لليل حضور واسع في التراث والخيال الشعبي، تجلى بأبهى صوره وأوصافه في الذاكرة والوجدان العربي، ونال النصيب الأوفر من السرد والرواية والقصص والتخيلات. وارتبط الليل منذ فجر تكوّن الوعي الإنساني بالأساطير والمحجوبات، من الأشباح والجن والأرواح والصالحين والأولياء وأهل الكرامات. وظل الليل مجالاً واسعاً لتبادل الأحاديث، واستحضار الغرائب والطرائف والفكاهات، وقص القصص عن البطولات والمرويات التاريخية، التي لا تحلو روايتها ولا تسكن أعماق الذاكرة الجماعية إلا في عتمة الليل، أو في زوايا البيوت وعلى ديوانيات المجالس العامة، أو في المقاهي المكتظة في ليل المدينة الشتوي الطويل أو الصيفي الهادئ. 
      كما شكل الليل فضاءً رحباً للتخيلات والأساطير الشعبية، ووعاء لأسرار العشاق والمحبين، وخزّاناً مناقبياً لكرامات الصالحين والأولياء وأدوار العلماء والحكماء، ومجالاً رحباً للغناء والغانيات، وهو يصلح لإخفاء ما اعتدنه تحت عتمة الليل، وحفلت معاجم اللغة العربية بأحاديث ضافية عن الليل وأسمائه وأوصافه، حيث أورد الهمذاني في معجمه "الألفاظ الكتابية" ثمانية وعشرين اسماً لليل والظلمة، منها: "الغسق والفحمة والجهمة والغبش والغطش والهزيع..". وذكر ستة وعشرين فعلاً لليل مثل: "أظلم ودجا وأدجى وعتم وأعتم واعتكر وادلهم وأسدف وتدخدخ". (الهمذاني، 1899، ص 288). 
كما أفرد ابن السكيت إحدى عشرة صفحة لبابيّ صفة الليل وأسماء نعوت الليل في شدة الظلمة. من ذلك قوله: "الظلام أول الليل وإن كان مقمراً، وأتيته ظلاماً أي ليلاً، ومع الظلام أي عند الليل. ويقال أتيته أول الليل وهو من عند غيوب الشمس إلى العتمة. وأتيته ظلاماً أي عند غيوبة الشمس إلى صلاة المغرب، وهو دخول أول الليل، وأتيته ممسياً بعد العصر إلى غيوب الشمس...إلخ" (ابن السّكيت، 1897، ص 242). ولم يغب الليل عن الشعر العربي، فقد وصف الحصري القيرواني الليل قائلاً: 

يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعدهُ؟
    رقد السُّمَّارُ وأرّقهُ أسفٌ للبين يردِّدُّهُ
                            فبكاه النّجم ورق لهُ مما يرعاه ويرصدهُ
   

وعند تتبع مراحل التاريخ في البلاد الشامية، وحديثنا هنا عن دمشق، خلال الفترة العثمانية المتأخرة، نلحظ سمتين حاسمتين للتاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؛ الأولى: حقيقة استحواذ العامة من حلاق، وجندي، ومزارع، وكاتب محكمة، وشيخ، وقسيس على هذا النوع الأدبي (التأريخ للحدث اليومي والسير الشعبية). 
أما الثانية فقد نال الجانب الترفيهي وقضايا المجتمع المعاشي والعلاقات بين الأسر والأحياء وخارجها النصيب الأكبر من اهتمام محدثي الكتابة التاريخية آنئذٍ. وقد رأينا كثيراً من الاحتمالات والتنبؤ في نصوص مثل: مذكرات ابن طوق، وتاريخ ابن صصرى، والدوادري، ولكن معظم التواريخ التي درسناها في هذه المرحلة المتأخرة (القرون 18 و19 و20) كتبتها طبقات العلماء والسياسيون والآباء المؤسسون لأفكار التنوير، بالإضافة إلى مذكرات النخبة البرجوازية الوطنية السورية الأولى. ومن ثم فقد مثل تأريخ الأحداث المعاصرة في بلاد الشام عملية تحوّل التاريخ إلى أدب عام، وأعني بذلك مشاركة مجموعات عامة في المجتمع كانت حتى تلك اللحظة مستثناة منه، وتمثل قاع السلم الاجتماعي أو في مراتبه الدنيا (السجدي، 2009، ص 148). 
       ومع تقصي كتابات تلك المرحلة نجد أن الليل الدمشقي امتلأ بالقصص التي تُحكى في جو أعطى للخيال الشعبي القدرة على أن يشطح شطحات خيالية وغريبة؛ وأبرز ما يمثل واقع الليالي الدمشقية أنها أبدعت أدب السير الشعبية، وجلسات الحكواتي في المقاهي الثقافية الشعبية التي تروى فيها أحداث تاريخية وسير الأبطال والشخصيات الأسطورية، والتي لها أثرها في ذهنيات العامة، بشكل مسلٍّ في ظلال الليل وأسراره (مهند مبيضين، 2009).

 


        توالت أخبار الليل الدمشقي في كتب التاريخ والمذكرات والأشعار، وبحثت في يوميات المضحكين والمجانين والقصاصين والمسلين الذين كانوا يذهبون إلى بيوت الأكابر ووجهاء الأحياء والعائلات الثرية والشخصيات الأعيانية السياسية والتجارية، ويقضون مجتمعين في سهرات؛ يتناقشون في السيرة النبوية، أو يقدمون لطائف تاريخية (منقبية)، كما تُؤدى الألحان والأشعار والعتابا الشعبية والمولويات في المناسبات الدينية، وكذا قراءة القرآن ورواية الأحاديث الشريفة في المساجد بين العشاءين. وأشار إلى واقع الجو المسائي الدمشقي محمد بن أحمد الداخلي الصالحي (ت: 1569م) في ترجمته في القرن السادس عشر، ووصف سهرات أعيان دمشق والتي كان يحضرها بالقول: "كان يتردد إلى الأكابر ويبيت عندهم الليالي". وكما شهدت تلك الليالي حضور أهل الأدب والحديث، ودارت بين الحاضرين المساجلات الشعرية والغنائية والبلاغية والفقهية (مبيضين، المرجع نفسه).
      وبالنسبة لسهرات النساء، ففي الدار نفسها التي كانت تشهد سهرات الرجال في الشتاء، كانت النساء يجتمعن في غرفة أخرى منعزلة عن تلك التي يلتقي فيها أزواجهن، فيتحلقن حول مدفأة الحطب التي تلعلع ألسنة النار فيها، أو منقل متوهج الجمر. وفي كثير من بيوت دمشق التي لم تكن وصلت إليها الكهرباء في الأربعينات كنّ يستضئن بنور الكاز المعلق في الجدار أو المتدلي من السقف. تبدأ السهرة بلعب البرسيس (الشدة)، وكن يستمتعن بها متعة خاصة. وفي ختام اللعبة فإن المغلوبة منهن تُؤدي ما يُطلب منها، من رقص أو غناء أو تهريج. 
وتتخلل سهرة النساء رواية الحكايات الشعبية، تؤديها إحدى السيدات المسنات المحنّكات، ثم يتبارين في قول الأمثال. ويتندرن برواية النكات والفكاهات. ولا يفوت الساهرات، التحدث عن الأخريات في ما يعرف عندهن "المقلاة" إشارة إلى عيوب أولئك النساء ومساوئهن. (كيال، يا شام، ص 184). 
      وأما سهرات الرجال في المقهى، والذي كان ميداناً للتسلية وتزجية الوقت، فهم كما يقضون أوقاتاً بلعبة النرد أو الورق أو الضومنة. فالمقهى دون غيره كان مؤسسة اجتماعية وثقافية ومنتدى سياسياً في الحي الدمشقي، فقلما خلا حي من مقهيين أو ثلاثة على الأقل. وحوت دمشق في منتصف القرن العشرين أكثر من مئة مقهى، والحكواتي كان من بين عناصر المقهى الرئيسية. وكان الساهرون يطربون ويصغون إلليه، وهو يروي في أداء وحركات تمثيلية سيرة عنترة أو الظاهر بيبرس أو الزيبق والهلال وسيف بن ذي يزن، وبين وسائل التشويق التي يلجأ إليها الحكواتيون أنهم ينهون روايتهم وبطل السيرة في موقف صعب، وذلك من أجل تشجيع الزبائن على ارتياد المقهى في الليلة القادمة، وللاستماع إلى بقية السيرة، وخروج البطل من الموقف الصعب. (البحرة، 1999، ص. ص 1920).  
       وفي بدايات القرن العشرين، كان لمسرح خيال الظل مجده الحقيقي في دمشق، قبل نهوض الفن السينمائي وتطور الحركة المسرحية على يد أبي خليل القباني. ولئن كان الحكواتي يستوعب بعض رغبة الساهرين في المقاهي، ولكنه لم يلعب الدور التمثيلي الذي لعبه الكركوزاتي أو لاعب خيال الظل، وانحسر هذا النوع من التسلية منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين لصالح السينما، واحتل لنفسه بمساحة في ليالي رمضان لا أكثر. والكركوز كان يقدم كل ليلة بأشخاصه: كركوز، وعيواظ، وبكري مصطفى، والمدلل، وشمقرين وكروش... فصولاً من التجربة اليومية ذات الطابع الفكاهي والقصصي. (البحرة، 1999، ص. ص 20 - 21).   
   لقد كان أهل دمشق يقضون السهر في مواسم متنوعة؛ فمنها ما هو خاص بالشتاء، أو الصيف، أو الربيع، ذاك أن ليالي الصيف تختلف كثيراً عن ليالي الشتاء. وكانت بعض العائلات الدمشقية تتواعد لقضاء أمسيات الصيف معاً في المتنزهات القريبة من دمشق في غوطتها وبساتينها أو مطاعمها، أو الذهاب أبعد قليلاً نحو مصايف وادي بردى؛ كعين الخضراء، وعين الفيجة، والزبداني، ومضايا، وجديدة الشيباني. ويُقدم لنا ابن كنّان الصالحي (ت: 1740م) وصفاً لليل العلماء وترتيب سهراتهم في الصيف، ويظهر من الوصف الذي يقدمه أن سهر الأعيان والعلماء يطول حتى الفجر، ويتخلله الإنشاد الذي يجلب الطرب. وتختلف ليالي الصيف عن ليالي الشتاء الطويلة؛ ففي ليل الشتاء الطويل يجتمع الجيران أو الأقارب أو أبناء الحرفة الواحدة وكذا الأصدقاء في بيت أحدهم، ويقصُّون أوراقاً حسب عددهم، ويُكتب في كل ورقة اليوم المعين للسهر مع نوع الحلوى والضيافة التي ستقدم للساهرين المتسامرين، وبذلك يعرفون مواعيد السهر عند المجتمعين كافة. وتهيأ خلال السهرات الشتوية ألعاب للتسلية، ويَحضر عازف العود. وبذلك يقتلون ليالي الشتاء على هذا المنوال حتى نهاية الموسم. وكان يتحكم في مواعيد السهر الدمشقي المناخ إن كان ماطراً أو بارداً أو حاراً، وهو ما تبادله الشعراء في قصائدهم؛ حيث يقول مكي الجوخي (توفي: 1778م)، وقد أعاقه المطر عن زيارة صديقه في إحدى الليالي الشتوية الباردة:

أيا مولى له شوقي           مرادي أن أزوركم
وما لي عنه مصطبرُ          ولكن عاقني المطرُ


      وفي وصف روعة وأُنس وبهجة الليل الدمشقي أورد الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) في مذكراته واصفاً جمال ليل حي المهاجرين الدمشقي، بالقول: 

"وإن أنت قدمت دمشق في الليل، ونظرت من بعيد إلى هذه الجادات، من الكسوة إن كنت قادماً من البر، أو من شرقي الغوطة إن كنت آتياً في الطيارة من الجو... رأيت أضواء هذه الجادات، سلاسل من العقود تلمع في جيد قاسيون. منظر ما رأيت مثله، على كثر ما سرت في البلاد ورأيت من المدن. ومهما أبصرت من جمال فما أظن أني رأيت أبهى ولا أجمل من قاسيون إلا جبل أُحُد" (الطنطاوي، ص 90). 

كما وصف نجاة قصاب حسن احتفالات المولد النبوي في دمشق ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الهجرية: "... وكنا في دمشق نحتفل بعيد المولد احتفالاً شعبياً كبيراً يتجلى بالزينات في الأحياء، والزيارات بين الحارات. وكان المولد الذي يُقرأ فيها إما مولد "الجوزي" وإما مولد "العروس". وهناك من وضعوا قصصاً عصرية عن المولد فيها حديث أصبح تاريخياً، وأقرب إلى الروح الجديدة". ويضيف بقوله: "... وما دام الليل قد هبط، والدكاكين قد أغلقت أبوابها، فإن السجاجيد العجمية تُعلق عند الجامع وقبالته حيث كان فرن فتوش، وتمتد حتى زقاقي السلمي والسّقالين، وقد علقت عليها صورة رئيس الجمهورية آنذاك السيد شكري القوتلي، ومن حوله صور المجاهدين الذين شاركوا في أحداث الثورة السورية، وكان معظمهم في عصبة حسن الخراط ابن حي الشاغور المجاور، ولم يكن أحد من هؤلاء الرجال ليبخل بما في منزله من سلاح فيجيء به، كي يعلق فوق السجاجيد، من سيوف دمشقية، وبنادي وطبنجات عثمانية ومسدسات وبنادق حديثة". وقال: ".. وبعد أن تتلى بعض آيات القرآن الكريم، يُقرأ المولد، فما إن تقال الكلمة الأخيرة فيه، حتى يتخذ المهرجان منحى آخر، وفي هذه الأثناء تدور محاورات طريفة ضاحكة بين الوجهاء والمسنين من أهل الحي. وربما قرأ الحكواتي فصلاً من سيرة عنترة تبدو فيه شجاعته ورجولته وقدرته على مواجهة أعداء قبيلته وحيداً والانتصار عليهن. وربما قرأ فصلاً مشابهاً من سيرة أبي زيد الهلالي، على أن كلا الفصلين يكون قصيراً لا يستغرق سوى دقائق قليلة" (نجاة قصاب حسن، 1988، ص 191).  

      وهناك ليالٍ قدسيةٍ تحولت لمناسبات اجتماعية وثقافية، منها ليلة النصف من شعبان وليلة القدر وليلة العيد، فقد كان مشهد دمشق الليلي يتغير في ليلة القدر، ويبالغ الناس جميعاً في إضاءة دكاكينهم ومحلاتهم التجارية في أسواق المدينة الرئيسية: السنجقدار وحي الميدان بكاملة، وحي الصالحية وسوق الحميدية والبزروية وسوق الحرير وحمام القيشاني. فسوق الحميدية على سبيل المثال، كان في الليالي العادية، يبدو معتماً موحشاً، لكنه في الليالي الأخيرة من رمضان، يشعشع بالأضواء والزينات، ويزدحم بالناس القادمين من كل أنحاء دمشق لشراء كل ما يلزمهم هم وأولادهم في يوم العيد.

و"الأنوار تنير المساجد والطرقات، وتنتشر البسطات في كل مكان، وأمامها يقف الباعة يدللون على بضاعتهم بما يرغب من العبارات، وبما يبعث في النفس: الرغبة في الشراء... يزدحم الناس على الكواء والخياط والخباز واللحام".. وليلة العيد تذبح الخرفان في الطرق والساحات، أما سوق البزورية فيحيي تلك الليلة (ليلة 27 رمضان) وما يليها حتى العيد لتلبية طلبات القوم مكن الملبس وراحة الحلقوم، وما قصد ينقصهم من سمن وسكر وأرز... وسى ذلك". (منير كيال، 1984، ص. ص 143145).  

كان أهل دمشق يُحيون ليلة القدر حتى السحور، بعد أن يشاهدوا حفلات الأذكار التي يقيمها رجال الطرق الصوفية، ولا سيما المولويون في المساجد، وخاصة المسجد الأموي بعد الفراغ من صلاة التراويح، وموعدها بعد صلاة العشاء.كانوا يذهبون للاستمتاع بهذه الليلة إلى مسجد بني أمية، رجالاً ونساءً وأطفالاً، يشاركهم كبار الموظفين ووجهاء الأحياء. فتمتلئ باحة المسجد، بقدر ما تستوعب من البشر. فيما يأخذ دراويش المولوية، بثيابهم البيضاء الفضفاضة، وقبعاتهم الطويلة، من اللباد، تشبه الطرابيش، يدورون دورات محورية، على أكعابهم بانتظام وانسياب وخفة ورشاقة. ومهما داروا حول أنفسهم، أو حول الدائرة التي يحتلونها، فإن الدوار لا يعتريهم، ذلك أنهم تدربوا على هذه الحركات منذ طفولتهم. (العلاف، 1976، ص 71). 

   تلك دمشق العامرة بأصالة أهلها وإرثها الحضاري وتاريخها العريق الذي يتجدد في ذاكرة كل من يتذكر تلك الأيام أو يقرأ عنها وعاش في دمشق أو شرب من مائها، وهو تاريخ عظيم لن تنساه أجيالنا مهما طويت الأيام والسنين (مبيضين، 2009). 

       وحسب أخبار المؤرخين، بدا لنا بأن العقود الخمسة الأولى من القرن الماضي، شهدت ازدهاراً كبيراً للمقاهي الدمشقية، وكان معظمها يقع على ضفاف نهر بردى الذي كان يخترق المدينة، حيث كانت مقاهي وديوانيات شارع بغداد وشارع العابد (وسط دمشق) تكتظ بالزائرين والشباب. لكن في فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين شهدت المقاهي والتجمعات الشعبية انكماشاً مع توالي الانقلابات السياسية والعسكرية والتسلط والاستبداد، ورافق ذلك ظهور التلفاز لينفتح المجتمع على الخارج أكثر، ومع العولمة والنهوض التكنولوجي العالمي تلونت ليالي دمشق بالطابع الحديث، فأصبح البيت كمقهى صغير للعائلة، وتبدلت تلك الأجواء العامة، وفقدت روحها ومكانتها وألقها السابق.  

         ويقول أحد المتقاعدين الذين كانوا يرتادون مقاهي الروضة والنوفرة وهافانا وسط دمشق، التي كانت تجمع الأدباء والشعراء والمثقفين والسياسيين: "تبدل حال المقاهي؛ فمقهى هافانا أصبح في خانة النجوم الخمسة، ولم يعد ملتقى للمثقفين والأدباء، ومقهى الروضة تغير حال رواده، وكذلك مقهى الكمال الصيفي، وأصبح يرتادها زبائن مختلفون من هواة لعب الورق والطاولة وقتل الوقت". (صحيفة العرب، 2019). وأضاف أحد العاملين في مقهى هافانا قائلاً: "إن عدد الرواد الأصليين للمقهى تقلص كثيراً بعد أن غزا الشباب والفتيات المكان، واستهوتهم عادة تدخين النرجيلة التي أصبحت شائعة في أغلب المقاهي". 

      مثلت دمشق، عراقة العروبة والغنى الديني والثقافي، وظلت تنبض بالحب والعطاء، والحياة والتفاؤل، والبهجة والفرح حتى تغير لونها وشكلها اليوم. فلم تعد كما كانت المدينة التي لا تنام؛ فهي اليوم في ظل التوطين الإيراني والروسي، والتسلط والتقييد والاستبداد والتهجير والتغيير الديموغرافي، تكاد تغيب الحركة من شوارعها قبل الساعة التاسعة ليلاً.

 تغلق الأسواق والمحال التجارية، وسيكون من الصعب أن تجد ما تريد أن تشتريه بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً؛ إذ تنطفئ الأضواء، ويغيب المارة من الشوارع، ومن الصعب أن يجد أي شخص سيارة أجرة أو باصاً داخلياً للنقل؛ بسبب الخوف من الاعتقال أو التحرش أو الاغتصاب أو الخطف. لكن خلف هذه الصورة هناك صورة أخرى لشريحة من المجتمع الدمشقي يقضون لياليهم حتى الصباح في الأقبية المنارة التي تحولت إلى كباريهات ليلية، وتنتشر خاصة في ساحة دمشق وساحة النجمة، وتمتد حتى دمّر ومشروع دمّر وفي باب توما وباب شرقي، بينما يكون الانتشار الأكبر بين التجمعات السكنية في ريف دمشق، وتحديداً في جرمانا، وربما بعض المحال التجارية الصغيرة في أحياء المدينة التاريخية، وخاصة في أطرافها (أبو سهيل، 2020).

  أفسد الطارئون والمأجورون ليالي دمشق وعبقها، وغابت عن مساءات أهلها ذكريات التاريخ والفكاهة، وتحول الطقس الغرائبي، والشطحات الخرافية إلى حدث مأساوي يتكرر كل ليل. وتحولت مساءات الدمشقيين وأهل سورية جميعهم إلى حالة هستيرية ورعب وعنف وغربة، بل إلى جحيم لا يطاق. 

وانطفأت شموع دمشق وقناديلها الليلية، وأغلقت مقاهيها الشعبية وأسواقها العريقة، وتغيرت تلك الليالي لتصبح ستاراً تتربص في ظلامه عصابات الليل؛ تعتدي وتقتل وتُشيع الرعب والموت، وتبيح كل ما هو محظور اجتماعياً ودينياً على امتداد تاريخها، وتدنس المقدس والأصيل في تلك الليالي التي أُنيرت قروناً، لتُظلم ويختفي وميضها زمن نظام آل الأسد وأعوانهم.