تناول المفكر الإسلامي مالك بن نبي تشخيص المرض الاجتماعي الذي يُصيب المجتمعات الإنسانية، والذي أصبح مرض عْضال تعاني منه الأمة، فالأمراض الاجتماعية بطبيعتها داء في ضمير المجتمع قبل أن تكون في محيطه، ويبدو أن المفكر الإسلامي مالك بن نبي قد تنبأ لهذه الظاهرة؛ وهذا العنوان الذي يحمل اسم "المدونة" ذكره في كتابه الثاني عشر الذي يحمل عنوان "ميلاد مجتمع".  

يبدأ الأستاذ مالك حديثه عن المرض الاجتماعي على أن فساد العلاقات الاجتماعية يبدأ من الذوات فيقول "إنّ العلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً، أو مستحيلاً إذا؛ أن المجتمع يدور فيه النقاش حينئذ لإيجاد المشكلات بدلاً من محاولة إيجاد علاج فعال لهذه المشكلات" إن إنهيار أغلب المجتمعات كما حصل للإمبراطورية الآشورية القوية في القرن "الخامس قبل الميلاد" لم يكن هذا الحدث التاريخي ليُعزى، إلى مصادفة الحرب؛ ولكن إلى تحلل المجتمع الذي كان يمثل هذه الإمبراطورية، والذي أصبح فجأةً عاجزاً عن أي نشاط مشترك فعلاقاته الممزقة لم تعد تتيح له أن يحافظ على إمبراطورية آشور بانيبغل القوية."

لهذا نجد أن فساد الذوات كفيل بأن يفسد أمة لأن الفرد يعتبر سلسلة، وحلقة متصلة؛ وجسم مركب في جسد هذه الأمة، ولهذا نجد أن معظم الإصلاحات الاجتماعية تنطلق في بدايتها من ذات المجتمع، وينتهي مفعولها من المجتمع، يبدأ ثوران التوهج من داخل المجتمع؛ وانطفاء التوهج من داخل المجتمع نفسه، ومع ذلك فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية.

وهذه الحالة المرضية قد تستمر قليلاً، أو كثيراً قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تامٍ، وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي. ويعلل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله بقوله "بيد أن جميع أسباب التحلل كامنةً في شبكة العلاقات فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا نامياً بينما شبكات علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في ظاهرة العلاقات بين الأفراد؛ وأكبر دليل على ذلك يتمثل في"الأنا" عند الفرد من تضخم ينهي الجسد الاجتماعي لمصلحة فردية عندما يختفي الشخص، أو خاصة عندما يسترد الفرد استقلاله؛ وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي"  

يؤكد الأستاذ مالك هنا أن تحول الإنسان وانكماشه من مرحلة التفاعل في المجتمع إلى مرحلة التفاعل الشخصي، حيث تبدأ المصالح الفردية تزيد؛ وتبحث النفس البشرية لها داخل المجتمع عن موطن للتغلغل وللانحلال المجتمعي، وتلقنه الموت البطيء، لأن الصلة الاجتماعية بين أفراده كانت صلة حياة يزيد فيها تفاعل إنسان المجتمع. 

في حالة صحة المجتمع يقول الأستاذ مالك رحمه الله: "يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي، أمّا في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح فرصة لتورم الذات، وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلاً لا لفقرٍ في عالم الأشياء أو الأفكار، ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجري على طبيعتها. 

 وفي هذه المرحلة يشخصها الأستاذ مالك رحمه الله على مرحلة فيه تنعدم المبالاة بالمشكلات الواقعية، كما كان يفعل أئمة الفقه الإسلامي بل يكون الإهتمام منصباً على مشكلات خيالية على ما كان عليه فقهاء عصر الإنحطاط، لم يعودوا يكبون على المشكلات التي يثيرها نمو المجتمع بل على حالات خالية محضة كالبحث في جنس الملائكة، أو التوضؤ من وطء البهمية. 

ويستطرد الأستاذ مالك عن حادثة وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليخبرنا بأن الأناة من خلال التعامل مع ذلك الموقف كان سليماً فلو افترضنا أنه حصل هذا الحدث، والموقف كان في مجتمع مريضٍ عبر الأزمنة المتقدمة لعصره لكان التعامل في هذا غير سليم؛ وهذا الموقف تمثل عندما عزل الخليفة عمر بن الخطاب خالد بن الوليد.

 إن محاولة كهذه كانت كفيلة بزلزلة العالم الإسلامي لو أنها حدثت بعد ذلك بقرن، أو بقرنين أو ثلاثة قرون فحسب؛ ولكن الأنا الإسلامية كانت في العهد الأول سوية فكان فعل عمر دون عقدة، وكان رد فعل خالد من هذا العزل دون عقدة أيضا لأن علاقتهما كانت علاقات سوية منزهة.. 

وفي الوقت الذي تظهر فيه العقد النفسية على صفحة الأنا في واقعنا ومجتمعنا المعاصر، يغدو العمل الجماعي في المجتمع صعبا أو ضربا من المستحيل، وفي هذه الحالة يحق لنا أن نطلق مأساة إجتماعية نبحث فيها عن حلول لمحاولة التخلص منها قبل إنهيار المجتمع، ولعلنا نجد من يذهب في اقتفاء حلول مستوردة يفرضها عليهم الأخصائيون الأوروبيون على الرغم من أن هذه الحلول قد تكون عديمة الجدوى في تلك البلاد لأنها لا تتفق مع عناصر الأنا سواءً الأفريقي أو الأسيوي.

 الحلول ينبغي أن تتكيف مع نفسية البلد الذي تطبق فيه ومع مرحلة تطوره، لأن كل علاقة فاسدة بين الأفراد تولد بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية إمّا بتصعيبها أو بإحالتها... فالعلاقة الفاسدة في عالم الأشخاص لها نتائجها السريعة في عالم الأفكار .

لهذا ينبغي إصلاح ذات الفرد، والأنا التي بداخله، وهذا شعار رُفع عند كثير من علماء الدين، ومن المثقفين ومن أهل الفكر، وتم إستهلاك هذه الفكرة التي خرجت عن نطاق التطبيق إلى نطاق التنظير؛ وما يجب أن نعتمد عليه في ذلك هو أن يكون صاحب الدعوة إلى إصلاح الأنا للغير هو قد بدأ الإصلاح لنفسه أولاً لأن الكثير من الناس يتطّبع بالجانب السلوكي أكثر من النظري، وهذه تحتاج إلى أكبر قدرٍ من المجاهدة التطبيقية أكثر مما هي نظرية، ونتعامل مع الفرد على أنه أمة كما قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً).  

ونختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، وتوجد مقولة رائعة للمفكر الإسلامي مالك بن نبي يقول فيها "إنها لشرعة الله في خلقه غير نفسك تغير مجرى التاريخ".