تعددت القيود التي تُفرض على الحرية، وقد أجاد الإمام السخاوي في تلخيصها وضبطها إجادة عجيبة، فيقول رحمه الله: "الإسلام أعطى الإنسان الحرية، وقيّدها بالفضيلة حتى لا ينحرف، وبالعدل حتى لا يجور، وبالحق حتى لا ينـزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار حتى لا تستبد به الأنانية، وبالبعد به عن الضرر حتى لا تستشري فيه غرائز الشر".

فهذا التعريف العجيب جامع مانع، فالفضيلة تقيد شطط الحرية، فالذي يرفع صوت المذياع ويؤذي جيرانه بداعي الحرية، لا يراعي الفضيلة، فإذا تجاوز في حريته إلى الإيذاء فإن العدل هو منعه لأنه حينئذ يكون ظالماً، وقد تختلط أحياناً بعض المفاهيم، وتغري النفس والشيطان الإنسانَ بممارسة الحرية، كالذي يغمز ويلمز ساخراً من الناس، فإن الحق هو تقويمه لكي لا يذهب مع هواه وينجرف مع شيطانه، وكذلك فإن زراعة معاني الخير والإيثار هو قيد آخر للحرية التي تغلفها الأنانية، فإن إقامة وليمة فخمة وجارك جائع إلى جنبك هو من الحرية المقيتة، والخير والإيثار يهذب هذا الخلق. 

الشافعي الحرّ

كلما تحدثت عن الحرية، وشرعت في شرح مفاهيمها وضوابطها، ورسم حدودها تذكرت أبياتاً للإمام الشافعي رحمه الله، يقول فيها:

أمطري لؤلؤاً جبالَ سرنديـب

وَفِيضي آبارَ تكرورَ تِبْرَا

أَنَا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أعْدَمُ قُوتاً

وَإذا متّ لَسْتُ أعْدَمُ قَبْرَا

همتي همَّة ُ الملوكِ ونفسي

نَفْسُ حُرٍّ تَرَى الْمَذَلَّة َ كُفْرَا

فانعدام الحرية يؤدي إلى الذل، والذي يقارب ألمه عندي جريمة الكفر، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

كان الشافعي كالشمس للنهار وكالعافية للناس أحمد بن حنبل

الحرية أم تطبيق الشريعة

الحرية كانت وستبقى أولوية قبل تطبيق الشريعة، لأن الحرية تضمن للناس الاختيار الحر، المتفق مع إرادتهم الحرة.

وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا، في بدايات الدعوة ليس لإجبارهم على تطبيق الشريعة، وما جاء به من عند الله تعالى، وإنما كان يطالبهم بداية بمزيد من الحرية، فيقول: "ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟" أي ماذا عليهم لو منحوني حرية الحركة والاتصال بالناس، والدعوة إلى الله.

وأنا على قناعة تامة بأنه يستحيل تطبيق الشريعة بطريقة صحيحة دون وجود حرية حقيقية، وهذا معنى أن (الحرية مقدمة على تطبيق الشريعة)

"خلوا بيننا وبين الناس"

قالها النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، عندما خرج يريد زيارة البيت ولا يريد قتالاً، فلمّا سمعت قريش بمسيره تجهّزوا للحرب ولبسوا جلود النّمور، وتعاهدوا أن لا يدخلها عليهم عنوة أبداً.

ولمّا بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبر استعداد قريش قال: ((يا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أهْلَكَتْهُمُ الحَرْبُ، ماذَا عَلَيْهمْ لَوْ خَلُّوا بَيْنِي وَبَينَ سائِرِ العَرب، فإنْ هُمْ أصابُونِي كانَ ذلكَ الَّذِي أرَادُوا، وَإنْ أظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِم دَخَلُوا فِي الإسْلامِ دَاخِرِين)).

وكأنه يقول: وقعت الحرب واشتد القتال بسبب منع قريش للحرية، وحرمان الناس منها.

حجة الله بالغة

"خلوا بيننا وبين الناس"، ينبغي أن يكون هذا هو شعار دعاة الإصلاح، في كل زمان ومكان، لا تمنعونا من الالتقاء بالناس والتواصل معهم، لا تقيدوا من حركتنا لأننا أصحاب رأي، لا تسجوننا لأننا نرى ما لا ترون.

وأنا على يقين لو خُلّي بين الناس والإسلام، لاختار الناس الإسلام، إذا أجاد الدعاة والقادة تقديمه كما أنزله الله تعالى، وبشكل يليق بعظمة هذا الدين، لأن حجة الله بالغة، ولن يشادّ هذا الدين أحدٌ إلا غلبه.