استضاف عمران الحضارة  يوم السبت 10 أبريل 2021 الدكتور نور الدين الخادمي، وزير الشؤون الدينية السابق في الجمهورية التونسية ومحاضر في الدراسات العليا في جامعة قطر قسم الفقه والأصول، في إطار فعاليات الجلسة الختامية لليوم الثالث من الملتقى الفكري رمضان الإسلام. وقد شارك بمداخلة عنوانها القيم الحضارية في رمضان.. ماذا لو تتحول إلى ذهنيةٍ جماعيةٍ دائمةٍ؟ تقرؤون في ما يلي نصها.

أحييكم تحية طيبة سلام الله عليكم ورحمته و بركاته وشكري للقائمين على هذه الفعالية بمناسبة اقتراب حلول شهر رمضان أسأل الله سبحانه و تعالى للقائمين التوفيق والتسديد وللمتابعين القبول والرضا. 

ويسعدني في هذه المناسبة أن أحدثكم عن القيم الحضارية في رمضان.. ماذا لو تتحول إلى ذهنيةٍ جماعيةٍ دائمةٍ؟

ضمن عناصر خمسة وانطلاقا من خمس آيات في كتاب الله تعالى في موضوع الصيام. 

  1.  القيم الحضارية الكبرى في رمضان. 
  2.  أوعية القيم الحضارية. 
  3.  أبعاد القيم الحضارية.
  4.  سياقات القيم الحضارية.
  5. تنزيل القيم على نماذج بإجمال شديد. 

والآيات الخمس هي آيات 183 إلى 187 من سورة البقرة وهي آيات رمضان بأحكامه و مقتضياته ومقاصده وجمعا بين العناصر الخمس والآيات الخمس يمكنني أن أقرر إرشادا وتفاعلا مما ينبغي الوعي به والعمل به في رمضان بالنسبة للأمة الإسلامية وأعضائها وعلمائها وبالنسبة إلى تجديد النظر وترتيب الأثر في الجمع بين القرآن الكريم والحضارة والعمارة وبين القرآن الكريم ورمضان والسياق والزمان. 

ونحن اليوم أحوج ما نكون فيه إلى تجديد رمضان وتجديد القرآن و تجديد الإسلام بناء على أصالة التجديد وعلى الحديث الشريف أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل 100 سنة من يجدد لها دينها. 

التجديد هنا يعني إرجاع الوضع على ما هو عليه في العصر الإسلامي الأول في عصر التنزيل من غير تحريف، والتجديد معناه التأصيل وإرجاع إلى الأصل بمقتضى اللغة والأحكام والضوابط وبمقتضى جمع الفهم و التأويل وغير ذلك مما ذكره العلماء. 

الإيمان والصيام والتقوى...القيم الحضارية الكبرى في رمضان 

أقول بالنسبة للعنصر الأول فهي 3 قيم حضارية من الآية القرآنية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) 

القيمة الأولى: الإيمان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو خطاب إيمان لمجموع المؤمنين وهو العقيدة والتصور. 

القيمة الثانية: الصيام (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) وهو حكم الصيام و هو حكم واجب وهذه القيمة قيمة الصيام من جهة كونه فعلا إنسانيا يتعلق بالحكم الشرعي وقيمة الأفعال، هي تصرفات الإنسان صيام وصلاة عدلا وعمرانا نقفة وتعليما. كل ما يصدر من الإنسان هو فعل إنساني فالفعل هنا هو الصيام ويقصد بهذا الصيام الفعل المبني على الايمان بمعنى الاعتقاد والتسليم وبمعنى النية و القصد. 

والقيمة الثالثة: التقوى وهي المقصد الحضاري للصوم وثبت لقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وهذه ثلاث قيم جوهرية مركزية في رمضان ولا بد من الإشارة إلى مبدأ الجمع بين هذه القيم، الإيمان أولا أساسا والصيام فعل يتأسس على هذا الإيمان وغاية مرجوة من الصيام وهي التقوى.

كيف تعيننا أوعية القيم الحضارية على العمل والإنجاز في شهر القرآن؟

الوعاء الزماني وهو يمثل ميدان الفعل وميدان المقاصد وميدان الإيمان وهذا الزمان في تعلقه  بالفرض هو العمر وفي تعلقه برمضان هو أيام معدودة كما جاء في الآية الكريمة. وبالنسبة للأمة هو زمان طويل بتعاقد الصيام وتراكم الإنجاز والأفعال ومسارات طويلة بالتقوى والآيات الخمس أشارت إشارات كثيرة للوعاء الزمني فقوله تعالى (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) إشارة للزمن الرمضاني وهو 30 يوم أو 29. وإشارة أخرى في قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بصيغة مضارعة حاضرة ومستقبلة فيها إشارة للزمان الحاضر والمستقبل، إشارة أخرى قوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) إشارة إلى الزمان الليلي الذي يحل فيه الأكل والشرب والزمن النهاري هو في مقابل ذالك. إشارة أخرى قوله تعالى: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) إشارة الى الزمن التعبدي وهو زمن الاعتكاف وحبس النفس لملازمة المسجد على وجه التعبد وهو زمن من الوعاء الزمني. 

الوعاء الإنجازي هو قرين الوعاء الزماني فالزمان وعاء العمل والإنجاز والدنيا كلها وعاء زمني لمحاصيل الآخرة وعمر الإنسان، كذلك نجد في الآيات الخمس بعض الإشارات للوعاء الانجازي لقوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). 

الشهر هنا هو الوعاء الزماني، فليصمه هو الفعل والإشارة الحضارية في الزمن الرمضاني بمعنى أن رمضان زمن تحضر وإنجاز حضاري معناه العلمي والتجديدي والإنتاج الحضاري هو الإنتاج المادي و الروحي. و كل إنتاج فيه مراد الله سبحانه ومصلحة المخلوق هو إنتاج حضاري. 

الإشارة القرآنية التي تدل على التحضر هي قوله تعالى (شهد)، في كلام المفسرين لها معنيين: الأول حضر بمعنى أدرك هذا الشهر بعقله ووجدانه وقصده وفعله فكان فيه حاضر متفاعل معايش ويؤثر ويتأثر يفعل وينفعل؛ والثاني علم بمعنى من علم أي من حصل له علم وتحصيل المعلوم أو إدراك المقصود والمطلوب وفيما يتعلق برمضان زمانا وأحكاما ومقاصدا برمضان الرسالة الحضارية و رمضان الإسلام. ومن المنجزات الحضارية في رمضان منجز الصيام فالصوم فعل والإفطار فعل والاعتكاف فعل، الدعاء فعل، الاقتصاد والتنمية فعل من الأفعال الرمضانية في قوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) وكلوا اشربوا بمعنى استهلاك المأكول والمشروب بمعنى تحقيق الغذاء، إنتاج الغذاء، أمن الغذاء، التخطيط الغذائي، الأمن المائي كل هذا يستوعبه معنى "كلوا و اشربوا". هذه الآية هي بإشارة استهلاكية وإنتاجية واستثمارية. 

إشارة أخرى في قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) وهي آية باشارة إلى الخصوصية وإشارة إلى وضع الأسرة بكون الأسرة تتعلق بإنجازات الفن، بالطبخ، إقامة الشعائر التنشئة الأسرية الدينية على قدسية رمضان وشعائره؛ وأعجبني أمر الأسرة في الغرب في صيامها مامثل وعاء في الدعوة إلى الإسلام و إبراز دلائل الإسلام في عظمة أسرها. حيث أقبل الكثيرون من الغرب للإسلام بناء على مشهد رمضان وبناء على مشهد الأسرة في رمضان. 

فاختلاط هؤلاء بالمسلمين جعلهم يتأثرون بمشهد رمضان والأسرة  والألفة وجو البهجة والمسرة و مدى زيادة أقدار الوئام بين الأسرة.

نجد منجزات أخرى متعلقة والأفكار والنظم و السياسات والتصورات. الإيمان الذي ينتج الصيام الإيمان.. الذي ينتج الفكر والوعي بهذه الأحكام.. الذي ينتج الإتقان في الانجاز وينتج التخطيط المستقبلي والتخطيط الغائي في قوله (لعلكم تتقون). 

بمعنى أن توطنوا أنفسكم على الالتفات للغايات والمستقبليات وأن يتوطن في نفوسكم التقصيد بمعنى أن يكون التقصيد جاريا في كل أحوالنا وشؤوننا بمعنى أن لا تكون أمورنا عشوائية و عفوية. 

الوعاء الإتقاني هو إتقان المنجز فالإنجاز قد يكون بإتقان أو بخلاف ذلك والمقصود في الإسلام بالإتقان هو الإحسان، أن تقيم الشيء بما يجعله في أحسن صوره وأتم متطلباته بحسب المتوفر و الممكن والناس يتفاوتون في الإتقان وهو الجودة والتدقيق. فنجد إشارة قرأنية إلى الإتقان في قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) نسبة إلى الترشد والرشد ضد السفه والسفه هو سوء التصرف و التصور. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) من أجل أن يكونوا برشد وعلى رشد. فالرشد حاضر ومستقبل ومستمر عبر الزمان. فالإتقان هو الإحسان والرشد والترشيد والرشد بمعنى أن يفعل الراشد ما يلزم بما يناسبه. 

فيم تتمثل أبعاد القيم الحضارية؟

هنالك ثلاثة أبعاد البعد الإنتاجي وهو بعد حضاري والبعد الجماعي والبعد الغائي هذه ثلاثة أبعاد هي أبعاد للقيم الثلاث الإيمان والصيام والتقوى فالجمع بينهم هو ثلاثة قيم ضمن فلسفة رمضان وجوهر القرآن ورسالة الإسلام. 

البعد الإنتاجي وهو من أبعاد رمضان وهو أن الإيمان ينتج العمل فلولا الإيمان لما حصل الصيام وإشارة ذلك (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) والصيام هو الذي ينتج المقاصد فالصيام يؤدي إلى مقصد التقوى والمقصد هو الغاية. ورمضان ينتج الإتقان والإحسان والتنمية ورمضان هو شهر الإنتاج فهو ينتج طرق مجابهة الكورونا وينتج الإصلاح المجتمعي. 

أما البعد الثاني فهو البعد الجماعي وهنا جمع بين الإيمان والعمل والمقاصد ضمن ثلاثية القيم والجمع الثاني هو الجمع بين أعضاء الأمة بجمع رمضاني (الجمع في السرائر وهو الإيمان، الجمع في الشعائر وهم صائمون بشكل واحد والجمع في العمائر وهي المنجزات الحضارية) وصيغة هذا البعد الجماعي في قوله تعالى (لعلكم تتقون) بصيغة الجماعة وأيضا في قوله (لعلهم يرشدون) أما البعد الغائي في  قوله تعالى (لعلكم تتقون) بمعنى أن يكون المسلمون كلهم في هذا الشهر الفضيل يتجهون لغايات لما وراء الصيام ويتمثل في أمرين أولا في المقاصد وهي غايات الأحكام والأمر الثاني هي مآلات الأفعال ما يؤول اليه الصوم.

بين التحضر والتصحر.. اختر سياقك القيمي!

تتمثل سياقات القيم الحضارية في سياقين: السياق الأول أخذت اسمه من هذه الفعالية المباركة ومن فلسفة هذه الفعالية كلمة العمران والمدونات ومؤسسات ناهضة. السياق الأول هو سياق التحضر والتثمير والسياق الثاني هو سياق السياق الأول بمعنى التحضر بالقيم الثلاثة وأوعيتها وأبعادها التحضر بقيم الإيمان والعمل والمقاصد  ضمن قيم الوعاء الزماني و الإنجازي والإتقان وبالأبعاد الإنتاجية والجماعية والغائية والمستقبلية.

وهذا السياق هو سياق لفيف من العلماء وجمع من المؤسسات ولكنه ليس سياق أغلب الأمة، هو سياق المحققون في الأمة والعلماء العاملون المدققون الموثقون الذين يصلحون ولا يفسدون وهؤلاء في أمتنا كثيرون. ولكن الكثير أيضا من أمتنا على خلاف ذلك وهم من يمثلون سياق التصحر والتفقير وهو سياق يمكن أن نطلق عليه فيما يتعلق برمضان سياق تغليب رمضان القالب على رمضان القلب بعبارتكم رمضان المسلمين وليس رمضان الإسلام.

وهذا السياق الثاني مثله عدد ليس قليل من الجامدين من أبناء الأمة والمجحفين من خارج أبناء الأمة والذين يعملون على طمس هذا الشهر بقيمه وأبعاده و أوعيته من أجل الالتفاف على الإسلام واختطاف القرآن والحضارة والعلم والأمة واختطاف كل ما هو معلم قوة في الأمة وهم في هذا منافقون يدعون الانتماء للأمة ولكن يعملون خارجها وهذا التفقير تمثل في تفقير البعد الإنتاجي حيث لم يعد إنتاج التقوى بنفس مقاصدها وأصبح تفقير لمضمون التقوى وتفقير للبعد الجماعي حيث ظل رمضان لدى كثير من المسلمين بممارسة فردية أو فئوية وأكبر شاهد على ذلك الرؤية والحساب وطغيان الفردية وكذلك غياب الفرد عن الدولة وقضايا الدولة وكأن الإنسان يعزل نفسه عن كل القضايا.

أما التفقير الثالث هو طغيان الشكلانية مقابل المقاصدية والماضوية مقابل المستقبلية. الماضوية تكون من خلال بتر التراث واجتزاء التراث من خلال أخذ بعض الأحداث التراثية والقراءة من غير مدارسة  والتلاوة من غير وعي وتمثل أيضا من خلال استصحاب بعض العادات والتي غلبت ما يلزم من الوعي.

تنزيل القيم الحضارية في رمضان على نماذج 

الأنموذج الأول أنموذج كورونا والأنموذج الثاني أنموذج الإصلاح العربي الإسلامي بالنسبة إلى كورونا، كيف عشنا العام الماضي في رمضان؟ وكيف سنعيش في رمضان هذا؟ عشنا والحمد لله بإيمان أنتج تعليل مركب لهذه الجائحة ضمن ما يعرف بالعلة المركبة لجائحة كورونا وهي ليست علة بسيطة وكذلك عشنا رمضان الماضي وسنعيش رمضان هذا بإنجاز وإتقان أو بداية إتقان. التلاقيح والتطعيمات التي هي من سنن الله تعالى وكذلك أتقنا وأنجزنا ما يعرف بإتقان الإفتاء الموصول بالعلة المركبة والموصول بالإنتاج الطبي والعلم الطبي وكل موصولاته ضمن فتوة عصرية ليست فقط ببعد فقهي أو ببعد حديثي مذهبي بل بأبعاد كثيرة أساسها البعد الشرعي وكذلك الموصولات الأخرى، القانون، الطب، السياسة، العلاقات الدولية ..

أما أنموذج الإصلاح العربي الإسلامي يقول بأن الإيمان أنتج الإنسان.. أنتج الكرامة الإنسانية.. أنتج الاستخلاف البشري والحرية والكرامة والعدالة والإتقان هو إتقان السياسة في مرحلة ما بعد الإصلاح وفي مرحلة ما بعد الثورات في بعض الدول التي شهدت ثورات أو الإصلاحات في الدول التي تعرف إصلاحات سياسية أخرى. فإتقان السياسة في رمضان هو إحدى مفردات القيم الثلاثة في رمضان والقرآن والإسلام.  

أشكركم على متابعتكم وأسأل الله سبحانه و تعالى أن يرزقنا حسن الفهم وصحة العمل وتمام القبول والرضا وأن يجعل هذا رمضان متأخيا مع الزمان منتجا للعمران حافظا للإنسان من أجل جنات الله سبحانه وتعالى بجوار النبي صلى الله عليه وسلم. 

شكرا لكم والله ولي التوفيق والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته.