلل من استخدام الطاقة صيفًا وشتاء مثل: الإيوان والملاقف والمشربيات.

وخلاصة القول إن مجال العمارة والتصميم الحضري الإسلامي يُعد من فروض الكفايات في هذا العصر، وينبغي العمل على إحيائه والاستفادة من التقنيات الحديثة في جعل التصميم الحضري الإسلامي بديلًا عن التصاميم الغربية التي لا تكترث بقيم المسلمين، ولا توفر الخصوصية، ولا تهتم بالجمال.