في لقاء حول أزمة فيروس كورونا على قناة DiEM25 TV، انتقد عالم اللسانيات والمفكر والناقد السياسي نعوم تشومسكي [1] خطابات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المتعلقة بالجائحة قائلا إنها تذكره بفترة انتشار طاعون الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين عندما كان طفلا يستمع إلى هتلر عبر الراديو وهو يخاطب الحشود الصاخبة "تتشابه الحالة المزاجية ولهجة التهديد السائدة آنذاك مع الوضع الحالي". "إنه مختل اجتماعي لا يهتم إلا لنفسه" هكذا وصف تشومسكي ترمب واستنكر فكرة أن مصير البلاد والعالم بيد "مهرج" حسب قوله.

أين الخطر الأكبر؟ 

رغم خطورة فيروس كورونا، يرى عالم اللسانيات أن الرعب الأكبر الذي سنواجهه هو خطر الحرب النووية وتلاشي نظام الحد من التسلح بالإضافة إلى التهديد المتزايد لظاهرة الاحتباس الحراري. وأضاف أن الأمر أسوأ بكثير من أي شيء حدث في تاريخ البشرية "نحن نتسابق إلى حافة الهاوية... ليس هناك الكثير من الوقت للتعامل مع كلا التهديدين. بالمقابل، التعافي من أزمة كورونا ممكن رغم العواقب المروعة المحتملة".

يشير تشومسكي إلى خطر آخر متمثل في تدهور الديمقراطية لأن هذه الأخيرة هي الأمل الوحيد، في نظره، الذي نمتلكه للتغلب على الأزمة وتمكين الجمهور من التحكم في مصيره.

القوة الأمريكية الساحقة

يعتبر تشومسكي أنه رغم الحديث عن تراجع الولايات المتحدة إلا أنها الدولة الوحيدة القادرة على فرض عقوبات مدمرة وعلى الجميع اتباعها "قد لا يعجب ذلك أوروبا، في الواقع هم يكرهون الإجراءات المتعلقة بإيران، ولكن عليهم أن يتبعوا السيد أو يتم طردهم من النظام المالي الدولي. على أوروبا أن تخضع للسيد في واشنطن. من أكثر مظاهر فيروس كورونا قسوة هو استخدام العقوبات لزيادة الألم إلى أقصى حد. إيران منطقة لديها مشاكل داخلية هائلة، لقد صُمّمت العقوبات بوعي تام وشُدّدت لجعلهم يعانون بمرارة الآن".

يضيف معلقا على عقوبات الولايات المتحدة "لقد عانت كوبا من ذلك منذ اللحظة التي حصلت فيها على الاستقلال، ولكن من المدهش أنهم بقوا على قيد الحياة وبقوا صامدين وأحد أكثر العناصر سخافة لأزمة فيروس كورونا اليوم هو أن كوبا تساعد أوروبا. أعني أن هذا صادم لدرجة أنك لا تعرف كيف تصفه. لا يمكن لألمانيا مساعدة اليونان ولكن كوبا يمكنها مساعدة الدول الأوروبية. إذا توقفت عن التفكير فيما يعنيه ذلك، فستعجز كل الكلمات عن وصفه".

النيوليبرالية واقتصاد السوق يحكمان العالم!

يرى تشومسكي أن الأزمة الحضارية التي تلوح في الأفق قد تجعل الناس يفكرون جديا وبعمق في نوع العالم الذي نريده، ويردف أن التوجه الحالي إذا استمر، فإن جنوب آسيا ستكون غير قابلة للعيش في غضون عقود قليلة بسبب استمرار ارتفاع درجات الحرارة كما أن إمدادات المياه ستنخفض جراء الخطر النووي.

 "فيروس كورونا خطير للغاية ولا يمكننا الاستهانة به، لكن علينا أن نتذكر أنه جزء صغير من الأزمات الكبرى التي ستأتي تباعا. قد لا تُعطل الحياة إلى الحد الذي يفعله كورونا اليوم، لكنها ستعطل الحياة لدرجة جعل الأنواع تنقرض في المستقبل القريب."

إلى جانب ذلك، حلل العالم جذور هذه الأزمة قائلا: "علينا أن نفكر، لماذا توجد أزمة كورونا؟ إنه فشل هائل للسوق. الأزمة تعود بالأساس إلى النيوليبرالية الهمجية [2]، التي أزمت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. كان مرتقبا منذ فترة طويلة ظهور فيروس كورونا لأنه ناتج عن تعديلات طفيفة لوباء السارس. قبل خمسة عشر عامًا، تم التغلب عليه وحُدّد التسلسل الجيني للفيروسات المسؤولة وتوفرت اللقاحات، كان بإمكان المختبرات أن تعمل في جميع أنحاء العالم في الوقت المناسب على تطوير الحماية من وباء فيروس كورونا المحتمل. لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لأن شركات الأدوية التي لدينا سلمت مصيرنا للاستبداد الخاص الذي لا يخضع للمساءلة العامة. شركات الأدوية الكبرى فضلت صناعة كريمات جديدة للجسم. فذلك أكثر ربحية من العثور على لقاح يحمي الناس من الدمار الشامل".

كما أرجع تشومسكي ما حصل إلى انهيار الهياكل المؤسسية، متهما النيوليبرالية بتقزيم دور الحكومة في حل الأزمة الحالية "من المستحيل على الحكومة التدخل. أستطيع أن أتذكر جيدًا أن شلل الأطفال كان يشكل تهديدًا مرعبًا، انتهى باكتشاف لقاح القزم من قبل مؤسسة حكومية، انطلقت من قبل إدارة روزفلت. لا براءات اختراع. متاح للجميع. كان يمكن القيام بذلك هذه المرة، لكن الطاعون النيوليبرالي عرقل ذلك، فنحن نعيش في ظل أيديولوجية يتحمل الاقتصاديون جزءًا كبيرًا من مسؤوليتها".

وفي تعليقه على تسلط الشركات الكبرى وإخضاعها للحكومات "هذه الأيديولوجية التي قرأها رونالد ريغان من نص سلمته له الشركات قائلا إن الحكومة هي المشكلة. دعونا نتخلص من الحكومة، مما يعني، دعونا نسلم القرارات إلى الطغاة الخاصين، الذين لا يخضعون للمساءلة أمام الرأي العام. على الجانب الآخر من الأطلسي تاتشر كانت تعلمنا أنه لا يوجد مجتمع، فقط مجموعة من الأفراد في السوق من أجل البقاء بطريقة أو بأخرى".

في وصفه للمشهد الحالي وتأخر رد فعل المسؤولين، يؤكد تشومسكي "لا يوجد بديل، يعاني العالم في ظل الأغنياء، حُظِرالتدخل الحكومي المباشر على غرار لقاح القزم لأسباب أيديولوجية تنبع من الطاعون النيوليبرالي. كان من الممكن منع جائحة كورونا، فقد كانت المعلومات متاحة للقراءة. في الواقع كان الأمر معروفا جيدًا في أكتوبر 2019، قبل تفشي المرض. كانت هناك محاكاة واسعة النطاق لوباء محتمل من هذا النوع. لم يتم فعل شيء، والآن أصبحت الأزمة أسوأ بسبب خيانة الأنظمة السياسية. لم ننتبه إلى المعلومات التي كانوا على علم بها في 31 ديسمبر. أبلغت الصين منظمة الصحة العالمية بأعراض التهاب رئوي أسبابه غير معروفة. بعد أسبوع، حدده بعض العلماء الصينيين على أنه فيروس كورونا. وأُعطيت المعلومات الخاصة به للعالم، لكنهم لم يفعلوا أي شيء، حسنًا فعل البعض. تحركت دول المنطقة كالصين وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وعلى ما ويبدو أنها احتوت إلى حد ما، أول اندلاع للأزمة. حدث هذا في أوروبا إلى حد ما. دول أخرى تجاهلت الأزمة، وأسوأها المملكة المتحدة والأسوأ من ذلك كله هو الولايات المتحدة".

أولها "دولٌ وحشيّة".. ما هي خيارات ما بعد الأزمة؟ 

يرى المفكر أنه إذا تغلبنا على الأزمة فمرحلة 'ما بعد كورونا' ستضعنا أمام خيارات تتراوح بين إقامة دول وحشية شديدة الاستبداد أو إعادة بناء المجتمع جذريا واعتماد مصطلحات أكثر إنسانية معنية باحتياجات الإنسان، واعتبر الحالة الطارئة درسا للإنسانية وتحذيرا يدفعنا إلى التفكير في جذور الأزمة لمنع انفجار المزيد من الأزمات مستقبلا. 

 "يجب أن نضع في اعتبارنا أن الدول الأكثر استبدادية تتوافق تمامًا مع النيوليبرالية، في الحقيقة منظرو ودعاة النيوليبرالية كانوا سعداء تمامًا بالعنف الهائل الذي تمارسه الدولة طالما أنها دعمت ما أسموه الاقتصاد السليم.

عندما قام بينوشيه بتثبيت ديكتاتورية وحشية في شيلي، أحبوه، حاربوا جميعًا هناك. لذلك يمكن إعادة تثبيت النظام النيوليبرالي المتوحش من قبل الليبراليين الذين نصبوا أنفسهم بعنف قوي من الدولة. ولكن هذا ليس ضروري، هناك احتمال أن يُنظّم الناس أنفسهم ويصبحون منخرطين كما يفعل الكثيرون لمواجهة المشاكل الهائلة التي تعترض طريقنا كمشاكل الحرب النووية التي باتت أقرب من أي وقت مضى ومشاكل الكوارث البيئية التي لا يمكن التعافي منها. بمجرد أن نصل إلى تلك المرحلة سننتهي ما لم نعمل بحزم. لذا فهي لحظة حرجة من تاريخ البشرية، ليس فقط بسبب كورونا، ولكن يجب أن تطلعنا على الاختلالات العميقة للنظام الاقتصادي و الاجتماعي، الذي يجب معالجته إذا كانت هناك رغبة للبقاء في المستقبل".

في ظل التباعد الاجتماعي.. ما هو مستقبل المقاومة المجتمعية؟ 

ختم عالم اللسانيات اللقاء بالتأكيد على أهمية التواصل الافتراضي أثناء هاته الظرفية لتقريب الرؤى بين الأفراد وتوسيع نطاق التعاون من خلال اكتشاف إجابات للمشكلات التي تواجهنا "أولا وقبل كل شيء؛ يجب أن نضع في اعتبارنا أنه في السنوات القليلة الماضية كان هناك شكل من أشكال العزلة الاجتماعية الضارة للغاية. إن مبدأ تاتشر القائل 'لا يوجد مجتمع' قد تصاعد. سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي حوّل الناس إلى مخلوقات معزولة للغاية خاصة الشباب. نحن الآن في حالة عزلة اجتماعية حقيقية، يجب التغلب عليها بإعادة الروابط الاجتماعية بطريقة مغايرة وإيجاد سبل أخرى للاستمرار وتوسيع نطاق الأنشطة وتعميقها في عصر الأنترنت".