من أبو عبيدة ابن الجراح أمين الأمة ووالي الشام مرورا بالشيخ جراح الكردي طبيب صلاح الدين وأحد أمرائه تاريخ كبير من الجراح في مدينة القدس والمسجد الأقصى، فقد عاشت تلك المنطقة على امتداد قرون صراعات تاريخية كبرى نظرا لرمزيتها العقائدية عند كل الديانات السماوية دون أن ننسى البعد التاريخي والموقع الاستراتيجي الهام جدا والذي كان أحد الأسباب لتأجيج الصراعات والحروب عليها. 

تاريخ كبير من الجراح والحروب والدماء التي سالت ومازالت تسيل.. منطقة تعاقبت عليها الحضارات والديانات السماوية وكانت الفترة التي حكم فيها المسلمون من أحسن الحقبات التاريخية وذلك منذ بداية الفتح الإسلامي.   

الإسلام والرسالة الكونية التي زرعها عمر بن الخطاب في القدس 

 لقد سعى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تكون القدس أحد أهم الرسالات الكونية للإسلام في عصره عندما ذهب بنفسه لفتح بيت الأقصى والذي بقي محاصرا لبضعة أشهر من طرف المسلمين حتى وافق كبير بطارقتها صفرونيوس على الاستسلام بشرط تسليم المفاتيح لسيدنا عمر وكان ذلك سنة 16 هجري فعُقد الصلح والمسمى عندنا في التاريخ بالعهدة العمرية.  

 لقد أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تكون مدينة الأقصى رسالة كونية خالدة وصورة عالمية يقدمها في زمانه بل وحتى في زماننا، كون أن الإسلام قادر أن يتعايش في كنف من الاحترام مع كل الديانات السماوية جمعاء ويدير كل الخلافات؛ وجاء ليتمم تلك الديانات ولا يكره الناس خاصة النصارى وأهل الذمة على ترك دياناتهم بالقوة ويمنح الحريات الدينية وهو عكس ما يقوم به الصهاينة اليوم في الأقصى الشريف وقبلهم النصارى عند الحروب الصليبية قبل أن يحررها صلاح الدين الأيوبي.

كانت العهدة العمرية التي دخل المسلمون بها الأقصى بمثابة عهد الأمان مع غير المسلمين ويمكن أن نعتبرها مرجعية تاريخية كبرى، ربما أعظم حتى من ميثاق حقوق الإنسان والأمم المتحدة التي نعرفها اليوم. 

سيدنا عمر رضي الله عنه أعطى للمسيحيين في كل أصقاع الدولة الإسلامية وفي الأقصى بالتحديد حرية ممارسة ديانتهم وأمّنهم على كنائسهم وصلبانهم وممارسة معتقداتهم حتى أن هذه الحرية التي منحت لهم زمن الفتح الإسلامي لم يتمتع بها النصارى في بلاد الشام قبل ذلك، لقد كانت أغلب الكنائس في ذلك الوقت مثل القبطية والسريانية تتعارض وبشدة مع المسيحية البيزنطية التي معقلها القسطنطينية في ذلك الوقت، بل إن المسيحيين في أرض الشام ومدن كثيرة وحتى في مصر أيضا فرحوا واستبشروا بالفتح الإسلامي كمدينة حمص وغيرها من المدن ولم يقاوم كثيرمنهم المسلمين لأنهم كانوا يعيشون تحت تعسف وظلم الرومان البيزنطيين ووجدوا حريتهم أكثر عند الفتح الإسلامي خاصة عندما سماعهم بعدل الإسلام وقيمه التي جسدها الصحابة في ذلك الوقت.

النظرة الاستراتيجية لسيدنا عمر رضي الله عنه

طلب من سيدنا عمر عند دخول "إيلياء" القدس حالا بعد توقيع العهدة العمرية أن يصلي في كنيسة القيامة الموجودة ليومنا هذا فرفض ذلك وقال لو صليت فيها ربما يتخذها المسلمون من بعدي مسجدا فأراد سيدنا عمر المحافظة على التواجد المسيحي بل وحمايته وكان لهذا الأمر الحكيم الأثر الكبير. 

وها نحن اليوم كمسلمين نرى نتائج ذلك القرار والنظرة الاستشرافية للخليفة العادل عمر رضي الله عنه، فالنصارى في الأقصى وقف كثير منهم صفا إلى صف مع المسلمين ضد العدوان الصهيوني الأخير وتلك الاقتحامات المتكررة لساحات الأقصى واستبسلوا في الدفاع عن المسجد والقضية الفلسطينية حيث رأيناهم دروعا بشرية للمسلمين في رمضان عند صلاة التروايح الماضي، وحتى عندما منعت إسرائيل رفع آذان من المساجد بالقدس منذ فترة، رأينا كيف رفع النصارى الآذان من كنائسهم. 

لقد سمح سيدنا عمر لليهود بدخول القدس بعد أن منعوا من ذلك 400 سنة قبل الفتح الإسلامي، لم يدخلوها طيلة كل تلك الفترة إلا عند الحروب الفارسية البيزنطية ولفترة قصيرة جدا وتسببوا حينها في مجازر قُتل فيها عشرات الآلاف من سكان تلك المنطقة. 

بين رسالة الإسلام وعنصرية الصهاينة 

هذه الرسالة الكونية الخالدة التي يحملها الإسلام والمسلمون كان سيدنا عمر بن الخطاب أول من قام بتثبيتها وتركيزها، فقد أعطى الأمان للنصارى ومنحهم الحرية وأن يتحاكموا فيما بينهم بشرائعهم بل حتى أن اليهود كانوا ممنوعين من دخول القدس والأقصى زمن حكم البيزنطيين فسمح لهم بالدخول و ممارسة حرياتهم الدينية. 

أما اليوم عندما ضعف المسلمون وسيطر الصهاينة على الأقصى وفلسطين، هجّروا السكان الأصليين وارتكبوا المجازر وأسالوا الدماء بلا رأفة ولا هوادة لأكثر من ثلثي قرن كاملين.. مارسوا الاستيطان والعنصرية في أبهى تجلياتها، حتى رأينا مؤخرا كيف لقحت إسرائيل مواطنيها ولم يلقح العرب في الداخل الفلسطيني. هذه أحد أبرز التجليات التي تدل على أن الكيان الصهيوني يمارس أبشع صور التمييز والعنصرية وهي أحد المؤشرات الكثيرة والعديدة التي تدل على قرب انهياره بإذن الله تعالى.