يقول عالِم الاجتماع "أنتوني غِدِنز" في كتابه «علم الاجتماع» من ترجمة الدكتور فايز الصُيّاغ؛ تجري التنشئة الاجتماعية الأولية في مرحلتي الرضاعة والطفولة، وتُعتبر هذه هي الفترة التي يصل فيها التعلّم الثقافي أقصى درجات الكثافة، إذ أن الأطفال يتعلمون فيها اللغة وأنماط السلوك الأساسية التي تُشكل الأساس لمراحل التعليم والتعلّم اللاحقة، وتكون العائلة هي الفاعل المؤثر الأبرز والأكثر أهمية في هذه الفترة. أما قول غدنز عن التنشئة الثانوية، فتحدث حسب قوله في فترة لاحقة من الطفولة، وتستمر حتى سن البلوغ، وتدخل الساحة في هذه المرحلة عوامل فاعلة أخرى تتولى بعض الأدوار والمسؤوليات التي كانت تقوم بها العائلة.

ومن جملة هذه العوامل المدارس، وجماعات الأقران، والمؤسسات، ووسائل الاتصال والإعلام إلى أن تنتهي بموقع العمل، وفي هذه السياقات كلها، تُسهم التفاعلات الاجتماعية في تعليم الفرد منظومة القيم والمعايير والمعتقدات التي تُشكل الأنماط والعناصر الأساسية في الثقافة، انتهى كلامه.

مما سبق، يمكننا تقسيم المراحل التي يمر بها الفرد خلال التنشئة الاجتماعية إلى مرحلتين: مرحلة الرضاعة والطفولة، وتعتبر العائلة في هذه المرحلة هي الركيزة الأساسية والوحيدة في التربية، ومرحلة التنشئة الثانوية وسن البلوغ والتي تتداخل فيها عدة عوامل أخرى، إضافة إلى العائلة التي يظل حضورها مستمرا، وتختلف كثافة التعليم في كل مرحلة، حيث تكون مرحلة الطفولة أعلى من حيث التكثيف، ومن ناحية تعتبر أساسا لبقية مراحل التربية اللاحقة، إذ تأتي المراحل الأخرى مكملة لها مُشكلة بُنية اجتماعية ذات نسق انبنائي واحد.

قبل أن نسترسل في الحديث عن المراحل التي تتشكل فيهما ذهنية الفكر والعمل، سيكون ميدان كلامنا عن تشكل إحدى هذه الذهنيتين هو المجتمع اليمني، والتي تفترض هذه السلسلة من المقالات أنه مجتمع تغلب فيه الذهنية الحركية (العمل يغلب على الفكر) والتي تشكلت بفعل عدة عوامل وشواهد كثيرة في تاريخه الاجتماعي، والثقافي، والسياسي، والاقتصادي، والجغرافي، والتي سنحللها بأسلوب ارتدادي في مقالاتنا القادمة تنطلق من النتائج إلى الأسباب، سننظر كيف غيرت تلك العوامل في بنية المجتمع وسلوكه ونمط حياته.

وقد سبق وعبر عن ذلك الشاعر والمفكر اليمني الكبير عبد الله البردوني في مقدمة كتابه (اليمن الجمهوري) بقوله

وإذا كان للعهود اليمنية القديمة فرادة من نوع ما، في مأساويتها وازدهارها، في صعودها وانتكاساتها، فإن غرابة تلك الفرادة تكمن في وجود حضارة عمرانية وزراعية لم يكن وراءها نظر فكري... فلم يثبت في تاريخ العهود المعينية والسبئية والحميرية آثار فكرية شبيهة بتلك الحضارات: كالحضارة اليونانية، والفرعونية، والبابلية، والكنعانية، والرومانية وحتى الصينية، وإنما كانت تلك الحضارات اليمنية رغدًا زراعيًا وفنًا معماريًا.

يعود اختيارنا للمجتمع اليمني لعدة عوامل تجعل منه ميدانًا خصبًا لدراسة مثل هذه التشكُلات، من بين تلك العوامل: أن المجتمع اليمني ذو امتداد في التاريخ من ناحية، ومن ناحية هو صاحب حضارة عربية خالصة سبقت مجيء الإسلام، حضارة مستقلة لم تتأثر بالحضارات التي عاصرتها وإن كانت هناك علاقات، إلا أنها كانت علاقة متاجرة فردية، كالحضارة المصرية، والتي طرأ عليها أكثر من عامل، كالغزو الروماني، ثم الفتح الإسلامي لاحقًا، ومثيلتها البابلية فيما بين النهرين التي طالها الغزو الآشوري، ثم هذه الأخيرة تأثرت هي الأخرى بالحضارة الساسانية لاحقًا.

وهكذا بقية الحضارات التي نشأت في الهلال الخصيب، كانت هناك علاقة تأثير متبادل، حتى مجيء الإسلام والذي أثر وتأثر هو الآخر بحضارة تلك البقاع التي دخلها، على غرار المجتمع اليمني قديما ووسيطًا وحديثًا، والذي ظل معزولًا ومحافظًا على بنيته الأصلية، حتى مع مجيئ الإسلام؛ ذلك أن الإسلام دخل إلى قلوب اليمنيين طواعية لا إكراهًا، بما حفظ للمجتمع اليمني كثيرا من تركيبته الاجتماعية.

العامل الثاني ويتمثل في العزلة التي عاشتها هذه الجغرافيا لفترات زمنية طويلة، قديما عُزلت عن بقية الحضارات في حوض المتوسط وما بين النهرين لأسباب مناخية وتضاريسية تمثلت في الصحراء الشاسعة، وتاليًا مع مجيء الإسلام حينما أدارت الحضارة الإسلامية لليمن ظهرها متجهة نحو العراق والشام مما أبقاها على عزلتها السابقة.

زاد على ذلك أن أفرغت اليمن من مخزونها البشري وغادرتها كثير من القبائل، وفي الفترة اللاحقة حينما فرضت الإمامة على اليمن عزلة سياسية واقتصادية واجتماعية منذ مطلع القرن العاشر الميلادي، عزلته عن موجة الاستكشاف ودراسات المستشرقين والحياة الفكرية التي شهدتها تلك الحقبة، ولاحقًا عملية التحديث والعولمة والنهضة العربية حتى قيام الثورة اليمنية في العام 1962، ومع ذلك لم تتغير كثيرًا ملامح المجتمع اليمني في اليمن الجمهوري عما كان عليه سابقًا، لعدة أسباب سنتناولها لاحقًا حينما نستعرض الفترة الحديثة من حياة ذلك المجتمع.

العامل الثالث ويتمثل في قدر الجغرافيا اليمنية الاستراتيجية من ناحية، ومن ناحية أخرى التنوع التضاريسي والمناخي والبيئي، والذي كان له الدور البارز في تشكيل الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتأثير الكبير على سلوك ومفاهيم وقيم التجمع البشري في هذه الجغرافيا.

العامل الرابع والأخير، وهو أن ثبات بنية النظام البدائي القبلي واستمراره، والذي لا زال هو الطابع السائد على التكوين البشري اليمني حتى الآن، بالإضافة إلى نمط العلاقات القرابية القبلية في المجتمع، وسلطة العادات والتقاليد والعرف القبلي، ورفض مجتمع القبيلة الخضوع التام لسلطة الدولة المركزية، كل ذلك جعل من المجتمع اليمني خامة لا زالت تحتفظ بخصائصها وسماتها القديمة، دون أن تؤثر عليها عوامل حداثية طارئة عليه من الخارج.

ولأن ما هو بيئي وجغرافي ومناخي له الأثر الكبير في طبائع التجمع البشري وأحواله إيجابا وسلبا كما هو الحال لدى النظرة الخلدونية، ولأن الأنماط التقليدية في العلاقات والسلوك تأخذ صفة العموم في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القبلي في اليمن لا تزال سائدة حتى اليوم، كما عبر عن ذلك الدكتور علي أبوغانم في دراسته البنية القبلية في اليمن، على الرغم من بروز أنماط سلوكية جديدة في مرحلة ما بعد عام 1962، إلا أنها حسب وصفه لم تتبلور وهي لا زالت تنمو لتتكامل.

ولأن التفاعلات الاجتماعية تُسهم في تعليم الفرد منظومة القيم والمعايير والمعتقدات التي تُشكل الأنماط والعناصر الأساسية في الثقافة، كما هو الحال عند "ماكس فيبر" الذي يرى أن هدف السوسيولوجيا تأويل وتفسير الفعل المجتمعي ومن ثم ربطه بالآثار والنتائج.

بعد هذا العرض لمجموعة العوامل سيكون من الصعب دراسة المرحلتين السابقتين؛ الطفولة والبلوغ في حياة الفرد والعائلة اليمنية كنتيجة لماضٍ تشكلت فيها الذهنية العملية وتعاقبت فيه عبر أجيال، ما لم نعرض ذلك الماضي القديم وعوامله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي كرست تلك الذهنية العملية في حياة وسلوك المجتمع اليمن، ثم بعد ذلك فهم وتفسير ديمومة تلك الذهنية التي لا زالت تكرس نفسها في المجتمع جيلًا بعد جيل، من خلال تحليل للمراحل التي تكلمنا عن تقسيمها سلفًا، أثناء دراستنا لهذه الظاهرة سنعمد إلى المقارنة بين المجتمع اليمني ومجتمعات أخرى كانت معاصرة له في الماضي والحاضر.

فبالمقارنة تستبين لنا السُبل، أو كما يقول العرب تعرف الأشياء بأضدادها ونحن في هذه الدراسة لن نجعل بحثنا يمضي نحو إثبات ما افترضناه سلفًا كما ولو أننا نحاكم الظاهرة، وإنما سنجعل القارئ هو من يصل إلى تلك النتيجة من خلال عرضنا لجملة من العوامل التي سنتطرق إليها في هذه السلسلة من المقالات.

في المقال القادم سنتناول التضاريس والبيئة الجغرافية ودورها في تشكيل الطور البدائي الأول للإنسان اليمني القديم، كيف شكلت تلك التضاريس والبيئة القاسية حياته وسلوكه وتفكيره وطرق عيشه، ثم بعد ذلك سنتناول جانب التجارة والزراعة، والذي نعده في هذه السلسلة العمود الفقري التي قام عليه ذلك المجتمع القديم.