"لا يمكن نقل نخلة من جنوب تونس إلى موسكو وننتظر أن تنبت" هذه العبارة التي صرّح بها المهدي المنجرة ذات يوم تكشف الكثير عن فكر هذا الرجل الذي حمل لنا أجوبة شافية لتساؤلات كانت ولا زالت تقض مضجع الباحث عن سبل لانفراج أزماتنا. مسلحا بأدواته العلمية الدقيقة لم يكتف عالم الاجتماع والاقتصاد المغربي بتشخيص عِلَل دول الجنوب بما فيها العالم العربي والإسلامي من غياب للرؤية وانسلاخ من الهوية الحضارية بل أرفق معها علاجا من بين مكوناته التمسك بالقيم الثقافية وسلك دروب تنموية متحررة من التبعية تستند على المقومات المحلية لا على المساعدات الأجنبية أو إملاءات صندوق النقد الدّولي المفقِرة للشعوب.

انطلاقا من رؤيته المستقبلية حلّل الماضي وقرأ الحاضر وكان السباّق إلى استشراف الأحداث المتسارعة والصراعات التي تعصف بالإنسانية اليوم وبالتحديد ما تعيشه منطقتنا من انتكاسات. فهو الذي عاش حياته متنقلا بين البلدان شرقا وغربا ليتوصل بعد سنوات طوال قضاها هناك أن نجاة الإنسانية من العنف والتطاحن قائم على احترام التعددية الحضارية؛ غير أن الغرب -من منظوره- لا يبذل أدنى جهد لاستيعاب الاختلاف حيث ينظر باستعلاء للحضارات الأخرى ويتسلّط ثقافيا واقتصاديا عليها. 

المتأمل لسيرة رائد المستقبليات ومساره الفكري يدرك أنه منذ اليوم الأول لم ينظر للإسلام على أنه مجرد دين يمارسه ولكنه حضارة ينتمي إليها ويثبت وجوده الإنساني من خلالها، لذلك لم تغره يوما الحضارة الغربية التي انفتح عليها وفكّك مواطن ضعفها وتخوفاتها؛ فخرج يحذّر الأمة من حرب القيم بزعامة أمريكا وحلفائها ومن خداع العولمة وسلاح الإعلام الموجه ضد كل ما هو غير مسيحي يهودي. 

إن إجماع المتابعين للمنجرة حول العالم على أنه مؤسسة فكرية قائمة الذات يدعونا للبحث والتنقيب عن ظروف نشأة صاحب الرؤى الثاقبة والسياقات التاريخية التي أثرت في تكوينه حتى أبدع مفاهيم جديدة كالحرب الحضارية، والذلقراطية، والميغا إمبريالية ويدفعنا للتقرب أكثر من حياة شخصية علميّة فريدة كان همها الانتصار لكرامة الإنسان.

بيئة وطنية نضالية شغوفة بالعلم.. المنبع الأول الذي تشرب منه المنجرة القيم

في يوم 13 مارس/آذار من سنة 1933 في حي "مراسا" الكائن خارج سور المدينة العتيقة بعاصمة المغرب الرباط رأى المهدي المنجرة النور لأول مرة. بيت الأسرة يعد من أول البيوت التي بناها والده هناك في فترة أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات. ينحدر المهدي من عائلة لها أصول شريفة تعود إلى أشراف السعديين المنحدرين من إقليم درعة بالجنوب المغربي. وأما اسمه، فقد جاء تيمنا بأحد الوطنيين والمناضلين الكبار في المغرب وهو السيد المهدي الصقلي. كان والد المنجرة -امحمد المنجرة- عضوا مؤسسا لنادي الطيران عام 1924 ومن كبار التجار المغاربة في الثلاثينات؛ كما اهتم بالعمل العقاري. 

يُرجع المنجرة الفضل إلى والديه فيما يخص تكوينه وشغفه بالمعرفة والعلم، إذ شكّل الأب للطفل القدوة والنموذج نظرا لاهتمامه اهتماما شديدا بتعليم أبنائه وتشجيعهم منذ الصغر على حرية التصرف والتعبير. أما والدته والتي كانت من بين القلة من النساء اللائي يذهبن إلى "دار المعلمة" -وهي ما بمثابة المسيد (كتّاب تعليم القرآن) بالنسبة للرجال- فقد ورث عنها المهدي حب الاطلاع والمعرفة.

في سنواته الأولى، تربى المهدي في وسط عائلي تسوده القيم الوطنية وفي أجواء شعبية مناهضة للاستعمار الفرنسي بجوار رجالات الوطنية والسلفية أمثال الفقيه محمد بلعربي العلوي والذي كان صديقا لوالده؛ الأمر الذي جعل المنجرة يحضر إلى تجمعات العلماء. "عندما كنت أسكن في مدينة الرباط كان يقيم إلى جوارنا العلامة مولاي العربي العلوي، وقد كنت أرى الناس يفدون إليه من كل حدب وصوب ليجالسوه" (1)    

أما في السنوات التعليمية الأولى للمهدي، سعى والده إلى تكوينه تكوينا متكاملا إلى جانب إخوته، حيث عمل أساتذة مغاربة من بينهم إدريس الكتاني ومصطفى الغرباوي على تعليمهم أصول اللغة والثقافة العربيتين والدين الإسلامي وذلك بالموازاة مع الذهاب للكتّاب القرآني. علاوة على ذلك، جلب المنجرة الأب مربية فرنسية لتعليم الأبناء اللغة الفرنسية.

بعد حصول المهدي على الشهادة الابتدائية، هاجر مع عائلته إلى الدار البيضاء سنة 1941 بسبب ظروف عمل الوالد ليبدأ مرحلة دراسية جديدة داخل أسوار "ليسي ليوطي". في هاته المدينة سينمو الوعي السياسي والحس الوطني للفتى المهدي لاحتكاكه بالعديد من الوطنيين وحضوره لتجمعاتهم الشعبية. وفي الدار البيضاء أيضا سيتخذ المنجرة التلميذ مواقف صريحة تعادي السياسة الاستعمارية وثقافتها، مما أفضى إلى حصوله على توبيخيات من طرف إدارة مؤسسة ليوطي لأن أحد أساتذة اللغة الفرنسية كان يشترط أن يشيد التلميذ بالعلاقات الفرنسية المغربية ومحاسن الاستعمار فكان يرفض الثناء على المحتل في تمارين الإنشاء. 

أما في مادة التاريخ، فالمهدي كان يحتج داخل القسم عندما تُحرف الوقائع التاريخية، هذا السلوك عرضه مرارا للمجالس التأديبية إلى أن قُرّر طرده.

تجنّد المنجرة منذ صغره لمناهضة الظلم والوقوف ضد الغطرسة الثقافية. يَذكُر أنه في سن الرابعة عشر كان في أحد مسابح مدينة إفران فاقترب كلب من ماء المسبح وبدأ يشرب منه، احتج أحد الفرنسيين فأجابه آخر "هناك عرب يسبحون هنا، فلم لا الكلاب؟" لم يستسغ المنجرة هذه الإهانة ودخل في مشادة كلامية مع هذا الفرنسي، الذي لم يكن سوى رئيس فرقة الأمن الإقليمي بإفران. اقتيد المهدي إلى دائرة الشرطة حيث اعتقل لعدة أيام دون علم العائلة. 

وفي تطرقه لحادثة أخرى طبعت صباه يقول: "منذ أكثر من خمسين سنة وكنت وقتها في إحدى ثانويات الدار البيضاء، أعطانا أستاذ اللغة الفرنسية موضوعا للإنشاء يقول "احكوا كيف أحسستم لأول مرة بالسخط أمام مشهد للظلم"، ولا زلت أحتفظ إلى اليوم بورقة درس الإنشاء هذا: كان أحد ماسحي الأحذية يعرض خدماته على أحد الزبائن على سطحية إحدى المقاهي، غير أن الزبون رفضها لمرتين قبل أن يقوم بركله. تقدم الماسح إلى شرطي كان شاهدا على الحدث شاكيا له ما تعرض له. طلب منه الشرطي الذهاب إلى حال سبيله لأنه هو المخطئ باعتبار أنه كان يضايق الزبون. إنها قصة طبعت حياتي ولا زالت ماثلة أمامي حتى اليوم من خلال الظلم الذي يتعرض له ملايين البشر في العالم. وقد توسع هذا الشطط بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وبزوغ عصر "الميغا إمبريالية" أي الإمبريالية العظمى بقيادة الولايات المتحدة وتحالفاتها ذات الهندسة المتنوعة". (2)

طلب العلم خارج حدود الوطن.. ماذا حملت تجربة "أول تلميذ مغربي بأمريكا" للمنجرة؟

نظرا لرفض المنجرة في العديد من المدارس بسبب وقوفه ضد الدعاية الاستعمارية على حد قوله وبناء على إيمان والده بأهمية التعددية في التكوين، سافر سنة 1948 وهو في عمر الخامسة عشر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة دراسته بالثانوية التجريبية "باتني". استمر تكوين المنجرة بهاته المؤسسة إلى حدود سنة 1950 تعّرف خلال هذه الفترة على نظام تعليمي مميز وانفتح على معارف وعلوم جديدة كما حظي في العديد من الأنشطة الدراسية على ثناء أساتذته. من بين العروض التي قدّمها عرض أنجزه حول التاريخ الأمريكي، أشاد فيه الأستاذ المشرف بسعة تفكير التلميذ المهدي ونوّه بانتباهه لظاهرة الإمبريالية. اهتم المهدي كذلك بدروس الأدب المقارن، خاصة الأدب الأمريكي والفرنسي في القرن التاسع عشر، وأنجز عنهما العديد من الأبحاث. بعد محطة "باتني" التحق المهدي المنجرة بجامعة "كورنيل"، وتخصص في البيولوجيا والكيمياء غير أن ميولاته السياسية والاجتماعية دفعته إلى المزاوجة بين دراسته العلمية من جهة، والعلوم الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية. 

كانت إقامة المهدي "أول تلميذ مغربي في أمريكا" من 1948 إلى 1954 غنية على المستوى المعرفي والثقافي والسياسي، تُوجّت بحصوله على الإجازة في سن الواحدة والعشرين. فقد كان عضوا في فريق لكرة القدم ومؤسسا للنادي الشرقي ولجمعية المسلمين ورئيسا للمجلس العالمي للطلبة وعضو هيئة تحرير "كورنيل ديلي سان" التي تصدرها جامعته. أما على مستوى العمل الوطني والإقليمي، عمل المنجرة منذ سنة 1951 رفقة المهدي بنعبود الذي كان سفيرا للمغرب بواشنطن وآخرين لصالح استقلال المغرب. كما ساند نضال الدول الإفريقية من أجل التحرر بما في ذلك مجهودات الجزائريين والتونسيين، حيث تابع الإجراءات مع السي باهي الأدغم عندما جاء إلى نيويورك في الخمسينات بهدف فتح المكتب التونسي، وعمل مع الحسين آيت محمد ومحمد اليزيد على تأسيس مكتب الجزائر بأمريكا. 

كان يتحرك الشاب المنجرة وفق توجه مغاربي أوسع فالحدود التي خلقها الاستعمار الحديث لم يكن لها اعتبار بالنسبة له.

بعد رفضه التجنيد الإجباري للمشاركة في الحرب الأمريكية الكورية والذي كان مفروضا على كل حاملي البطاقة الخضراء، قرر المنجرة أن يغادر الولايات المتحدة نحو جامعة لندن لمتابعة دراسته العليا في الاقتصاد والعلوم السياسية ليشرع عام 1954 في التحضير لأطروحة الدكتوراه حول موضوع "الجامعة العربية البنية والتحديات". في سنة 1955 حصل المهدي على منحة من مؤسسة "روكفلر"، مكنته من السفر إلى الشرق الأوسط لمدة ثلاثة أشهر، التقى فيها بعدد من المسؤولين عن الجامعة العربية وبمفكرين وإعلاميين وطلبة كما التقى بشخصيات هامة من بينها المجاهد المغربي عبد الكريم الخطابي. تعرف المهدي أيضا على رواد الحركة القومية العربية أمثال الكاتب والمفكر ساطع الحصري، الذي كان يرأس مركز الدراسات بالجامعة العربية، وهناك أطلعه على أرشيف منظمته.

بعد إنجازه أطروحة الدكتوراه عن الجامعة العربية، أدرك المنجرة أن هاته المؤسسة لا يمكنها أن تقدم شيئا للقضايا العربية وأولها القضية الفلسطينية أو أن تخدم مصالح الشعوب في الوطن العربي لأنها أُنشئت على أسس استعمارية لإبقاء السيطرة على العالم العربي؛ بل في تقديره عمقت الانقسام بين دول المنطقة شأنها في ذلك شأن منظمة المؤتمر الإسلامي التي لم تسلم هي الأخرى من انتقاده اللاذع خلال جميع الأزمات التي مر منها العالم الإسلامي. 

هذا ما خَلُص إليه المنجرة عن الحضارة الغربية بعد مسار أكاديمي وبحثي فريد في المؤسسات الدولية

بعد قرار السلطات الفرنسية نفي الملك محمد الخامس، كان المنجرة في قلب هذا الحدث التاريخي للقضية الوطنية باعتباره واحدا من الطلبة المغاربة الذين استقبلهم الملك في العاصمة الفرنسية بعد عودته وأفراد عائلته من المنفى. وبعد استقلال المغرب سنة 1956، عُيّن كأول أستاذ مغربي محاضر في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس في الرباط كما كان أصغر الأساتذة فيها سنا، ونُصّب كذلك مديرا للإذاعة والتلفزة المغربية. 

لم يستمر وجود المنجرة على رأس الإذاعة الوطنية طويلا، إذ قدم استقالته والتحق بمنظمة اليونسكو عام 1962 ليشتغل مديرا لديوان المدير العام للمنظمة "روني ماهو". وفي عام 1970 عمل في كلية العلوم الاقتصادية بلندن أستاذا محاضرا وباحثا في الدراسات الدولية، وكان أول مستشار للبعثة الدائمة للمغرب لدى الأمم المتحدة كما تولى خلال عامي 1975 و1976 مهمة المستشار الخاص للمدير العام لليونسكو. 

في عام 1981، انتُخِب رئيسا "للاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية" وتقلد منصب رئيس الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية في المدة ما بين 1977 و1981. أدار المنجرة أيضا مجلة "فوتوريبل" المتخصصة في علم المستقبليات التي تصدر بفرنسا وساهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات. أما بالنسبة "لنادي روما"، فقد كان المهدي المنجرة أصغر الأعضاء سنّا ضمنه منذ تأسيسه سنة 1968 وهو من ضمن الثلاثة الذين ألفوا تقرير النادي سنة 1979 تحت عنوان من "المهد إلى اللحد" الذي تطرق فيه لإشكالية الموارد البشرية وقيمتها وأهميتها. تُرجم الكتاب إلى 12 لغة عبر العالم وحاز على استحسان المختصين كما اعتمد من طرف عدة دول كخارطة طريق لإصلاح أنظمة التعليم. 

بعد تأليفه كتاب "نظام الأمم المتحدة" (1973) غادر هذه المؤسسة سنة 1976 وتخلى عن جميع حقوقه فيها كما ترك العمل في اليونسكو وغيرها من المنظمات الدولية بعد ما خبر دهاليزها وانحيازها وتيقن أن القيم التي تخدم مصالحها هي القيم المسيحية اليهودية وأنها لا تُقدّر أهمية التواصل الحضاري. "حين كنت في اليونسكو عُينت نائبا عاما لها ومسؤولا عن العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية والثقافة والفلسفة، فعاينت طبيعة التعامل والتعاون والتواصل الثقافي، وازددت قناعة بفكرة ابن خلدون في أن القوي ينطلق دائما من قيمه، والحقيقة تحتاج إلى القوة، وعندما تخسر قبيلة ما النزاع يكون أول رد فعل عندها هي أن تقلد القبيلة التي تفوقت عليها. والرغبة في قيادة الإنسان كثيرا ما تحرك ما يسمى بالحضارة الغربية في علاقاتها مع الآخر. من ثم كان من العسير جدا لأي منتم للحضارة الغربية أن يتكيف مع أية حضارة أخرى من غير حضارته. من جهتي لا يعترضني أي حرج في التعامل مع الحضارة الغربية وإنتاجها الفكري والأدبي والفني والفكري، فأنا أعيش في زمنها وبيئتها، ولكن الإشكال أننا نتعامل معها بينما هي لا تتعامل معنا بل تحاول إخضاعنا لقوانينها وقيمها." (2)

خاض المنجرة تجربة علمية ومهنية مميزة في آسيا عبر بوابة اليابان مكّنته من التعرف عن قرب على ركائز التنمية في هذا البلد وارتباط ذلك بالقيم الحضارية، حيث تولى في التسعينات عمادة الجامعات اليابانية. 

تعددت عضويات المنجرة في المنظمات والأكاديميات الدولية، كالأكاديمية الأفريقية للعلوم والأكاديمية الدولية للفنون والآداب والأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون والآداب، والجمعية العالمية للمستقبل، و"الاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين"، و"منتدى العالم الثالث". بالإضافة إلى تحمّل مسؤولية رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية، وتأسيسه المنظمة المغربية لحقوق الإنسان. وقد حاز على عدد من الجوائز والأوسمة منها: جائزة الأدب الفرنسي في جامعة كورنيل (1953)؛ وسام الاستقلال بالأردن (1960)؛ وسام ضابط للفنون والآداب بفرنسا (1976)؛ الجائزة الفضية الكبرى للأكاديمية المعمارية بباريس (1984)؛ وسام الشمس المشرقة الوطني عن بحث بخصوص أهمية النموذج الياباني بالنسبة لدول العالم الثالث منحه له الإمبراطور الياباني (1986)؛ جائزة السلام لسنة 1990 من معهد ألبرت آينشتاين الدولي.

انعدام الرؤية المستقبلية وغياب الذاكرة الجماعية أولى أزمات العالم الإسلامي حسب رائد علم المستقبليات

يهدف علم المستقبليات إلى تتبع ودراسة توجهات الأحداث، ومآلها على المدى البعيد فهو لا يتعلق بنبوءة ولا كهانة ولا رجم بالغيب، لأن القرآن الكريم -كما يقول المنجرة- مليء بالمصطلحات الداعية إلى الاستعداد للمستقبل العاجل أو الآجل والنظر في مآلات الأمور. ويضيف إلى أن العناية بالمستقبل ليست أمرا جديدا عندنا فَلِفهم معنى الرؤية المستقبلية يمكن الاستعانة بما كان يسميه الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستبصار. 

يُعرّف المنجرة المستقبليات على أنها ليست علما قائما بذاته، وإنما استعانت مناهجها بالعلوم الحقة والعلوم الاجتماعية، أما موضوعها فهو الدراسة لوضع معين بشكل مفتوح على البدائل والخيارات لتفحص جميع التطورات، واستقراء النتائج الممكنة المترتبة عن قرار ما على هذه التطورات. 

والغاية الأساسية من هذه الدراسات هي تحديد الأهداف المتوخاة وجعلها ممكنة على المدى المتوسط أو البعيد من خلال التأثير على الحاضر ومجراه. ووصف المنجرة في هذا السياق استغلال المستقبل لأغراض ديماغوجية وسياسية للتهرب من مسؤولية الحاضر بالجريمة التي تتنافى مع مفهوم الدراسات المستقبلية واعتبرها خيانة لعلوم المستقبل وللشعوب.

الذاكرة باعتبارها قيمة للبقاء

يرى المنجرة أن التفكير في المستقبل ودراسته يشترط أولا الرجوع إلى الماضي ومعرفته،  غير أن الإشكال هو أن ماضي العالم الثالث والإسلامي ليس بيديه، فقد كتبه الآخرون وفق رؤيتهم ومصالحهم، لذا يتعين أولا استدراك التراث والتاريخ المسلوب منا، إذا ما أردنا تحررا حقيقيا. "الاهتمام بالدراسات المستقبلية يمس حتى الماضي وخصوصا في مناطقنا، نحن في ماضينا كنا مستعمرين، وماضينا له مستقبل. أنا على يقين أن المسلمين بعد نحو عشرين أو ثلاثين سنة ستكون لهم مفاهيم أخرى لهذا التاريخ. حتى هذا التاريخ له مستقبل. فنظرا لظروف الاستعمار وتأثير المستشرقين و"المثقفين" المرتزقة في البلاد الإسلامية الذين يخدمون في إطار الحملة ضد العالم الإسلامي، حملنا كثيرا من الأخطاء والتقويمات غير السليمة." (4)

وفي هذا الإطار ينبه المنجرة من خطر غياب الذاكرة الجماعية وتشويه الحقائق التاريخية على الأجيال الحالية والقادمة ويعتقد أن عدم مطالبتنا باستردادها سبب من أسباب ضعفنا. وفي العالم الثالث -يُفصّل المنجرة- قد يكون العالم العربي والإسلامي هو الذي تعرض لأكبر عدد من الإهانات الخارجية والداخلية في التاريخ المعاصر مما يجعل الذاكرة سلاحنا لتوثيق الماضي، وفهم الحاضر وبناء المستقبل. "يمكن أن تدمر البنيات التحتية، لكن يستحيل تدمير ذاكرة شعب، مثلما يعمل أولئك الذين يقومون اليوم بالتطهير الإثني في إسرائيل؛ لقد فقد العالم الإسلامي ما يقارب 12 مليونا من الأرواح منذ الحرب العالمية الثانية أثناء النزاعات المدبرة بالنيابة. وفي اليوم الذي سيتوفر فيه العالم الإسلامي على بنك للمعطيات لجميع ضحايا هذه النزاعات، آنذاك يمكن له أن يتحدث عن الذاكرة كقيمة للبقاء." (3)

وفي ربطه الماضي بالمستقبل يفسر المنجرة أنه إذا كان ماضينا مرهونا بيد غيرنا فإن مستقبلنا هو أيضا سجين رؤى صندوق النقد الدولي، ومخططات الدول الغربية ليصير بذلك تحررنا رهينا بثلاث محطات: تحرير الماضي من أيدي الآخرين، ثم قراءة الحاضر وصناعة المستقبل بالابتعاد عن التقليد. "مستقبلنا ليس بأيدينا وماضينا ليس بأيدينا أيضا، فنحن يلزمنا حسب التقديرات 60 سنة لدراسة ماضينا. في هذا الوقت الغرب لا ينتظرنا، فقد درس مستقبلنا ولديه توقعات حولنا ويتصرف على هذا الأساس. نحن بدون ماض وبدون حاضر ومستقبلنا مرهون، وهذه قضية خطرة للغاية." (4)

أي مستقبل للعالم الإسلامي؟

أسهم المنجرة سنة 1990 بشكل متميّز في تنظيم أوّل مؤتمر حول مستقبل الإسلام، وكان ذلك بالجزائر العاصمة، حيث شارك في اللقاء العديد من العلماء والأكاديميين من بينهم الغزالي والغنوشي والترابي والقرضاوي. أجمع مجمل الحاضرين على أن الإسلام بلغ أدنى مستوياته لأن المسلمين ابتعدوا عن الاجتهاد والإبداع والخلق وسجنوا أنفسهم في الماضي دون الانفتاح على المستقبل الذي كان الإسلام يولي أهمية بالغة له. 

وأكّد المنجرة خلال المؤتمر أن التهوين من الأهمية الاستراتيجية للدراسات المستقبلية سمة حادة من سمات التخلف، فالمشكل بقدر ما يكون خطيرا وعويصا وملحا ومستعجلا، بقدر ما يتطلب حله نظرة بعيدة الأمد. 

وفي نهاية اللقاء اتفق الجميع على أن الأولويات بالنسبة لمستقبل العالم الإسلامي تكمن في محو الأمية ومحاربة الفقر عبر توزيع عادل للثروات داخل البلدان وفيما بينها، وتخصيص استثمارات أكبر وأهم للبحث العلمي.

"لقد كان رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام يمضي على نور الوحي نحو المستقبل، غير ملتفت للوراء، ولا مكترث بما يحدثه من ضوضاء الراغبون في منعه من بناء المستقبل. ذلك أن الإسلام دينا ومجتمعا يهتم أساسا بالرِؤية نحو الآفاق، بغية التحفيز على العمل في الدنيا والآخرة، وينهى عن الكر إلى الماضي والتقوقع في دوامة قضايا الواقع المجرد من دوافعه الماضية، ونتائجه المقبلة. كان النبي لا يلتفت إلى الوراء متقدما نحو الغد لقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله أي أن دخول المرء في الإسلام يضفي عليه خاصيتين: الأولى جب ما قام به الفرد من ذنوب أو معاصي قبل اعتناقه، فلا حاجة إلى الالتفات إليها إلا بقدر ما يحفز على استغلال الغد، والثانية المسؤولية عن ما بقي أي ضرورة عنايته بمستقبله والتطلع لآفاق غده." مقتطف من خطاب المنجرة في المؤتمر

لماذا العولمة أشد خطرا على الحضارات من الاستعمار القديم؟

يُعد المنجرة من أكبر مناهضي العولمة حيث ظل ينتقدها بشدة في كتاباته ومحاضراته معتبرا إياها أداة من أدوات "الاستعمار الجديد" الذي يسعى إلى الهيمنة وتنميط الثقافات واغتيال الحق في الاختلاف. بذلك فإن الصراع الحقيقي بين الدول -حسب تحليله- لا يقوم على المصالح الاقتصادية وإنما على القيم التي يراد لها أن تهيمن على العالم وهذا في منظوره أشد خطرا من الاستعمار العسكري الذي كان يمتاز على الأقل بالوضوح وإخضاع صريح للشعوب.

أما الشكل الجديد وهو الاستعمار الاقتصادي والثقافي والقيمي -الذي يصفه المنجرة بالذُّل- يشكل عدوانا على منظومة القيم وسعي إلى نسخها واستهدافها. العولمة، بالنسبة له، ليست إلا أمركة ترتبط ارتباطا لصيقا بالأخلاق قبل الاقتصاد، لذا فهوية دول العالم الثالث مسلوبة، لأن استقلالها رهين بالتحرر الثقافي والحضاري من سلطة "الأَمرَكة". 

ويستغرب المنجرة من الذين يدعوننا إلى الثقة بالعولمة وتقبلها؛ فَهُم وفق تعبيره قد احتلوا البلدان ورشوا الحكومات واشتروا أقلام مثقفي العالم الثالث، وسهلوا اجتياح الشركات المتعددة الجنسيات، للاستحواذ على المقاولات العمومية، وبالتالي إضعاف الاقتصاديات الوطنية لبلدان الجنوب.

وعلى هذا الأساس يُشدد المنجرة على أهمية "إعادة عولمة هاته العولمة" قائلا: "مفهوم العولمة مفهوم جذاب وغني. لقد كان موضوع استعمال سيميائي مبالغ فيه ومخادع. وإن إعادة امتلاكه تتطلب قسرا: 'إعادة عولمة العولمة'." (1)

الحرب الحضارية: الأطروحة القائمة على مركزية القيم في الصراعات

أسباب الصراعات المستقبلية ستكون بالأساس ذات طبيعة ثقافية وحضارية، هذه هي الأطروحة التي قدمها المنجرة تحت مفهوم "الحرب الحضارية". لقد كان مفكرنا السبّاق لاكتشاف هذا المفهوم ووظّفه كموقف وقائي ينتصر للإنسان بأبعاده التاريخية والحضارية، لأن هذه الحضارة الإنسانية -في مشروعه التحليلي- لم تأت من فراغ، بل تحقّقت بمجهودات كل البشر. شروط الحرب الحضارية -حسب صاحب مشروع الدراسات المستقبلية- تتحقق باستهداف القيم لأنها هي أساس قوة الشعوب ودوامها.

مقاربة المنجرة تهدف إلى استباق الأمور لتفادي النزاعات وذلك بالاهتمام بالقيم الثقافية وعدم إقصائها. أما صامويل هنتغتون -والذي اعترف بأن المهدي المنجرة قد سبقه إلى اكتشاف مفهوم "الحرب الحضارية"- يعتبر أن البذرة الوراثية للعنف توجد في الحضارات حيث أن موقفه مبني على تصور عدواني وتخوف من كل ما هو غير يهودي مسيحي. 

"هنتنغتون هو الذي تبنى مفهوم "صدام الحضارات" في مقالة صدرت في أبريل 1993. وقبل ذلك، كنت قد استعملت تعبير "الحرب الحضارية" في حوار مع المجلة الألمانية "شبيغل" يوم 15 فبراير 1991 التي جعلت منه عنوانا على صدر غلافها المخصص لحرب الخليج. وقد قلت حينها بالحرف: "هذه هي الحرب الحضارية الأولى". ليس لي إذن أن أقارن نفسي بهانتنغتون لأن أطروحاتنا ليست متماثلة، فأطروحتي "استشرافية" أما أطروحته "فتوجيهية". ومن خلال وظائفي الدولية خلال 20 سنة كنت خلالها مكلفا بالثقافة عبر العالم، أدركت أن المصدر الأساس للنزاعات يوجد على مستوى أنظمة القيم الثقافية." (2)

ومن زاوية العلاقات الدولية، يرى المنجرة أن العالم الغربي الذي عرف اليوم تطورا وقوة في شتى المجالات يشهد أزمة على مستوى القيم، فالعديد من الدول الغربية التي نصّبت نفسها حامية لحقوق الإنسان، تنتهك هذه القيم بشكل سافر في مناطق عدة من العالم العربي والإسلامي دون أن يتصدى لها أحد. أما أزمة العالم العربي والإسلامي إلى جانب غياب الرؤية هي أزمة أخلاقية في العمق تلقي بظلالها على السياسة والاقتصاد والتربية والتعليم.

وعليه يبيّن المهدي المنجرة أن الحوار الحضاري هو حل ضروري وجوهري في ظل الصراع بين الشمال والجنوب وأن مستقبل الإنسانية متوقف على القيمة التي سنمنحها للإنسان بدون تمييز. "فبعد خمسة عشر أو عشرين سنة سيبرز بشكل جلي دور الحضارات غير المسيحية وغير اليهودية كالحضارة الصينية اليابانية، الهندية، حضارات وسط وجنوب شرق آسيا، والإسلام أيضا سيكون له حضور لأن عدد المسلمين سيصبح بعد أربعين سنة حوالي مليارين وهو مجموع ساكنة المعمورة في بدايات 1900. وللإشارة فعددنا اليوم 1400 مليون. إن هذا التغيير الكمي سيجلب تغييرا كيفيا ولا يدوم إلا الله. لكن الإشكالية الحقيقية تكمن فيما إذا كان العالم المسيحي اليهودي متوقعا ومستوعبا لهذه التغيرات، وهل سيأتي التغيير بطرق سلمية أم بلغة العنف والانفجار في حالة رفض هذا التغيير، إذ لا وجود لحل ثالث، فإما الحوار أو الاصطدام الحضاري من خلال انتفاضة عالمية." (5) 

الإسلام ليس مجرد دين وإنما مشروع مجتمعي ومنظومة قيم لا تقبل التفكيك 

في تحليل المنجرة، الخوف من الإسلام، هو إحدى أكبر حالات الهوس التي يعيشها الغرب، ويرجع السبب في هذا الرّهاب إلى الجهل وغياب التواصل الثقافي والرغبة في إذلال الآخر. والإسلام يُحارب كحضارة حاملة لقيم لا يراد لها أن تنتشر ولا أن تقول كلمتها إلى جانب الحضارات الأخرى. هذا الهاجس من الإسلام أدى إلى الحكم بالترهيب والتخويف حتى أضحى الخوف هو المحرك لخطوات أصحاب القرار في العالم. "فالإسلام ليس دينا فحسب؛ فهو -أولا وقبل كل شيء- رؤية، ومشروع مجتمعي ونظام لقيم مجتمعية ثقافية. إنه نظام يدافع عن مبدأ التعددية الثقافية، وهذا أحد الأسباب التي ساهمت في نجاحه وسرعة انتشاره؛ لأن الإسلام لم يدع أبدا إلى فرض نظام ثقافي متجانس. إن التعددية، ما يمنح للوحدة معنى الوحدة، التي لا تستثني التسامح مع كل الثقافات." (3)

يستمد الإسلام قوته من دوره الحضاري حسب المنجرة، ذلك أن دول العالم العربي والإسلامي استعانت به كحركة تحريرية وأخذت منه الزاد الفكري لمواجهة الاستعمار: "لنتأمل ما قام به الجنرال ليوطي قبل مجيئه إلى المغرب والجزائر، وما قام به آخرون في الحركة الاستعمارية عن طريق خبراء وعلماء ومستشرقين ممن كانوا يأتون قبل سنة 1912، حيث استوعبوا أن أي مجتمع إسلامي لا يتعامل مع الإسلام كدين فقط، ولكن الإسلام شمولي ووسيلة تفكير وعلاقات تواصل وفلسفة حياة، وتوّصلوا إلى أنه من غير الممكن أن تفككه، بمعنى إما أن تمارسه كله أو تتركه كله وواضح أن مفردات مثل العلمنة أو العلمانية لا أساس لها في هذا التفكير الشمولي لقوة الإسلام. لا تنس أن "كرومويل" دخل إلى البرلمان الإنكليزي وكان للإنجليز آنذاك مشاكل كبيرة مع مصر. دخل والقرآن بيده وقال "مادام هذا الكتاب يحترم ويقدس في مصر، فلا مستقبل لنا فيها." (2)

وكشف المنجرة أن مسلسل الحروب الحضارية سيستمر وسيأخذ نهجا جديدا يتمثل في حرب حضارية داخل الحدود وهي ما قدّمها تحت مسمى "حروب الألفية الثالثة" ولقد صدق توقعه نظرا لما تعيشه الأقليات المسلمة اليوم في العالم من اضطهاد وتضييق.

يقول في تعريفه لهاته الحرب: "وهي ليست فتنة، بل دفاع عن كرامة الوجود داخل المجموعة؛ دفاع عن المقدسات وعن المعتقدات وعن الموروثات والمكتسبات والحقوق التي تشكل توليفة الشخص في حد ذاته، والأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة ستكون أكثر عرضة لهذه الحرب. ونلاحظها في الصين والهند، فالأقليات المسلمة ستمر من فترات أشد من هاته التي تعيشها حاليا لاعتناقها ديانة يتخوف منها كل مجتمع مسيحي يهودي." (1)

الغزو اللغوي: آلية من آليات الحروب الحضارية للنيل من الإسلام

تنبه المنجرة مبكرا إلى الحرب الإعلامية أو ما يسميه القوة الناعمة التي تمارس على العالم الثالث وعلى المسلمين وأدرجها في إطار الحرب الحضارية، وتشتغل هذه الحرب على مستوى بنيوي عبر تغيير تفكير الآخر ومرجعيته وذاكرته. يصف المنجرة ما يعمل عليه الإعلام اليوم بالخديعة السيميائية، في إشارة منه إلى استغلال اللغة وتوظيف المصطلحات وفرضها علينا دون أن نمتلك الحق في مساءلة مدى صحتها أو الاعتراض عليها وهكذا يحصل ما يشبه غسيل الدماغ عبر إدخال معانٍ محددة لتتشكل صورة ذهنية للفظ ما. 

يُرجع المنجرة غياب الوعي الكافي بهذا العنف اللفظي إلى التأخر في تطوير لغاتنا، وعدم امتلاكنا مرجعية علمية لضبط الألفاظ التي تتهاطل علينا باستمرار. "إني لست ضد تبادل وتلاقح اللغات والحضارات ولكن شريطة ألا يتم هذا التبادل في إطار فرض المعاني وتجويف ألفاظ اللغة الأم من معانيها الأصلية، وطرح البديل السيميائي الخداعي على الطاولة." (5)

مصطلح "الإسلامي".. ما أصله ولماذا انتشر؟

وفي طرحه لأمثلة هذا الغزو السيميائي، يعلق المنجرة أن الإسلامفوبيا في الغرب تتجلى في الترويج الغير مسبوق لكلمة "إسلامي" و"إسلامي متطرف" و"إسلاموي" في التداول الإعلامي وعناوين الكتب ومحركات البحث.

وهذا الخوف في تحليله امتداد لانعكاسات نتائج أول إحصاء قام به الفاتيكان في العالم عن الإسلام سنة 1976 كشفت أنه لأول مرة في تاريخ الإنسانية، يفوق عدد المسلمين عدد الكاثوليك، لتبدأ بذلك عملية حرب إعلامية نفسية، تمت أساسا من خلال توظيف مصطلح "الإسلامي" (Islamist). 

يحتج المنجرة على هذا المصطلح -والذي تستخدمه بعض الحركات في بلداننا عن غير وعي على حد قوله- لأنه اختراع حديث من لدن غير المسلمين وجد صداه الإيجابي في العالم الإسلامي، ويضيف أنه تحريف تاريخي ولغوي اُعتمد عن قصد للتفريق بين المسلمين والإسلاميين حتى يمكن للغرب القول بأنه لا يعادي الإسلام دينا وعقيدة وإنما هو ضد الإسلاميين المتطرفين. "في اللغة العربية "إسلامي"، لا وجود له في القرآن إذ لا نجد إلا "المسلم" و"المؤمن"، ولا أثر لها في الأحاديث النبوية الشريفة ولا في الأدبيات القانونية الإسلامية. و"إسلامي" هو مرادف: إسلاميك، في اللغة الفرنسية، لكن باللغة العربية، المصطلح لا يعني، على الأقل خلال السنين الأخيرة، أفرادا معينين. في اللغة الإنجليزية نجد أن قاموس وبستر یكتب: "الإسلاموي هو المسلم الأرثودوكسي، طالب أو محصل للإسلاميات (دراسات العالم الإسلامي). في النصوص التقليدية المغربية، نجد أن استخدام كلمة «إسلامي» يعني المهاجرين القادمين من إسبانيا والذين اعتنقوا الإسلام. لماذا لا نتحدث عن "مسيحياوي" أو "يهودياوي": أنا أتهم الكلمة واستخدامها، إذ أن تمرير الكلمة ونشرها على نطاق واسع إنما هو خوف من الإسلام سيما بعد انتصار الثورة الإيرانية وكذا نتائج الانتخابات الجزائرية سنة 1991." (5)

يُظهر المنجرة على مستوى آخر أن استخدام الخديعة اللغوية في إنتاج الألفاظ وتركيبها تركيبة خاصة هو نوع من الإرهاب وخطره يكمن ليس فقط في فرض القيم بل في إرغامنا على الرؤية من زاوية مبتدعي هذه الألفاظ. وهنا لا يُسقط عنا المسؤولية في تشويه صورة مجتمعاتنا أمام الرأي العام العالمي ومساهمتنا في ترويج للكلمات الدخيلة.

"الحرب على الإرهاب": هل وقعنا في شراك الغزو اللغوي؟

من بين المظاهر الأخرى الأكثر نجاعة لهذا الغزو اللساني للغرب -حسب المنجرة- هو حينما فُرض علينا مفهوم الإرهاب واجتهدت الحركات الإعلامية المنظمة كي تربط بين العنف والتطرف والإرهاب والإسلام. ويعلن أنه بظهور مرحلة ما يسمى "الحرب ضد الإرهاب" دخلنا رسميا في عهد الخوفقراطية الذي أضحى فيه الخوف وسيلة مهمة للتحكم والسيطرة. "أنا كأستاذ في القانون الدولي والعلاقات الدولية أقول، إنه لا يوجد إلى حد الآن أي تعريف متفق عليه بخصوص ما هو الإرهاب. ليس هناك أي تعريف منبثق عن الشرعية الدولية ومتفق عليه بخصوص الإرهاب، داخل الأمم المتحدة. لقد حاولت واشنطن حسم هذا الإشكال بعدة طرق، لكنها فشلت فشلا ذريعا؛ فكيف يمكن الترويج لمحاربة الإرهاب؟ لقد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية عدة قوانین، وبعد إقرارها؛ بدأ التصدير لها بسرعة فائقة، ثم اعتمدتها الدول الأخرى وأنتجت قوانین تسير على منوالها، وتم تمريرها بالبرلمان بسرعة لم يسبق لها مثيل؛ هكذا، وبكل بساطة، كانت الانطلاقة لتصدير الخوفقراطية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى العالم بأسره." (3)

من جهة ثانية، يحسم المنجرة الجدل في معنى مفردة "الإرهاب"، موضحا أن الإرهاب بالمعنى الشمولي غیر موجود، فالإرهاب الحقيقي هو الذي تنتهك به دول سيادة الشعوب وحريتها. "من هي البلدان التي بدأت إرهاب الدولة والتي انتهكت أكثر من غيرها القانون الدولي، عبر تنظيم انقلاب عسكري ضد مصدق عام 1953، وخطف طائرة أحمد بن بلة في أكتوبر 1956، وإنزال قناة السويس بعد أسبوع من ذلك، واحتلال بلدان أمريكية لاتينية وقصف منزل رئيس دولة، أو مراكز أبحاث، والقيام بعلميات كوماندوس خارج حدودها والقيام بعمليات تصفية جسدية ضد رجال سياسة ومثقفين في الجنوب ومن استخدم باضطراد حق "الفيتو" ضد إرادة المجموعة الدولية كاملة؟" (4)

ولايسثتني مما سبق الإرهاب الذي مُورس ضد الحركات التحررية عبر التاريخ "ويُعتبر ما حدث للفيتنام، مثله مثل باقي الحروب ضد حركات التحرر الوطني، نموذجا جليا لإرهاب الدولة. كما أن العدوان على العراق وفلسطين والبوسنة في السنين الأخيرة من الطبيعة نفسها." (2) 

بناءً على ذلك، يدعونا المنجرة إلى عدم الوقوع في فخ الخطاب الذي يسعى إلى نفي العلاقة بين الإسلام والإرهاب لأنه كما يقول يحمل داخله نوعا من الاعتراف بالإرهاب. "حين يذهب شخص إلى محكمة من تلقاء نفسه، ليعلن بأنه ليس لصا أو قاتلا، فذلك يسمى في القانون بداية حجة. هل تتصور مقالا أو محاضرة عن الإرهاب والكاثوليكية، أو عن الارهاب واليهودية؟ ترى ماذا عن الذي حصل في الباسك وفي إيرلندا أو ما حصل لدى الصرب؟ لكن لم يتكلم أحد عن الإرهاب والمسيحية. فلماذا تتحدث إذن عن الإرهاب والإسلام؟ إنه فخ على مستوى التحليل نفسه، وهو أمر مقصود." (2)

أما في إجابته عن أفق الإعلام في أوطاننا، يعتقد المنجرة أن التفكير في مستقبل الإعلام هو بمثابة التفكير في ظاهرة الاستعمار، لأن الإعلام شكل من أشكال الاستعمار الذي يستوجب استقلالا، لذا نحتاج نوعا من تقرير المصير بالنسبة لإعلامنا، حتى نتمكن من فهم خلفية المواد الإعلامية الوافدة إلينا من الخارج. أما على المستوى الداخلي فتقرير المصير في نظر المنجرة هو أن يكون لكل فرد حد أدنى في التعامل مع الإعلام ليُحصّل المناعة الفكرية اللازمة.

لا حلاً جذريا لأزمات العالم الإسلامي والعربي دون تحرير فلسطين

لفلسطين مكانة خاصة في وجدان المنجرة فهو الذي صرّح في أكثر من مناسبة أنه يعتبر نفسه محتلا ما دامت فلسطين محتلة وما دام الفلسطينيون لم يسترجعوا كرامتهم، إذ لا أمل لتحرر حقيقي للعالم العربي والإسلامي دون تحرر هذه البقعة من العالم. القضية الفلسطينية بالنسبة للمنجرة تمثل الظلم المتراكم للمرحلة ما بعد الاستعمارية، وتجسيدا لامتداد الظلم عبر التاريخ. 

يَرجِع اهتمام المنجرة بالقضية الفلسطينية إلى سنة 1948 عندما صادف قدومه إلى الولايات المتحدة الاعتراف بقيام الكيان الصهيوني، ووقوع الحرب العربية الصهيونية، وفي نيويورك وجد اللوبي الصهيوني ينشط بقوة لجمع التأييد والتبرعات للكيان الجديد، مما خوّل له متابعة ردود الفعل تجاه النكبة. "ذهبت إلى أمريكا سنة 1948 وعمري 15 سنة، بالصدفة وصلت في نفس الشهر الذي خلقت فيه الأمم المتحدة إسرائيل بقرار. بعد مدة قليلة جاء بن غوريون وعقد اجتماعا مع أثرياء اليهود بفندق ضخم، وقال لهم أنا لا أريد مالكم، أريد أن يشتري كل واحد منكم محطة تلفزة، إذاعة، استوديو للأفلام، جريدة"(2)

المدرسة التحليلية للمنجرة ترى أن قضية فلسطين ليست لا سياسية ولا عسكرية ولا اقتصادية وإنما هي قضية حضارية بالدرجة الأولى تدخل في إطار فرض قيم مغايرة على المنطقة.

وقد استشرف عالم المستقبليات السعي الحثيث للكيان الصهيوني لفرض هيمنته داخل المنطقة من خلال عمليات التطبيع وعارض بالمقابل أية مساومة على القضية الفلسطينية معتبرا تحرير فلسطين من أيدي الصهاينة أمرا واجبا. "والذين يظنون أن الطريقة الدبلوماسية على شاكلة "كامب ديفد" ستفضي إلى جلاء المغتصب واهمون، فإسرائيل تثير الرعب والقمع داخل صفوف الفلسطينيين، وخاصة داخل القدس، والمتتبع لبرامج وخطط العدو الصهيوني يدرك أن إسرائيل يتملكها الفزع من المستقبل، وأنها لا يهدأ لها بال إلا بإزالة أنياب كل دول المنطقة من خلال عمليات التطبيع وإبادة الفلسطينيين أصحاب الأرض، ولا تطمئن على حال إلا من خلال المساندة الغربية لعملياتها، والنصرة الأمريكية لحركاتها واستجماع أكبر قوة في المنطقة" (4)

من زاوية أخرى، يقف المنجرة عند دعامات الحلم الإسرائيلي التي في تقديره تنبع بالأساس من الاحتفاظ بالتراث اليهودي. هذا التراث تستمد منه الصهيونية قوتها ويجعل الصهاينة من مختلف الأطياف يلتفون حول قيم مشتركة. "فالهوية الإسرائيلية تنبت وتتشبث بالقيم الدينية لتحصن وجودها، أما نحن فعلى العكس تماما من عدونا، إذ سطحيا ندعي أننا مؤمنون لكننا في حقيقة الأمر ملحدون من حيث الإيمان بالقيم والهوية، غير مهتمين بامتلاك استراتيجية أو خطة عمل، بينما إسرائيل تملك خطة وحلما ورؤية واستراتيجية، وتعير اهتماما بالغا لتكوين العنصر البشري."  

وفي إظهاره لمركزية القيم، يقر المنجرة أن الحرب اليوم هي حرب قيم وحضارة، لذا فلا خيار لنا سوى التشبث بالهوية لأنها طوق نجاتنا الوحيد من في ساحة المعركة. 

كيف يحارب المشروع الفرنكفوني التراث والثقافة؟

انتقاد مصطلح الفرنكوفونية عند المهدي المنجرة يدخل ضمن ما يعتبره غزوا مصطلحيا، يحمل في طياته قيما ويمسح في المقابل قيما راسخة لها تاريخ، حيث يقدم عالم المستقبليات الفرنكفونية على أنها مشروع استعماري ثقافي يضرب بجذوره في أعماق الأوطان التابعة له فيطمس التراث والخصوصية، في حين أن أي تعاون إنساني عالمي يبدأ باحترام الآخر والتخلص من هذه التبعية.

برز مصطلح الفرنكوفونية أوائل القرن الماضي وانتشر في بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد إنشاء المنظمة الدولية للبرلمانيين الناطقين باللغة الفرنسية عام 1967، الأمر الذي جعل المنجرة يتساءل عن دور اللغات المحلية للدول الفرنكوفونية وامتدادها على مستوى الاستعمال، وهل سيتاح لهذه الدول الخاضعة للفرنكوفونية أن تجعل من لغاتها الوطنية لغة للعلم عبر التدريس بها وتطويرها؟ أم أن ذلك سيظل حكرا على اللغة الفرنسية. "فموقفي من الفرنكفونية هو أني أعتبرها رمزا لمتابعة الاستعمار بطرق أخرى، وبما أني حاربت الاستعمار منذ بداية حياتي في أي مكان كان وليس في المغرب فقط، لهذا أتابع نشاطي الفكري والعلمي لمحاربة كل العناصر شبه الاستعمارية، لأن العلم نضال ولأن النضال علم هو أيضا." (4)

موقف المنجرة مبني على أن اللغة والحضارة لهما قيمة خاصة، فهو ليس ضد اللغة الفرنسية في حد ذاتها، ولكنه يقف ضد استغلال هذه اللغة والتعاون الثقافي لأشياء أخرى خارجة عن نطاق الحضارة والفكر وهذا ما يسميه "الاستعمار الفكري باستغلال لغة". 

يقول المنجرة أن قوة فرنسا ووجودها يعرفان تناقصا يوما بعد يوم على المستوى العالمي، وبالتالي فإن اختراع فكرة الفرنكوفونية جاء كوسيلة استعمارية ثقافية تهدف إلى استغلال الدول التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي كأسواق. ويضيف أن مشكلة الفرنكفونية هو أنها تريد إقصاء ومحاربة اللغات المحلية عبر الدفاع عن دور استعماري كان لفرنسا في الماضي: "والاستعمار الفرنسي حارب اللغة العربية وهو أمر لا نقاش فيه في المغرب وفي الجزائر وفي تونس وفي مجموعة الدول العربية، كما حارب اللغات الأفريقية واللغات الأم". 

وفي سياق آخر، يذهب المنجرة للقول بأن التطور في المستقبل هو للتعددية اللغوية، لكن لا يمكن لأي أحد أن يتقن لغة أجنبية إلا إذا أتقن أولا لغته الأساسية، ويظن بأن التعريب أساسي جدا وهو شرط لتفهم ودراسة اللغات الأخرى. "إن معرفة لغة ثانية يمكن أن يكون أكثر إفادة، إذا كنا نسيطر على لغتنا الأم؛ إن أفضل علماء التربية في العالم، وهو بياجي، يبين إلى أي حد نسيء إلى الطفل، إلى حدود سن السابعة، إذا عرضناه للغتين مختلفتين مع أمه في وسطه العائلي، وفي المدرسة، فالشخص الذي يتكلم العربية مع أبويه، ويذهب الى الثانوية حيث يتعلم كل شيء باللغة الفرنسية، يتعرض لسكيزوفرينيا ثقافية تكتسي خطورة كبيرة. وبالمقابل فإن الشخص الذي يُكون شخصيته أولا في المحيط الذي يعيش فيه، ثم يتحدث لغة ثانية أو ثالثة أو رابعة -بعد تثبيت هذه الشخصية-، لديه أولا حظوظ أكبر للسيطرة على اللغات الأخرى، ويصبح ثانيا، شخصا متوازنا." (4)

لماذا النهضة لا تستورد عند صاحب الرؤى المستقبلية؟

في المشروع المجتمعي الذي يطرحه المنجرة يربط نهضة مجتمعات العالم الثالث بإقامة نموذج تنموي نابع من الذات ومعتمد على المجهود الذاتي لأبناء المجتمع مع حضور نظرة مستقبلية تتيح صياغة الأهداف، والتخطيط، وتصحيح الاختلالات. لذا نجده يُصر على عدم قبول المساعدات الغربية ومواجهة سياسة الهيمنة لأنها سبب فشل النماذج التنموية في بلداننا. وفي تشخيصه لأزمة هجرة الأدمغة إلى دول الشمال يرى أن ذلك سببه عدم قدرة التعليم في بلداننا على إنتاج المعرفة واستيعاب الكفاءات. 

تصور المنجرة للتنمية ينطلق أساسا من الاستثمار في الإنسان وضرورة ربط المعرفة بالقيم الحضارية والثقافية والاهتمام بالبحث العلمي وتعميم التعليم باللغة الوطنية واستخدام مقاصدي للتكنولوجيا إضافة إلى توفير جو من الحرية للإبداع. 

إلى جانب ذلك، يدحض بقوة جميع الادعاءات التي تروج للغربنة على اعتبارها السبيل الوحيد للحداثة مؤكدا أن ذلك ناتج عن جهل بدور القيم والحضارة والثقافة في عملية الإبداع والذي لن يتحقق أبدا بالتقليد. وفي هذا الباب يعرّف بنماذج احترمت الخصوصية الحضارية ولم تقلد الغرب في تعاملها مع إشكالية التنمية كالتجربة اليابانية: "اليابان برهن في التاريخ المعاصر أنه ممكن لبلاد ولمنطقة ولحضارة أن تمارس الحداثة والمعاصرة وتدخل مجال العلم والتكنولوجيا بدون مرجعية الغربنة لأن الأطروحة التي كان يتم الترويج لها، والتي مازال بعض المسؤولين والمفكرين في العالم الثالث يثقون بها مع الأسف، وهي أنه ليس هناك أي حل آخر إلا أن تمر عبر الغربنة التي تمثل الطريق الوحيد للحداثة والتقدم. والآن نرى هذا المفهوم يتم تطبيقه تحت اسم آخر، بحيث لم نعد نتكلم عن الغربنة بل عن العولمة" (5)

رؤية استشرافية ذات بعد إنساني قدمها فكر المنجرة للعالم 

ما يشد القارئ للمنجرة هو علمية المنهج وتعددية الطرح المبنيان على مرجعية قيمية أخلاقية تنُّم عن نظرة شمولية للعالم والإنسان والتاريخ. 

كَتب المفكر المغربي أكثر من 500 مقالة في العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية واشترك في تأليف كتبٍ من بينها: من المهد إلى اللحد 1981؛ Maghreb et francophonie 1988، كما قدم مؤلفات بعدة لغات منها العربية والفرنسية والإنجليزية واليابانية كانت الجامع لفكره ورؤيته وتناول فيها بالتحليل العلمي العديد من القضايا انطلاقا من زوايا واتجاهات متنوعة لكنها تلتقي كلها في العمق. 

اعتبرت كتبه الأكثر مبيعاً في فرنسا ما بين 1980 و1990 وقد خصص صندوقا خاصاً من تلك العائدات المالية "لجائزة التواصل شمال جنوب"، والتي منحها لأسماء من مبدعي المغرب والعالم ثم حوّل هذه الجائزة لاحقاً إلى جائزة لمن يدافع عن الكرامة. 

أشهر مؤلفاته:

 

"الحرب الحضارية الأولى".. حرب العراق ضد أطماع الهيمنة

يضم الكتاب مقالات ودارسات علمية وفكرية ومقابلات صحفية أجراها المهدي المنجرة مع بعض المنابر الإعلامية المغربية والعربية خلال نزاع الخليج في مطلع التسعينات وقد عمل على جمعها وترجمة بعضها كتلة من الباحثين والصحفيين بإشراف المؤلف. تتناول فصول الكتاب مراحل اندلاع العدوان على العراق وتداعياته إضافة إلى عرضه لمجموعة من الدراسات التي كتبت خلال المراحل المتباينة من الحرب. 

يَعتبر المؤلف في هذا الكتاب صراع الخليج واندلاع الحرب على العراق بداية لأول صراع حضاري واضح بين الشمال والجنوب توّلد من الخوف الذي يشعر به الشمال أمام الجنوب. 

هذه الحرب حضارية وفق المنجرة أرّخت "ولادة حقبة ما بعد الاستعمار" التي خاض فيها العراق نيابة عن العالم الثالث المعركة ضد أطماع هيمنة الشمال بقيادة الولايات المتحدة، مستشرفا أن صراع الشمال والجنوب سيسيطر عليه من الآن فصاعداً اعتبارات ذات طبيعة ثقافية. "إن حرب الخليج أكثر من حرب صليبية أنا في اعتقادي ومنذ بداية 17 جانفي دخلنا في أول حرب عالمية حقيقية وهي ستدوم على الأقل 5 أو 20 أو 25 سنة، لأن أهدافها الحقيقية ليست عسكرية أو سياسية أو اقتصادية بل هي حضارية، لأن تحديات القرن 21 ستكون كلها حضارية"

من شتنبر 1990 إلى مايو 1991، تسارعت مواقف المنجرة ضد وجود التحالف الغربي في الخليج وحلّل من خلالها هاته الحرب من زوايا عسكرية وحضارية وسياسية واستراتيجية كاشفا باستشراف مستقبلي حجم المخاطر المسلطة على دول الجنوب إذا لم تهتم بالتعليم والبحث العلمي وتضمن مناخا حرا للإبداع.

رغم اعتراض المنجرة على احتلال الكويت إلا أنه اعتبر رد الفعل العنيف ضد العراق نابعا بالأساس من الرغبة في الهيمنة الثقافية وتحطيم الذاكرة الحضارية للعراق وسبب ذلك الجهود التي عدّها مهمة للبحث العلمي في هذا البلد ونموذجه التنموي المعتمد على الذات. "ونحن بصدد الحديث عن حرب الخليج لا يجب اعتبار هذه الحرب جهوية إقليمية أو هي حرب بين الغرب اليهودي المسيحي وبين الأمة الإسلامية فقط، بل هو صراع أيضا بين الشمال والجنوب، وهو صراع حضاري بين رغبة هيمنة للحضارة المسيحية اليهودية ضد كل الحضارات الأخرى العربية والمسيحية والآسيوية والأفريقية وكل الحضارة المغايرة لحضارة الغرب."

 

"انتفاضات في زمن الذلقراطية".. حين استشرف المنجرة الربيع العربي

يجمع الكتاب مجموعة حوارات أجراها المنجرة إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية اعتبر فيها هاته الأخيرة بمثابة روح جديدة للأمة، والرؤية الوحيدة الصائبة والسليمة للعالم في المنطقة العربية والإسلامية. 

تنبّأ ببصيرة علمية في الكتاب أن انتفاضة أطفال الحجارة لن تكون سوى مقدّمة لانتفاضات الشعوب العربية مستقبلا والتي جسدتها فيما بعد ثورات الربيع العربي. 

أما مصطلح الذلقراطية فهو تعبير منجري يرمز للذل والمهانة المفروضة على الشعوب العربية "إن الطفل الفلسطيني الذي يمسك بيده حجرا ويذهب ليرمي به جنود الاحتلال وهو يعرف أنه قد يستشهد، هو الوحيد الذي يملك رؤية صائبة لهذا العالم." 

الانتفاضة في رؤية المنجرة لم تعد مفتاح حل القضية الفلسطينية فحسب، بل أصبحت معطى جوهريا لا بد من استحضار فلسفته لفهم المستقبل والعمل على توجيهه: "والانتفاضة هي وقود الانتفاضات، هي المؤطر لمسارها، هي مشعلها، هي شمعتها، هي منير طريقها، هي مرجعها الروحي، هي ملهمها وهي جهادها الأصغر."

تطرق المنجرة كذلك في هذا الكتاب للإهانة في زمن التطور الحضاري الهائل وبروز الشركات المتعددة الجنسيات وأُسس تطوير التعليم والاقتصاد والثقافة والفن.

 

 

"الإهانة في عهد الميغا إمبريالية".. أمريكا وبداية النهاية

يعرض الدكتور المهدي المنجرة تصوره حول ما آلت إليه سياسة "الميغا إمبريالية" الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد العالمي والتي اتسمت بالأحادية والتحكم في جميع مراكز القرار في دول العالم الثالث والمنظمات الدولية والحقوقية. "لقد أصبح للميغا إمبريالية أسلوبا جديدا ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار. فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما كان في السابق، حيث كانت الإمبريالية الفرنسية مثلا تقبل بوجود إمبرياليات أخرى ألمانية وبريطانية وإسبانية أو غيرها." 

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية -التي تمارس الإهانة على دول العالم الثالث- مرحلة انتقالية عنونها المنجرة "ببداية النهاية للإمبراطورية الأمريكية". علامات بداية الانحطاط هو أن السياسة الأمريكية أصبح يُحركها الخوف والهاجس الأمني المتجلي في الحرب على أفغانستان والعالم (الحرب على الإرهاب) بعد أحداث 9/11.

وهذا الهاجس الأمني المتصاعد حسب تحليل المنجرة مردّه عدم الثقة بالنفس وانهيار الشعور بالعظمة. "منذ شتنبر إلى الآن، صرفت الولايات المتحدة الأمريكية 6 مليار دولار على مستوى الدفاع والأمن لمحاربة ما يمكن أن يحدث مجددا. وهذه أرقام خيالية. لقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية بعض الظروف ودخلت نفسيا في مرحلة خطيرة، في مرحلة ما أسميه ب "الخوفقراطية". وحين يجتاح الخوف تفكير الإنسان أو دولة ما، فكل الأشياء تتغير، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإمبراطورية كانت تظن أن لا شيء يمكن أن يمسها. لقد نفذت الثقة بالنفس وصار رد الفعل وحشيا بامتياز، وهذا ما حصل في أفغانستان"

في الأخير يوضح الدكتور المنجرة بأن هذه الغطرسة التي تتمّلك أمريكا لن تدوم، ومسعاها إلى أمركة العالم وتدمير قيم وثقافة حضارات عريقة سيندثر يوما ما ولن تظل هاته الدولة القطب الأحادي القوة في العالم لأنه ستظهر الصين التي ستقف سدا منيعا في وجهها. "بعد 15 أو 20 سنة، على الأكثر، سنرى إمبراطورية أخرى. والآن، هناك الصين، وهي القوة الثانية اقتصاديا وعسكريا، وهي القوة الأولى من الناحية البشرية، ولكن لها خطتها، وهي لا تريد تغييرها. فهي تعرف أنها ستصل، وتعرف أن أمريكا لا تستطيع أن تمسها بأي شيء لأنها تدرك حجم رد الفعل الذي قد يحدث إن هي فعلت. الصين تعرف أن زمنها قادم، وهي تترك أمريكا تتصرف کميغا -إمبريالية، لكن حين يأتي وقتها، ستقول لها: من فضلك كفى. في ذلك الوقت، يمكن أن ندخل إلى مرحلة جديدة، نجد فيها الصين كقوة وأمريكا كقوة، وربما الهند كذلك."   

​​​

"قيمة القيم".. عن الثقافة والهوية وأصل النزاعات

الكتاب عبارة عن مجموعة من المداخلات والمحاضرات التي قدمها المنجرة وهو يسعى إلى معالجة وتحليل أطروحة أساسية سبق تقديمها من طرف الكاتب تتمحور حول الطابع الثقافي والحضاري للنزاعات التي ستحكم العالم وذلك من خلال ثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان القيم والمجتمع والقسم الثاني بعنوان القيم والإبداع والقسم الثالث والأخير بعنوان القيم والذاكرة. 

يركز الكتاب على منظومة القيم ليوضح أن الأزمة الحالية بين الشمال والجنوب لن يتم حلها بحلول ترقيعية، لأنها أزمة نظام بأكمله، بل يستوجب معالجتها بلورة أهداف جديدة تأخذ بعين الاعتبار توزيع السلطة والموارد حسب قيم مغايرة لتلك القيم التي تسببت في اختلال النظام الحالي."هناك فترات يؤدي فيها الانفتاح التلقائي، وليس الانتقائي؛ إلى غزو كبير وإضعاف أعز ما للإنسان: هويته الثقافية، وهي الخلاصة وسبب وجود منظومة القيم." 

من الإشكاليات التي يطرحها المؤلف هي كيفية تعاطي العالم الثالث بما في ذلك العالم الإسلامي والعربي مع منظومة القيم ويخلص إلى أن العالم الثالث لا يمكنه الخروج من دائرة التخلف إلا إذا اهتم بالبعد الثقافي عوض التبعية والتقليد واعتنى بالدراسات المستقبلية. 

أما على مستوى آخر، فيتناول الكتاب كيفية توظيف الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية لمنظومة القيم كآلية للهيمنة والسيطرة على العالم. فالحروب أضحت مظهرا للاستعلاء الثقافي، تشن على الدول بدعوى الحفاظ على القيم الغربية تحت مسمى "القيم الكونية" التي أتت بها أيديولوجيا العولمة. "وكما هي حالة كل عد عكسي، فإن حروب الاحتلال الأمريكية الأخيرة کانت كلها خاسرة منذ حرب الفيتنام حتى حرب العراق مرورا بالصومال وأفغانستان، وفي انتظار الحروب المقبلة المبرمجة، والتي ستكون أيضا خاسرة ضد إيران، وسوريا ودول أخرى، إذا ما ألحت الحماقة الإنسانية على التعجيل بشنها، ومن تم، فقد أصبح من الضروري أن يتحسن التواصل الثقافي الذي سيبعد النفاق والكذب وسياسة الكيل بمكيالين التي تعيشها والتي تمارسها علينا الدول الغربية وبلدان أخرى، يدعي بعضها الدفاع عن حقوق الإنسان وعن الديموقراطية التي تخرق بانتظام على أرض الواقع." 

بالإضافة للكتب السابقة، هذه عناوين كتب أخرى ألفها المنجرة: 

  • نظام الأمم المتحدة: تحليل، 1973 
  • القدس العربي، رمز وذاكرة 1996
  • عولمة العولمة، 1999
  • حوار التواصل، 2004..

فارقنا المنجرة في 13 من شهر يونيو/حزيران 2014 في مدينة الرباط عن عمر يناهز 81 سنة بعد صراع مع المرض، ليظّل رمزا خالدا للمثقف الحر الوفي لجذوره الجريء في مواقفه المتسق مع قناعاته ومبادئه لم يتزحزح عنها رغم الإكراهات والمغريات.