أتقن المغول فن الحرب الصاعقة في ثلاث صور (القوات المحمولة) واستخدام (الدروع البشرية) والحرب (البكتريولوجية) وكانت الثالثة أشدها تدميراً أفضت في النهاية إلى إفناء ربع البشرية يومها؛ ففي حصار أحد القلاع في القرم عام 1347 م التي تحصن فيها غزاة من أهل البندقية عمد التتار إلى رمي جثث القتلى المصابين بالطاعون بالمنجنيق على خصومهم المحاصرين. كان الرعب أشد من التحمل وهرب المذعورون ينقلون معهم على ظهور الجرذان (الموت الأسود) حيث تحركت السفن واستقبلت الموانيء في كل أوربا ومات يومها 25 مليون ضحية في أوروبا لوحدها. وفي عام 1918 انفجرت  (الإنفلونزا الإسبانية) فأصابت 700 مليون نسمة على امتداد قطر الأرض حصد فيها منجل الموت 20 مليون إنسان منهم 550 ألفاً في الولايات المتحدة الأمريكية وخمسة ملايين في الهند . فاجأت الجائحة الجنود الأوروبيين المتحصنين في خنادقهم مع مطلع عام 1918 م في ظروف الحرب العالمية الأولى، ولكنها حصدت خلال أشهر قليلة أكثر مما فعلت الحرب في أرواح البشر في خمس سنوات، ثم انسل الوباء كما جاء كالشبح .

   لمعرفة تطور الطب في القرن العشرين علينا رؤيتها في أربعة نماذج: وفيات الأطفال ومتوسط العمر ولجم الجوائح والانفجار المعرفي.

   في عام 1905 م مع انتشار الكوليرا في هامبورغ كانت المقابر تبلع كل يوم ألف جثة، ومن كل طفل أتى إلى العالم عام 1901 م خطف الموت في السنة الأولى منهم (20234) وكان متوسط عمر المرأة عام 1900 م 37 سنة والرجل 35 في الدول الصناعية ليصبح عام 2000 م 88 سنة للأنثى و80 للرجل بمط العمر نصف قرن من الزمان لكليهما، ما يعادل سدس عمر أهل الكهف بدون سبات عميق وكهف بارد يقلبون ذات اليمين وذات الشمال. 

وفي عام 1900 م كان عدد المعمرين في ألمانيا الذين وصلوا حافة المائة عام لا يتجاوز  40 شخصاً ليقفز اليوم إلى 7000 والتوقعات أن يصل الرقم عام 2050 م إلى مائة وخمسين ألفاً ؟ وهذا يدعونا إلى مقارنة عدد الأطباء ففي عام 1876 م بلغ عددهم في ألمانيا 334 معظمهم (ممارسون عامون) وارتفع الرقم عام 1900 م إلى 2000 طبيباً ليصبح عام 2000 م 130 الفاً نصفهم من الاختصاصيين مابين 38 فرع أساسي و22 تخصصاً فرعيا (SUBSPECIALITY) في أكثر من 4000 مشفى ومؤسسة طبية في نظام شركات تأمين صحية تغطي 98% من السكان في نظام محكم تدفع لليلة الواحدة في العناية المشددة 2500 يورو ويكلفها المريض المزمن سنوياً مائة ألف مارك، ويبلغ ما يصرف على الصحة سنوياً 500 مليار مارك مايعادل 10% من الإنتاج القومي بأكثر من 50 مرة مما كان يصرف عام 1901م، مقارنة بدول العالم الثالث التي تنفق معظم ميزانيتها على خردة السلاح، وتُقَصِّر عن تأمين اللقاحات الستة الأساسية لأشد الأمراض فتكاً من نموذج شلل الأطفال التي لاتكلف بمجموعها للفرد أكثر من دولار واحد. 

  في مطلع القرن عاش مجموعة من الرواد الرائعين في الطب من نموذج (فيرشوف) و(كوخ) و(باستور) و(شاودين) و(الزهايمر). 

  فيرشوف (RUDOLF VIRCHOW) قلب التصور الطبي رأساً على عقب وأسس علم (التشريح المرضي) واكتشف عشرات الأمراض ونشر أكثر من الفي بحث علمي وبقي حتى سن الثمانين يشتغل 16 ساعة يومياً في عشق لايذوي للمعرفة.

 و(كوخ) شق الطريق لمعرفة السل والكوليرا والطاعون، وطوَّر باستور اللقاحات وأرسى مفهوم التعقيم، ولم يكن للجراحة أن تتقدم إلا بساقين : التعقيم والتخدير. وكُشف الغطاء أمام عين ( فريتس شاودين FRITZ SCHAUDIN) ليبصر (اللولبية الشاحبة) أفعى الزنا مسببة مرض الزهري، الذي عس في أدمغة ومفاصل المصابين مايزيد عن أربعة قرون . وأما لويس الزهايمر (LOUIS ALZHEIMER) فتوصل إلى تحديد مرض العته الذي يحول الذاكرة إلى حطام الهشيم وأصبح المرض مرتبطاً باسمه . فيرشوف مات بكسر عنق فخذ بعد سقوط ( وهو ما أتذكره أنا شخصياً لجدي وجدتي) وشاودين بخراج شرجي عن عمر 35 سنة، والزهايمر بقصور كلوي عن عمر 53 سنة . واليوم يعالج كسر الفخذ بصفيحة وبراغي، واكتشف البنسلين صدفةً البريطاني ( فلمنغ ALEXANDER FLEMING ) عام 1928 م، ورُكِّب أول مفصل صناعي للمفصل الحرقفي الفخذي ( TEP ) عام 1961 . وتم استخدام أول كلية صناعية في أمريكا عام 1943 م. 

 كان الناس يموتون من انفجار ( زائدة دودية ) واليوم يجري الجراحة العصبية المعقدة ( روبوتات ) بدقة أجزاء من الملمتر، بيد لا تعرف الاهتزاز ، وببنية فولاذية لا يمسها نصب أو لغوب في ساعات متواصلة من العمل الشاق بدون استراحة وفنجان قهوة، وفي المستقبل سيبقى الجراح خارج قاعة العمليات يراقب المخلوقات الحديدية الجديدة وهي تنجز عملها لاتريد جزاءً ولا شكورا ولا تفهمهما. ويتم حالياً تطوير جراحة الجينات ، ويشق الطريق لمعرفة كامل ( الكود الوراثي ) عند كل المخلوقات بما فيها الإنسان في مشروع ( هوجو ) في نفس مكان ولادة السلاح الذري للقنبلة البيولوجية.  

  في مطلع القرن كانت الأمراض الانتانية تحصد الأرواح واليوم تم استئصال تحييد أمراض بأكملها من خلال اللقاحات مثل ( السل والكزاز ) وتم الاحتفال بتطهير الأرض من مرض (الجدري) فلم يبق إلا في الحاويات السرية في المؤسسات الطبية أو للاستخدام العسكري في حروب الهول الأعظم؟ 

وفي الوقت الذي بقي مسبب الإفرنجي مجهولاً ما بين اندلاعه عام 1496 م واكتشافه من (شاودين) عام 1905 م لفترة أربعة قرون والسيطرة عليه بالبنسلين في الخمسينات ؛ فإن فيروس الإيدز لم تتطلب تحديد هويته أكثر من أربع سنوات في ضغط للزمن مائة مرة ؟ وفي الوقت الذي طحن الزهري عظام البابا (الكسندر السادس) وافترس دماغ الفيلسوف (نيتشه) فأودى به إلى الجنون، وعطب نخاع الشاعر (هاينكه) فأصيب بالشلل، بدون معرفة السبب أو تطبيق العلاج . في غياب أي جو علمي إلا الدجل والشعوذة؛ فإن الأدوية المتاحة اليوم لعلاج مالايقل عن عشرين ألف مرض، يسببها خمسين ألف نوع من الفصائل الجرثومية والحمات الراشحة تزيد عن 80 ألف دواء. 

   وفي الوقت التي كانت أساطير القديسين تتكلم عن زرع الأعضاء تحوَّل الأمر اليوم إلى روتين ؛ فيزرع في ألمانيا سنوياً ( 3918 ) عضواً بين كلية وكبد وبانكرياس منهم 542 قلباً في عمل أقرب إلى المعجزة. 

   تم هذا الانفجار المعرفي في تطوير ( زراعة الأعضاء ) على يد جراح مغمور في جنوب أفريقيا هو كريستيان برنارد (CHRISTIAN BERNARD) عام 1967 م، الذي سلط عليه زملاءه كل أساليب التحقير والتشهير من منافسيه في المهنة بما فيهم حملة جائزة نوبل للطب بعد موت مريضه الأول (لويس واشكانسكي LOUIS WASHKANSKY) بـ 18 يوماً، انتزع له قلباً شاباً من فتاة تمت زراعته في صدره بنجاح ، ولكن كما يعلمنا القرآن أن الزبد يذهب جفاء وماينفع الناس يمكث في الأرض، فقد انعقد لسان الحساد واختفى المعارضون أمام وهج عمله، خاصةً بعد تطويع الجسم بمادة (السيكلوسبورين) لمشكلة رفض الجديد ، كما رفض معارضوه فكرته في زرع الأعضاء ؛ فرفض الجديد بيولوجي واجتماعي بنفس الوقت كما نرى. وعاش (ايمانويل فتريا EMMANUEL VITRIA) بعد زرع القلب في صدره 19 عاماً (1968 حتى 1987 م) أكثر من عمر جراحه الذي نفحه بهذه الهبة، ويتهيأ الجراح الأمريكي (روبرت وايت ROBERT WHITE) للقفزة الكبرى بزرع (رأس إنسان) كامل بعد أن نجح فيها عام 1999 م على رؤوس القرود. 

 العلم ذو طبيعة تقدمية، له ناظم أخلاقي ذاتي، ينمو بآلية الحذف والإضافة والتراكم المعرفي، ويزدهر في جو العقلانية والتفكير بدون قيود، ويدعم بالإنفاق المالي ، ويحصد الكثير في صدف بحتة في جو عمل ملتهب.