تزداد قيمة الإنتاج الفكري والفلسفي للمفكر حينما ينتمي لسياق حضاري وثقافي حاسم، يتسم بالتحول من واقع حضاري إلى آخر.

     من هذا المنطلق لاقت أفكار فلاسفة التنوير من أمثال هيغل وهايدغر ونيتشه وجان جاك روسو[1] وميشال فوكو زخما واهتماما تعديا المجال الحضاري الأوروبي إلى العالم، ليس فقط لأن أوروبا كانت مركزا حضاريا مهيمنا –ثقافيا على الأقل- على العالم منذ القرن التاسع عشر بل لأن مفكري هذه الحقبة وفلاسفتها واكبوا النهضة الأوروبية وساهموا بأفكارهم وفلسفتهم في ترشيدها وتصحيح مساراتها إن لم نقل بأنهم هم صناع نهضة أوروبا الحقيقيون.

    ينطبق ذات الأمر في السياق الحضاري العربي والإسلامي على مفكري النهضة العربية الحديثة (محمد عبده والكواكبي والأفغاني) قبل أن تدخل الأمة الإسلامية في غيبوبة حضارية أخرى انكسرت معها كل محاولات النهوض والإصلاح السابقة والتي قادها رواد النهضة الأوائل.

    إلا أن محاولات النهوض والإصلاح لم تتوقف وتلك سنة حضارية نص عليها الحديث النبوي الشريف "يبعث الله لأمتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" [2].

 ولقد كان القرن العشرون منعطفا حاسما في مسار العالم كله نظرا لما شهده من حروب عالمية أعادت تشكيل وجه العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، ولم يكن العالم الإسلامي بمعزل عن ذلك التحول بطبيعة الحال.

 فقد انبعثت في المجال الحضاري الإسلامي محاولات الإصلاح من جديد، تارة على يد شخصيات دعوية كالإمام حسن البنا، والإمام محمد عبد الوهاب، وأخرى على يد شخصيات فكرية كالإمام محمد الغزالي ومالك بن نبي.

     إن المشروع النهضوي الذي أسسه هذا الأخير هو بحق مشروع يستحق على الأمة الإسلامية أن تعيد اعتباره وإحياءه، وأن تحوله من إطاره التجريدي النظري إلى واقع عملي، ولن تكون مهمتها في ذلك صعبة، لأن المفكر الجزائري بن نبي بحكم معايشته لفترة تحول بلاده -الجزائر- من قبضة الاستعمار نحو التحرر، إضافة إلى معايشته للثقافة الغربية من الداخل لمدة ثلاثين عاما كطالب ثم كمهندس كهربائي في فرنسا.. كل ذلك يجعل من مشروعه الحضاري مشروعا جادا ومتكاملا، ينطلق من تشخيص مشكلات الواقع، ويستصحب الإرث التاريخي للأمة، ليقلع نحو أفق حضاري واضح المعالم متجانس المكونات.

الواقع والرؤية

    إن عملية التغيير الحضاري عملية شاقة ومعقدة، ولا يمكن تصور أي تغيير حضاري دون فهم عميق لمشكلات الواقع، ولذلك فقد استهل بن نبي مشروعه الفكري بشرح مشكلات الحضارة الإسلامية، واعتبر أن أهم تلك المشكلات تكمن في الأفكار، أفكار النخبة ونمط تفكير الساسة والقادة، وحتى عامة الناس من غير المثقفين، فقد اعتبـر بن نبي في كتابه "مشكلة الثقافة" (ضمن سلسلة مشكلات الحضارة) أن "تنظيم المجتمع وحياته وحركته، بل فوضاه وخموده وركوده، كل هذه الأمور ذات علاقة وظيفية بنظام الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع، فإذا ما تغير هذا النظام بطريقة أو بأخرى فإن جميع الخصائص الاجتماعية الأخرى تتعدل في الاتجاه نفسه" [3]".

     وإذا كان هذا هو تعليل بن نبي لواقع التخلف الذي تعيشه الأمة الإسلامية فإنه لا يكتفي بتشخيص الواقع، بل يقترح مسارا نهضويا إذا سلكته الأمة فإنها ستعود إلى سكة التاريخ، ومن ثم يبدأ التنافس الحضاري نحو الريــادة.. 

يقول بن نبي: "وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار [4].

     إن هذه المقولة التي تختزل رؤية بن نبي لمشكلة الحضارة هي فهم عميق لمدلول الآية الكريمة: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11]، فسنة الحضارة تقتضي أن يبدأ التغيير والإصلاح من النفوس أولا، من داخل الجسم الذي نريد إصلاحه وليس من خارجه، ما يجعل محاولات بعض المفكرين والساسة المعاصرين الذين يستنسخون قشور الفكر والحضارة الغربية لتكييفها مع المناخ الحضاري الإسلامي ضربا من العبث.

      إن الانفتاح على الحضارات والثقافات الإنسانية والأخذ منها ضروري لكل حضارة كي تختبر آفاقا جديدة، ويشهد التاريخ الإسلامي أن فترة الدولة العباسية شهدت حركة تدوين وترجمة ساهمت في إثراء الثقافة الإسلامية بعلوم ومعارف الحضارات الأخرى كالفارسية والبيزنطية والرومانية وحتى علوم الأوائل كالهرمسية.[5]

  ولعل الباحث في تاريخ الحضارة الغربية يجد أن عصر التنوير شهد حركة ترجمة واسعة للكتب العربية والإسلامية في شتى مجالات المعرفة، ما يعني وجود عناصر معرفية وثقافية داخل جسم الحضارة الغربية تنتمي من حيث الأصل للسياق العربي الإسلامي، ومن شواهد ذلك أن ابن رشد كاد أن يصبح ابنا بالتبني للحضارة الغربية لدرجة أنهم أطلقوا عليه اسما جديدا "آفيـــــروس Averos" وكتبوا اسمه ضمن قائمة طويلة من أسماء مفكريهم القدماء والمعاصرين على واجهة متحف مشهور في أوروبا.

        ختاما، لا يكتفي بن نبي بتشخيص واقع التخلف الذي تترنح فيه الحضارة الإسلامية –وليس الإسلام- منذ قرون، بل يقترح حلولا، لا يجهل أغلبها من له حظ من العقل، ولكن بعضها مركب وعميق، توصل إليه بن نبي بعد مسيرة عقود من مكابدة الفكر، ويمكن إجمال رؤيته للخروج من المأزق الحضاري الإسلامي في التالي:

  • إعادة الاعتبار للإنسان بوصفه محورا للحضارة.
  • تفعيل دور العقل جنبا إلى جنب مع وظيفة النص في البناء الحضاري.
  • تأسيس البناء الحضاري على الأخلاق كعامل حاسم في كل قرارات الأمة وأنشطتها.
  • التربية السليمة على أساس متين من الدين. 
  • إعادة اعتبار الفن والجماليات في الحضارة الإسلامية بعيدا عن التعصب المبدئي ضد الفن.
  • إشراك المرأة في بناء الحضارة، باعتبارها أساس التربية في المجتمع، بعيدا عن المواقف الفقهية الظالمة بحق المرأة.
  • الانفتاح دون ذوبان، والأصالة دون تحجر.