لعب الموقع الجغرافي الممتاز لمحافظة ظفار الواقعة جنوب غرب سلطنة عُمان دورا أساسيا في زيادة عمق العلاقات التجارية والحضارية بين ظفار ومناطق شبه الجزيرة العربية والحضارات الأخرى، حيث ساهمت تجارة اللبان والخيول والتمور بدور حيوي في زيادة عمق هذه العلاقات، فقد اتصلت ظفار ببلاد الشام منذ القرن العاشر قبل الميلاد، ومع مصر في العهد الفرعوني، حيث شكل اللبان والبخور والمر الذي كانت تنتجه ظفار منذ عهود غابرة رواجا اقتصاديا هاما، وذلك لاستخدامها في إقامة الشعائر الدينية والطقوس الجنائزية في المعابد القديمة والأديرة حتى وقت قريب.
 ولذلك فقد كان لهذه التجارة التي اشتهرت بها ظفار خلال الحقب التاريخية المتعاقبة دورا أساسيا في توثيق العلاقات والصلات الحضارية والإنسانية بين شعوب منطقة شبه الجزيرة العربية وحضارات العالم القديم كالحضارة السومرية والفرعونية والبابلية والرومانية وغيرها.
 وبالطبع فقد أدي الاهتمام الشديد بتجارة اللبان والخيول في ظفار منذ وقت مبكر إلى تنظيم الطرق التجارية وتمديدها عبر الصحراء، مع الاهتمام بتنظيم القوافل التجارية وتوفير الحماية اللازمة لها، متمثلة في إنشاء الأبراج والقلاع الدفاعية على امتداد خط طول هذه الطرق لحمايتها، وتسويقها إلى البلدان والحضارات المجاورة وتطلب الأمر إنشاء موانئ على ساحل جنوب ظفار فنشأت المدن ذات الطابع الحربي لتتولى عملية تنظيم تصدير وتبادل السلع عبر السفن التجارية إلي مناطق جنوب شبه الجزيرة العربية وبعض حضارات العالم القديم، كالحضارة الفرعونية في مصر، والبابلية في العراق، والحضارة الهندية. 

دور مدينة  وميناء سمهرم في ازدهار التجارة 

كانت مدينة وميناء سمهرم التاريخي، ومدينة البليد الأثرية، ومدينة شصر (أوبار) من المراكز الهامة لتسويق السلع التجارية إلى مناطق جنوب شبه الجزيرة العربية وبعض حضارات العالم القديم، وقد دلت المكتشفات الأثرية في هذه المناطق على الاستيطان البشري المبكر الذي استمدته من خلال الرواج الاقتصادي في قيمة ما تنتجه وتسوقه من سلع تجارية هامة.   

وتعد مدينة وميناء سمهرم التاريخي أحد المعالم التراثية الهامة بمحافظة ظفار كونه يمثل حلقة من حلقات الاتصال التجاري والتاريخي بحضارات العالم القديم، والذي يرجع تاريخه إلى حوالي الألف الخامس قبل الميلاد، فيما ترجعه بعض المصادر إلى فترة القرن الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، وتقع مدينة "سمهرم" على الشاطئ الشرقي لشرم صغير يبعد بضعة كيلومترات إلى الشرق من سهل صلالة، ولقد حصنت مدينة سمهرم بسور حجري من الحجارة يلتف حول المدينة بطريقة محكمة حيث تم العثور على خمسة أحجار كتب عليها بالأبجدية العربية نقش كتابي يصف تأسيس المدينة وأنها بنيت لهدف رئيسي وهو تأكيد السيطرة على تجارة اللبان والبخور الذي كان يجمع فيها ويصدر للخارج.

سمهرم

 الأجزاء المتبقية من أطلال مدينة وميناء سمهرم التاريخي

وتنتشر أنقاض هذا الموقع الأثري الهام على مساحة واسعة من التلال والشعاب المحيطة بوادي خور روري، وما زالت آثار هذه المدينة باقية حتى الآن على قمة ترتفع 130 مترا عن مستوى سطح البحر، حيث كانت المدينة تتمتع بتحصين حربي يتألف من سور دفاعي من الحجر بالإضافة إلى برجان الأول بالطرف الجنوبي الشرقي والثاني بالطرف الشمالي من المدينة، بالإضافة إلى تحصين حربي يشبه القلعة بلغ عرضه ثمانية أقدام كما بلغ ارتفاعه حوالي 20 قدم.

ميناء سمهرم التاريخي

ويعد ميناء سمهرم الأثري الذي يتقدم المدينة من أقدم الموانئ في شبه الجزيرة العربية، حيث كان هذا الميناء هو الأشهر قديما في تصدير اللبان إلى الحضارات المجاورة وبالأخص الحضارة الفرعونية، وقد وجد رسم في أحد المعابد الفرعونية بوادي الملوك في مصر يعود إلى عهد الملكة حتشبسوت (القرن الخامس عشر قبل الميلاد) يشير إلى ميناء سمهرم والقافلة الفرعونية التي أتت للميناء من أجل استيراد اللبان من ظفار وتحديدا من هذا الميناء لا سيما وهو الأشهر في تصدير اللبان في العصور القديمة والوسطى ويشير بعض الباحثين إلى أن جرار اللبان العماني التي كانت ترسلها الملكة بلقيس إلى النبي سليمان كان يتم استيرادها من ميناء سمهرم، كذلك تشير الكتابات الجغرافية لليونانيين القدامى من أمثال بولينوس إلى أهمية ومكانة وقدم هذا الميناء باعتباره مركزا حيويا لتصدير اللبان. 
وقد تم اكتشاف بعض الآثار في ميناء سمهرم من خلال عمليات التنقيب التي يعود تاريخها إلى الـ 2300 ق م مما يدل علي أن هذا الميناء اكتسب مكانته التاريخية لكونه مرسى للكثير من السفن التجارية التي تأتيه من مختلف حضارات دول العالم السائدة آنذاك لا سيما الفرعونية والرومانية، والذين كانوا يتوافدون على ظفار لاستيراد اللبان والعطور والأعشاب الطبية والبخور، بالإضافة إلى كل ذلك فقد كان الميناء بحق همزة الوصل بين القارة الهندية والأفريقية والأوروبية.  

أقدم مدينة في ظفار

وتعد مدينة البليد من أقدم المدن العُمانية في محافظة ظفار حيث يعود تاريخها إلى أواخر الألفية الخامسة قبل الميلاد حسب المكتشفات الأثرية التي تبين أن الموقع كان ميناء نشطا  في تجارة اللبان، ولذلك أدرج الموقع على قائمة التراث العالمي برفقة مدينة سمهرم وهي تابعة لمنظمة اليونيسكو وتقع المدينة على الشريط الساحلي لمدينة صلالة في المنطقة الواقعة بين الدهاريز والحافة، وتعد البليد من أقدم المدن وأهم الموانئ علي الساحل العُماني، حيث تم بناؤها على جزيرة صغيرة تحمل اسم الضفة حيث ازدهرت ونمت في القرن الثاني عشر والسادس عشر الميلادي، ولقد أثبت ذلك الباحثون من خلال الدلائل الأثرية ودراسة الفخار والمواد العضوية وغيرها، انها تعود الى ما قبل الميلادي وبالتحديد إلى فترة الألف الخامس قبل الميلاد، كما اكتسبت المدينة بعد الإسلام رونقا معماريا ظهر جليا في مسجدها الكبير الذي يعد من أبرز المساجد القديمة في العالم وهو يضم 144 عمودا ويعتقد أنه بني في القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي.
أقسام مدينة البليد
تنقسم مدينة البليد إلى ثلاثة أقسام وهي:

  1. القسم التجاري الذي يقع في الجهة الشرقية من المدينة. 
  2. القسم السكني والخدمي الذي يقع في وسط المدينة. 
  3. المسجد والحصن فيقعان في الجهة الغربية ويحيط بها من الجانب الشمالي والشرقي والغربي خور البليد الذي يتراوح عمقه ما بين مترين إلى ستة ونصف المتر، حيث كان الخور يستخدم لنقل البضائع ما بين المدينة والسفن الراسية في البحر وهو يعد بمثابة ميناء طبيعي للسفن الصغيرة، كما يعمل على حماية المدينة من فيضان المياه التي تصب في البحر بالإضافة إلي الحماية من هجمات الغزاة.

وقد كشفت أعمال الحفر والتنقيب في موقع شصر الأثري عن وجود مدينة أثرية قديمة يعتقد أنها مدينة "إرم" التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، أرض قوم عاد، ولا زالت أعمال الكشف مستمرة للتنقيب عن هذه المدينة المطمورة في أعماق الربع الخالي من صحراء جنوب سلطنة عُمان.

مسجد البليد

بقايا المسجد الجامع بمدينة البليد الأثرية

ولقد جاء ذكر هذه المدينة في العديد من كتابات الرحالة والباحثين، فقد ذكرها العواتبي في القرن الخامس الهجري بأنها منازل بني سام، وأنها كانت أخصب بلاد العرب، كما ذكرها ابن منظور فقال: "وبار أرض كانت في محال عاد بين اليمن ورمال يبرين أو جبرين، فلما هلكت عاد أورث الله ديارهم الجن فلا يقربها  أحد من الناس.
ويقال إن هذه المدينة المنسية تم ذكرها في العديد من الديانات القديمة كاليهودية، والمسيحية، كما وجد إسمها على المعابد الفرعونية القديمة " كمعبد الكرنك"  و" معبد الملكة حتشبسوت" كما ورد ذكرها أيضا في الحضارات القديمة، السومرية، والبابلية، والفارسية، وبلاد الشام، وبحلول العصر البرونزي والعصر الحديدي استمر ازدهار منطقة شصر (أوبار) والتي أقيمت فيها العديد من المباني، والتي كشفت عنها آخر البعثات الحفرية مما يؤكد أن المدينة كانت مأهولة بالسكان بحكم نشاطها التجاري.
 وعموما فإن موقع شصر الأثري كان يمثل المركز الرئيسي لمنطقة نجد وظفار للتجارة البرية المتجهة نحو الشمال، والتي بدأت منذ العصر الحجري الحديث كونها مرتبطة بعلاقات تجارية وصلات حضارية بينها وبين شمال الجزيرة العربية، كما ارتبطت مع سومر في جنوب العراق لتؤكد على امتداد خط طول التجارة منذ فجر مبكر مع التجارة المتجهة صوب غزة ومصر القديمة واتصالها بهم.