يوم الجمعة 15 يوليو - تموز 2016م، سيكتب في تاريخ تركيا السياسي الحديث بخطوط عريضة، بل إنه سوف يدرس للأجيال التركية الصاعدة في كتب التاريخ بمدارسهم وجامعاتهم، التي أسهمت خلال العقدين الماضيين من الزمن، في إعادة فكر الأمة التركية من جديد، وأخرجت أجيالا تتطلع إلى المستقبل بخطى ثابتة، فتركيا اليوم لم ولن تكن تلك تركيا التي يحكمها العسكر وفكر البندقية إطلاقا، كما هو الحال في بعض الأوطان العربية والإسلامية الممزقة في وطننا الكبير المفقود، والتي لا يزال صوت البندقية والرصاص هو الأعلى، العسكر فيها يسيطرون على كل شيء.

لا أحب الكتابة عن الانقلاب بحد ذاته، الذي تابعت أحداثه منذ اللحظات الأولى في تلك الليلة المشؤومة، التي كانت سَتُعلِن بداية عهد جديد على كل أبناء الأمة التركية، وكيف سارت الأحداث بسرعة إلى أن أطفى الشعب التركي أولى شرارت نار الانقلاب العسكري الذي كان ربما سيحرق تركيا الحديثة، ويعيدها سنوات بل عقودا إلى الخلف.

فالجميع يعرف وله تجارب قاسية ومريرة مع العسكر وفكرهم العقيم، كل الأحداث تسارعت بعد أن تحدث قائد النهضة التركية الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الأمة التركية، من خلف شاشة هاتف شخصي محمول، فلبت الجماهير التركية النداء من مختلف مراحلها العمرية، وخلفياتها السياسية أو العرقية، فتركيا الوطن الكبير يناديهم، وتم بحمد الله إخماد الانقلاب في ساعاته الأولى.

ما لمسته خلال هذه الساعات هي التعاطف الشعبي في المجتمع العربي والإسلامي، مع أحد أقطارهم التي كانوا يقصدونها في يوم من الأيام بلا جواز سفر ولا تأشيرة عبور! فمعظم زملاء الدراسة أو الأصدقاء الذين تعرفت عليهم خلال سنوات الغربة، من مختلف العالم -والذين ينتمون إلى فكر جديد بعيد عن الحدود والجغرافيا التي أنتجتها لنا اتفاقية ساكس بيكوا سيئة السمعة مطلع القرن العشرين، وأخواتها من الاتفاقيات التي مزقتنا- كانت مشاعرهم واحدة ضد فكر الانقلاب العسكري، ضد أن يعود العسكر من جديد ويهدم كل شيء.

فتجاربنا مع العسكر كثيرة ومريرة في آن واحد، العديد من الدول العربية والإسلامية التي يحكمها العسكر، ويسيطر على قرارها السياسي، تعيش تخلفا وجهلا وفقرا ومجاعات كثيرة، وما يؤلمك أكثر وأكثر هو التجهيل المتعمد لعامة الشعب، الذي تعمل عليه هذه الأنظمة ليلاً نهاراً، لتخرج لنا شعوب فاقدة الهوية، ومسلوبة الإرادة، ولا تعرف من هي بالأساس، وإلى من تنتمي، بل تعيش التبعية في كل شيء!

سألت نفسي مرات عديدة قبل أن أتطرق إلى كتابة هذه الكلمات منذ بداية الانقلاب حتى هذا اليوم، لماذا كل هذا التعاطف الكبير من قبل العامة في مشارق الأرض ومغاربها؟ وتحديداً الأجيال الصاعدة في عالمنا العربي والإسلامي المترامي الأطراف، ثم خرجت إلى نتيجة واحدة: وهي أن الأفراد وصلت إلى وعي وإدراك، وبدأت تفكر خارج الإطار الذي خُطّط لها، منذ ما يقارب مائة عام تقريباً، الأجيال الصاعدة لا تفكر بالحدود الجغرافية والهويات والجنسيات، التي أخرجتها لنا تلك الاتفاقيات، وأخرجت لنا مسميات، وأسماء لجنسيات، وأصدرت لنا جوازات سفر مزيفة، لا تعبر عن هويتنا وجوازات سفرنا الحقيقية التي تمتد جذورها إلى آلاف السنين.

تلك الهوية والجواز الذي يمكننا من السفر في أسقاع وطننا الكبير، من الفوقاز شرقاً إلى أرض الأمازيغ "المغرب العربي" غرباً، ومن أرض الأندلس شمالاً إلى بلاد السند وأرخبيل الملايو جنوبا، بدون أن يوقفك رجال الأمن ويسألوك عن تأشيرة العبور في إحدى مرافئ أو قطارات المدن التي نمر بها مستكشفين ومسافرين في وطننا الكبير.

نبحث عن هذا الوطن من جديد، ونحلم أن تستطيع أجيالنا الصاعدة أن تفكر خارج نطاق الحدود والجنسيات والبلدان التي جعلتنا مقسمين، ومستضعفين في آن واحد، وأصبحنا شعوب مستهلكة لا أكثر، فنأكل مما لا نزرع، ونلبس مما لا ننسج... هذه الشعوب التي تعيش بهويات وجنسيات مزورة لا يتعدى تأريخها الخمسة أو الستة عقود من الزمان، نعم إنها مزورة، وأقسم بالله إنها مزورة!

أطلع وأحلم بأن تخرج مع الأيام أجيال صاعدة تفكر خارج الحدود المزيفة والمرسومة لنا، وذلك من خلال القراءة والاطلاع المستمر في تاريخنا وهويتنا الحقيقة، والتي تمتد جذورها لآلاف السنين، فالجميع ملزم بالتعلم، وطلب المعرفة، والفهم لما يدور من حوله، وتحديداً بعد الثورة التقنية التي تعيشها الإنسانية هذه الأيام، وما سهلته للوصول إلى العلوم والمعارف بكل سهولة ويسر.

أما الأمة التركية، فسوف تستمر في طريقها الذي رسمته قيادتها، وستمد يدها لجيرانها قدر استطاعتها، رغم آلامها وجراحها التي تأتيها ليس من الغرباء فحسب، ولكن وللأسف الشديد، من قبل بعض من الأصدقاء! فبعضهم ابتهجوا في أولى لحظات الانقلاب على نظام الحكم الذي أسهم في إخراج شعبه من الضياع والتخلف، إلى أن تكون تركيا اليوم من أفضل وأقوى اقتصادات العالم، مقارنة بهم وبأنظمتهم، وذلك لسبب واحد وبسيط جداً، وهو من أجل أن يرضى عنهم أسيادهم الذين نصبوهم حكاما بقوة البندقية على شعوبهم.