منذ أن وعيت في أخريات ثمانينيات القرن الماضي، لم أكد أعرف القدس إلا في أناشيد أو أغنيات تتغزل بها أو تندبها، أو من خلال صور لقُبَّتها، أو خبر في نشرة عن انتهاك لحرمة مسجدها، أو مفاوضات بين أهلها وأعدائها... 

ودام ذلك الوعي زمانا، قبل أن يدب إلى مسامعي أنه كانت بها قبل عقد أو عقدين حروب ومعارك! نعم حروب ضد أعدائها. ولفرط عَجَبي واضطراب مشاعري، لم يحزني أنا قد هزمنا، فقد كان يكفيني أن أعلم أننا في يوم ما كنا نغضب، ونقدر أن نغضب...

ثم ألفنا أخبار القدس، ذكريات ومهرجانات وأحيانا مظاهرات وسهرات داعمة...حتى انتهت التسعينات. بدأت الألفية الثالثة فزاد الانشغال عن قدسنا بسلب غيرها من بلداننا، وما زال ذاك الانشغال حتى سمعنا الرضا بتقسيمها شرقية وغربية، ثم نقل السفارات السافرات إلى أراضيها غير مرحب بها ولا مرضية.

وَكَيفَ تَنامُ العَينُ مِلءَ جُفونِها ... عَلى هَفواتٍ أَيقَظَت كُل نائِمِ

و إِخوانُكُم بِالشامِ يُضحى مَقيلُهُم ... ظُهورَ المذاكي أَو بُطون القَشاعِمِ

ولا زالت العيون نائمة ملء جفونها حتى غشينا خبر البيعة لمغتصبيها فيما سموه تطبيعا. ولست أدري اشتقاق هذي الكليمة من استواء طبيعة أم من غلبة طبيعة على أخرى؟

هذا حالنا وهذا ما أرادونا أن نعرف عن القدس. ونأبى نحن إلا أن نعرف حقيقة قدسنا:

حقيقة القدس أن فيها مسجدا للمسلمين لا ككل مساجدهم، وهي كلها مقدسة معظمة، ولكن هذا اختص مع اثنين باستنان شد الرحال إليه، بل بمضاعفة أجر الصلوات، ثم هو مما ذكر في الآيات ونال شرف الذكر مع أشرف الخلق {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، بل وأي بل، هو مجمع الصفوة الأنبياء، ليس موطن نعلمه اجتمع فيه خير الخلق غيره، وصلوا ودعوا وبإمام الهدى اقتدوا، فلا تكاد تضع قدما فيه إلا وتوافق قدما منهم عليهم السلام. أوَ لسنا نصلي خلف المقام في المسجد الحرام؟ وهل المقام إلا موضع قدمي إبراهام عليه السلام؟ فكيف وقد وطئ إبراهيم خليل الرحمن تلك الأرضين؟ بل أليس يكفي أن وطئها خير المرسلين عليه صلوات رب العالمين؟

في القدس بيت مبارك وحوله البركات " {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وتدبر قول ربنا: "حوله"، ثم هاك بعض تلك البركات: "منها أن واضعه إبراهيم- عليه السلام-، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل، ثم بحلول الرسول عيسى- عليه السلام- وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله، ومنها بركة من دفن حوله من الأنبياء، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى. وأعظم تلك البركات حلول النبيء صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم." .

أفيطمعون بعد ذا أنا نسلمه؟ أنا نساومهم به؟ كلا والله ولو نطحوا حائط الهيكل حين صلوا وترنحوا.

حقيقة القدس يا مسلمين، أن في القدس رجالا لم يكتفوا بشد الرحال، بل قيدوا أرواحهم في أرضها بأغلال، وشرطوا عليها إما صلاة في مسجدها أو لحودا تحت ترابها. ألم يسأل الكليم موسى عليه السلام قبرا دانيا من أرضها؟

حقيقة القدس أنها أرض ينتصر فيها أهل الإيمان على جبابرة الزمان، "قالوا إن فيها قوما جبارين" فكان جواب المؤمنين "ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون".

هي أرض كلما ذكر الفتح أطلت علينا بسير الفاتحين، عمر أمير المؤمنين وصلاح الدنيا والدين سليل الأيوبيين. وبكائي على أهل اليمن وقد كانوا أول البارزين لفتح بيت المقدس في جيش أبي عبيدة بن الجراح الأمين.

حقيقة القدس أنها أرض لا تفتح إلا للمتوكلين، فها هما الرجلان وقولهما: "وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مومنين"، وها هو عمر الفاروق لما أراد البروز لساكني بيت المقدس قبل الفتح قال له القوم: يا أمير المؤمنين تخرج إليهم منفردا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة وإنا نخشى عليك غدرا أو مكرا فينالوا منك فقال عمر: "{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: 51]

فلا تبالوا أيها المتوكلون بمن سارع في التطبيع أو هدنات التسليم لا السلام، بل واجبنا التوكل على ربنا وهو ناصرنا على من بغى علينا. فليكن للقدس نصيب من أوراد أدعيتنا، وحظ من حديث مجالسنا، ثم سعي على قدر الوسع لنصرته وحراسته.